بعد موجة التهجير القسري التي أخرجت المعارضة وحواضنها الشعبية من أرياف دمشق، علّقت المنظمات الإنسانية غير الحكومية أعمالها في الريف، وتوقفت عن دعم معظم موظفيها السابقين بعدما باتوا في إدلب. بين تظلّمات الموظفين السابقين، الذين ازدادت أوضاعهم المعيشية سوءاً منذ التهجير، وبين الردود القانونية المُحقة للمنظمات، تظل المسألة نقاشاً في الحيّز الأخلاقي والإنساني.
كمال جمال الدين، 30 عاماً، من عين الفيجة في ريف دمشق، كان قد عمل مع “وحدة التنسيق والدعم” كباحث وجامع بيانات لأكثر من عام، قبل خروجه مصاباً مع قافلة المُهجّرين.
وتعرّف “وحدة التنسيق” عن نفسها بأنها “مؤسسة سورية وطنية غير حكومية، غير سياسية، غير ربحية، تعمل على مضاعفة الأثر للمساعدات المقدمة للشعب السوري عبر تنسيق الجهود بين المانحين والوكالات التنفيذية والشركاء المحليين”.
جمال الدين قال لـ”المدن”، إنه تعرض للإصابة أثناء قيامه بعمل خاص بـ”وحدة التنسيق والدعم” في عين الفيجة، وبعد خروجه إلى إدلب استمرت إدارة العمل بالتواصل معه وسلمته راتبه ومنحة مادية عن 3 شهور، بالإضافة إلى أوراق تثبت عمله مع المنظمة، قبل أن يصل إلى تركيا لتلقي العلاج. ويؤكد جمال الدين، أنه وبعد وصوله إلى تركيا لتلقي العلاج غير المتوفر في إدلب، لم تعد المنظمة مسؤولة عنه لـ”انتهاء العقد قانونياً”.
مدير “وحدة الموارد البشرية” في “وحدة تنسيق الدعم” ماهر تيسير، قال لـ”المدن”، إن الوحدة تلتزم بتأمين فرص عمل لكافة موظفيها، الذين تهجروا من المحافظات السورية، شريطة تواجدهم ضمن الأراضي السورية، وبحسب توفر الشواغر، وتبقى أولوية التوظيف للعاملين السابقين مع الوحدة بحسب توافر المهارات المناسبة لفرصة العمل.
تيسير قال لـ”المدن” إن جمال الدين، عمل لدى “الوحدة” كباحث ميداني في سوريا، إلى جانب عمله مع جهات أخرى في الوقت ذاته، وقد كانت مسيرة عمله مثمرة. وأشار إلى أن جمال الدين، أصيب أثناء الحملة العسكرية على عين الفيجة، مكان عمله، وقد تم تهجيره قسرياً مع سكان المنطقة، إلى محافظة إدلب. وقد التزمت “الوحدة” بدفع رواتبه طوال فترة تواجده في سوريا. إلا أن دخوله للأراضي التركية دفع “الوحدة” لإنهاء عقده، ودفعت كافة مستحقاته المالية، بالإضافة إلى رواتب 3 شهور إضافية، كما تم تزويده بكافة الوثائق التي تثبت تفاصيل عمله لدى “الوحدة” والتي تثبت خبرته وتسهل عمله لدى أي جهة قد تطلب المرجعية.
قصة أخرى مماثلة، رواها لـ”المدن” شادي، الذي كان يعمل قبل العام 2014 في “هيئة القمح والأفران” في حمورية من الغوطة الشرقية، قبل أن يتحوّل اسمها إلى “مركز ريف دمشق” التابع لـ”وحدة تنسيق الدعم”، التي باشرت عملها بشكل فعلي في شباط/فبراير 2014. توصيف شادي الوظيفي كان رئيس حرس للمركز، لكنه عمل أيضاً كإعلامي ومصور وموثق ومُدخِلُ بيانات لـ”المركز”. في البداية كان الراتب الشهري لشادي 100 دولار، وقبل حوالي 4 شهور على التهجير القسري، مطلع العام 2018، ارتفع إلى 149 دولاراً.
