لو افترضنا جدلاً وجود أوباما على رأس الإدارة الأمريكية، وأنه هو من اتخذ قرار الانسحاب من شرق سوريا معلناً إنجاز مهمة قواته، فلن نحظى قطعاً بردود الأفعال التي رافقت القرار ذاته الذي اتخذه ترامب. لن يُنظر إلى القرار “لو اتخذه أوباما” كنزوة شخصية من صاحب مزاج هوائي، أو من شخص يشكك الإعلام الأمريكي في كفاءة قواه الذهنية. لن تندر في هذه الحالة التحليلات الموسعة والمعمقة عن كون القرار استكمالاً لسياسته في العزوف عن منطقة الشرق الأوسط والتوجه إلى شرق آسيا، وبالطبع لن تدور الشبهات حول علاقة خاصة تربطه بموسكو، أو حول مصالح تجارية شخصية هنا أو هناك.
ما يشجع على طرح الافتراض السابق هو وجود مقدّمات قوية ليفعلها سلف ترامب، ربما على نحو أقل خفة فلا يصدر قراره على تويتر. عدم إبلاغ مسؤولين كبار في الإدارة بنواياه، على نحو ما فعل ترامب، لن يكون نقطة افتراق بين الرجلين، فأوباما أيضاً ظهر في أكثر من مناسبة تخص الملف السوري كصاحب قرار متفرد أو متسلط، وبينما كانت تصريحات وزيري خارجيته على التوالي تذهب في اتجاه كان يفاجئ الجميع بالمضي في اتجاه آخر. ينبغي ألا ننسى أنه فاجأ أركان إدارته بصفقة الكيماوي مع بشار الأسد، وألا ننسى ما نُقل عن تلهيه بجهاز الآيباد عندما كان يُطرح الملف السوري في مناقشات مجلسه للأمن القومي كرسالة مزدوجة للحاضرين تتضمن عدم اكتراثه ورغبته في الاستئثار بالقرار.
التدخل العسكري الروسي في سوريا أتى في عهد أوباما، وكذلك أتى قبله التدخل الإيراني، وفي المرتين بموافقة أمريكية. في بعض المناسبات، عندما سُئل أوباما من قبل الإعلام عن سبب إحجامه عن التدخل في سوريا كان يقدّم إجابات من نوع: لماذا نتدخل ما دام المتطرفون من جميع الأطراف يتقاتلون ويخسرون؟ أو من نوع: لماذا لا يقوم الذين يطالبوننا بالتدخل بذلك بأنفسهم ولماذا نقاتل نيابة عنهم؟ رغم معرفتنا آنذاك بلجم إدارته قوى إقليمية متحفزة لإسقاط بشار، ودور مخابراته في تقنين الدعم للفصائل المحلية، مع الإصرار على “الحل السياسي” الذي يعني تغييراً في النظام لا تغييره كما يطالب السوريون.
من هذه الناحية لا يضيف ترامب جديداً على سياسات سلفه، باستثناء نزوعه الشخصي إلى الاستعراض أو الابتذال. هو أحياناً يكرر عبارات أوباما بصياغة المقاول نازعاً عنها صبغة الحنكة السياسية المزعومة، بالتعبير التراثي العربي القديم هو “يهلهل” تلك البلاغة السياسية فحسب، وهذا في الأصل من الأسباب القوية لنجاحه في الأوساط الشعبوية. يبقى المغزى الأهم أننا نجد تقاطعاً عملياً بين واحد من أفضل الرؤساء الديموقراطيين ونظيره الجمهوري الذي لا يندر أن يُوصف بالأسوأ على الإطلاق، وأن يُقال الشيء ذاته بصياغتين مختلفتين فذلك نوع من التأكيد على توجه موجود وقوي في أوساط الديموقراطيين والجمهوريين معاً، مثلما نجد خصوماً لهذا التوجه في المعسكرين. ربما، كل ما في الأمر، أن الانسحاب الأمريكي في عهد أوباما كان أكثر رصانة، وأكثر بعداً عن منطق الابتزاز المالي العلني، لكنه لم يكن بعيداً دائماً عن منطق الصفقات القذرة كما حدث في صفقة الكيماوي.