يقول شادي لـ”المدن”: “كنا نتحمل ضغوط العمل والمخاطر الكبيرة التي تحيق بنا، ومع تهجيرنا في نهاية آذار، تواصلت مع إدارتي لمعرفة مصيري وما إذا كنت سأستمر بعملي أم لا، فتلقيت رداً من المدير المالي بأن المركز سيفتح في مدينة الأتارب في ريف حلب الغربي”. واستمرت الوعود حوالي 4 أشهر، ومن ثم أبلغوا شادي: “لا يوجد لك عمل”. شادي أكد أنه تلقى مبلغ 300 دولار خلال التهجير، وراتب شهر واحد، كبدل سكن.
مدير المركز والمدير المالي، ما زالا على رأس عملهما في الشمال السوري في مراكز تابعة لـ”وحدة تنسيق الدعم”، بحسب شادي، في حين أنه وزملاؤه فقدوا عملهم.
مدير “وحدة الموارد البشرية” في “وحدة تنسيق الدعم” ماهر تيسير، قال في ايميل رداً على تساؤل “المدن”: “عمل السيد شادي مع وحدة تنسيق الدعم في مشروع القمح في غوطة دمشق، عند تهجير غوطة دمشق خرج مع المهجرين وتوقف المشروع الذي يعمل فيه، مما اضطر وحدة تنسيق الدعم لإنهاء عقد عمله بعد تسليمه كافة مستحقاته المالية ومبلغاً نقدياً كتعويض آجار سكن لمدة 3 أشهر، وراتب إضافي”.
القصة ليست حكراً على “وحدة تنسيق الدعم”، فعملية إلغاء عقود الموظفين عند تغيّر الأوضاع على الأرض أو التهجير، تكررت مع منظمات أخرى، مثل هي “الجمعية الطبية السورية الأميركية” المعروفة بـ”سامز”.
المدير الفني للمستشفى الميداني في مدينة الزبداني “أبو نضال السوري”، قال لـ”المدن”، إن الكادر العامل في المستشفى كان مؤلفاً من 9 أشخاص، ما بين ممرضين وأطباء وفنيين، وقد تلقى الدعم من منظمات كـ”أطباء بلا حدود”، حتى دخول منظمة “سامز” لدعم المشفى، منتصف العام 2013، وتثبيتها عقود عمل للكادر كاملاً، محتفظة بها لنفسها، بالتوافق مع إدارة المستشفى الطبية والفنية.
و”سامز” هي الجمعية الطبية السورية الأميركية، تعرف عن ذاتها بأنها “منظمة إغاثية طبية غير سياسية وغير ربحية، تعمل في الخطوط الأمامية لإغاثة المحتاجين خلال الأزمات”.
وأضاف “أبو نضال” لـ”المدن”، إن العمل استمر بدعم من “سامز” حتى دخول اتفاق المدن الأربعة حيّز التنفيذ، ليتوقف دعمها ونشاطها بشكل كامل مع المستشفى، بسبب ما قالت “سامز” إنه “عدم وجود مدنيين داخل المدينة، التي تضم عسكريين فقط”، رغم أن الزبداني معروفة بأنها منطقة عسكرية منذ بدأت المعركة فيها منتصف العام 2015، بحسب “أبو نضال”.
ومع وصول الكادر الطبي إلى إدلب، قُطع التواصل مع “سامز”، و”لم تعد تأبه بأحوالنا على اعتبار أن صلاحية ملف المدينة قد انتهى”، بحسب “أبو نضال”.
مصدر مطلع من مشفى بلدة مضايا، قال لـ”المدن”، إن دعم المشفى لم يكن ثابتاً، ولم تكن هنالك أي عقود، بل “وصول استلام موقعة من مسؤول التواصل” وتوثيقات تثبت استلام الكوادر للرواتب. وأشار المصدر إلى أن “سامز” دخلت على خط دعم العمل الطبي في مضايا، “مستغلة الحملة الإعلامية التي انطلقت مناصرة للبلدة”، مع العلم إنها “لم تكن تعطي أي اهتمام لمضايا قبل ذلك”.
وأضاف أن “سامز” بدأت جمع تبرعات لصالح العمل الطبي في مضايا، واستمرت بالتعاون حتى إخلاء المعارضة من مضايا باتجاه الشمال، عندما قطعت التواصل مع جميع العاملين، باستثناء “طالب طب أسنان كان يعمل ضمن المستشفى، وقد تعرف الإعلام عليه بصفة مندوب في المنطقة، في فترة الحصار”. يتابع المصدر إن “سامز” سهلت أمور طالب الطب بالعبور إلى تركيا بعد يومين من وصوله إلى إدلب، بهدف تمثيل المنظمة في حفل توزيع جوائز “الأورورا” كمرشح عنها، وتسعى لنقله إلى أميركا عبر منحة تعليمية خاصة. ولم تكترث “سامز” بحسب المصدر لبقية الكادر، ولم تقدم لهم أي خدمة، رغم أنها تموّل عشرات المشافي في الشمال السوري.
الطبيب في مجلس إدارة “سامز” أمجد راس، قال لـ”المدن”، إن المنظمة قطعت الدعم عن مستشفى الزبداني لأن “المدينة أُخليت بشكل كامل من المدنيين، والمنظمة أسست لخدمة المدنيين”. ومضايا “استنفذت الدعم المخصص لها”. وعن عدم متابعة كوادر مشفيي مضايا والزبداني بعد وصولهم إلى الشمال، قال راس إن “سامز ليست الدولة لتساعد وتوظف كل الكوادر فالإمكانيات محدودة والدعم يأتي للمناطق اسعافي، ومشافي الشمال لا تستطيع استيعاب الجميع”.
وأضاف راس، أن طالب الطب الذي ساعدته “سامز”، كان من الأصوات الإعلامية في المنطقة، وقد ساهمت “سامز” في إخراجه لإيصال رسالة المنطقة إلى العالم، و”لا أهداف شخصية للمنظمة بمساعدته للسفر إلى تركيا.. وهي لا تستطيع مساعدة الجميع وإخلاء البلاد من الكوادر”.
مدير “المركز السوري للحريات الصحفية” في “رابطة الصحافيين السوريين” القاضي إبراهيم حسين، قال لـ”المدن”: “لا بد من الرجوع لمضامين العقد ذاته بين الموظف والجهة العامل لديها، حتى نستطيع تحديد الالتزامات المترتبة على الطرفين، والمسؤولية القانونية للمؤسسة جراء إنهائها للعقد بسبب ظروف التهجير”.
وأضاف: “بالرغم من وجود الظروف القاهرة أو الطارئة والتي تعفي من المسؤولية القانونية أحياناً، إلا أنه في مثل هذه الأوضاع التي يمر بها العاملون في منظمات المجتمع المدني والمؤسسات الإعلامية وخاصةً التهجير من مناطقهم بعد حصار قاس والمخاطر الكبيرة التي تعرضوا لها أثناء تأدية عملهم، فإن هناك نوعاً من الالتزام الأخلاقي على المؤسسات تجاه موظفيها بغض النظر عن الالتزام القانوني والعقدي، ويفترض بها أن تقوم بتعويضهم إن لم تكن هناك إمكانية لاستمرارهم في العمل لمصلحتها وخاصةً أن المتطلبات المعيشية بُعيد التهجير وقلة فرص العمل يجعل وضع هؤلاء سيئاً جداً”.
بين قوة العقود القانونية التي وقعها الموظفون في مناطق الحصار مع المنظمات الإنسانية غير الحكومية، وبين مصائر الموظفين اللاحقة للتهجير، يبدو القانون بمصلحة تلك المنظمات. لكن، لا بد من التساؤل اليوم، عن شرعية تلك المنظمات الخارجية في البحث عن مواضيع لتمويلها، ثم التوقف عند تغيير الظروف، في حين أن الأزمة مستمرة وكذلك المعاناة.
المصدر: المدن