المسألة لا تتعلق بشرق سوريا فقط، فالانسحاب الأمريكي بدأ عملياً منذ تسليم العراق لطهران مع انحسار تأثير المحافظين الجدد في واشنطن. تجربتا العراق وأفغانستان، التي لا تريد نسبة ضخمة من الأمريكيين تكرارهما، هما مثال على التقدم الأمريكي خارج مناطق النفوذ التقليدية الموروثة من حقبة الحرب الباردة. وفق نمط التفكير السائد لدينا، والذي يعود في جزء منه إلى الحقبة نفسها، سيبدو مستغرباً ذلك الإحجام الأمريكي عن الهيمنة المباشرة المتاحة بسهولة، ففي العقل السائد لدينا صورة أمريكا ذات النزوع المطلق إلى السيطرة، سواء أتت تلك الصورة من بوابة العداء لها، أو من نافذة التمني.
نستطيع الآن استذكار عقد كامل، منذ بدء ولاية أوباما الأولى، من محاولات عربية لـ”توريط” الإدارة الأمريكية في شؤون المنطقة، ورغم ما بدا من نجاح نسبي صغير هنا أو هناك بقيت السمة العامة للسياسة الأمريكية هي عدم الانخراط في المنطقة كما يشتهي كثر. الرهان المضمر الدائم كان أن أمريكا تتمنع وهي راغبة، وأنها تحتاج إما إلى ذريعة مناسبة أو إلى “مَهر” غالٍ! احتمال أن تكون أمريكا لا تريد هذا أو ذاك لم يُطرح بجدية مناسبة طيلة هذه الفترة، ولا نعدم الآن “مع تأكيدات ترامب على سياسة الانسحاب” تلك التحليلات العربية التي تصرّ على خطأ القرار وتتنبأ بالتراجع عنه، وحتى التركيز على خفة ترامب ومزاجيته يحدوه أمل ما بتراجع سريع لتبقى صورة أمريكا كما هي راسخة من قبل.
في الذاكرة الأمريكية درس فيتنام ثم درس العراق وأفغانستان، بينما لا يوجد في الذاكرة العربية أي درس، بما في ذلك درس العراق حيث لم يكن هناك انخراط عربي موازٍ للغزو الأمريكي، بل تُرك الأمر برمته لعهدة الإدارة الأمريكية والتمدد الإيراني الذي سيصبح الشريك الوحيد على الأرض. الحرب في سوريا لم تقدّم مثالاً أفضل عن القيادات العربية التي أغرقت نسبة كبيرة من الفصائل بأموالها وفسادها وخلافاتها المستمدة من الخلافات العربية، والحرب على الحوثيين بدورها لم تقدّم مثالاً على حرب ذكية تُدار بأعلى من قدرة الخصم على استنزاف القوات المهاجمة. وبينما التقطت قوى إقليمية أخرى إشارة الموافقة الأمريكية على التدخل الروسي اعتبرت القيادات العربية تلك الموافقة قدراً ينبغي الانصياع له، فلم نجد منها حراكاً يماثل الحراك التركي أو الإسرائيلي، رغم أن التدخل الروسي لا يخفي أبعاده الاستراتيجية ومطامعه في ملء فراغ أي انسحاب أمريكي.
قد لا نكون اليوم إزاء انسحاب أمريكي شامل من المنطقة، هذا لا يلغي الفكرة من حيث المبدأ، ولو خضعت أحياناً للتجاذبات الداخلية الأمريكية، وأحياناً أخرى لمتطلبات الابتزاز الخارجي. ينبغي ألا ننسى وجود قوى دولية وإقليمية متحفزة لملء الفراغ، وهي التي ستتولى المفاوضات مع واشنطن لتنظيمه إذا حدث، ولتنسيق المصالح مع واشنطن التي لن ترحل نهائياً بل ستبحث عن شركاء محليين يضبطون إيقاع المنطقة ويعفونها من الانشغال بتفاصيلها. السؤال الذي لا تتحمل مسؤوليته قيادات عربية نعرف مدى تهافتها، السؤال الموجَّه إلى عقولنا أيضاً هو: ماذا سنفعل بدون أمريكا؟ وربما: ماذا نفعل كي لا يكون رحيلها أكثر كارثية من وجودها؟
المصدر: المدن