د معتز محمد زين
على مدى العقود القليلة الماضية حصلت العديد من التجارب الديمقراطية المتواضعة في المنطقة العربية حيث أُفسح المجال فيها بشكل حقيقي لانتخابات نزيهة يختار فيها الشعب ممثليه بحرية لقيادة البلد.. كانت النتيجة غالبا وصول الحركات الإسلامية للحكم على الرغم من حملات التشويه الإعلامي الممنهجة ضد هذه الحركات.. حصل ذلك في الجزائر والمغرب وتونس ومصر وفلسطين وأعتقد أن النتيجة مرشحة للتكرار في أي بلد عربي أو إسلامي تجري فيه انتخابات ديمقراطية حرة ونزيهة.. وعلى الرغم من أن معظم هذه التجارب قد تم اجهاضها والالتفاف على نتائجها بطريقة ما من قبل قوى داخلية مدعومة خارجيا من جهات تقرأ المسائل بشكل استراتيجي وترتعد فرائصها من فكرة وصول الإسلاميين إلى الحكم واستقرارهم فيه وتمكنهم من اتخاذ قرارات مستقلة تخدم بلادهم وشعوبهم خاصة أن التجربة التركية ما تزال حاضرة أمامهم كنموذج يخشون تكراره واستنساخه في المنطقة ، إلا أن تلك القوى تدرك تماما أن تكرار التجربة الديمقراطية سيقود إلى ذات النتائج رغم كل الضغوطات والتضييق ومحاولات التشويه الذي تتعرض له الحركات الإسلامية النشطة والمنظمة ، ورغم الاضطهاد الذي يتعرض له أعضاؤها و منظريها أو حتى المتعاطفون معها .. والسبب في ذلك يكمن في أن تلك القوى ومن ورائها الغرب ” الصليبي ” المتربص والمتخوف من أي نهضة حضارية حقيقية في المنطقة وعلى الرغم من امتلاكها القوة العميقة الفاعلة – الأمن والجيش والاعلام والقضاء والاقتصاد – في البلاد إلا أنها فشلت حتى اللحظة في التغلغل اجتماعيا وثقافيا ووجدانيا في مجتمعاتنا واستقطاب عواطف شعوب المنطقة وميولها بعيدا عن العاطفة الدينية والميل الفطري للتدين المتجذر عميقا في وجدانها وعقولها ..
يقول راشد الغنوشي: ” نحن الإسلاميون فقراء من حيث القوة الصلبة (المال، الاعلام، القضاء، الشرطة، الجيش، الاقتصاد، الفن) لأننا لم نأخذ وقتنا، خرجنا من السجون وعدنا من المهاجر واختارتنا الناس بالعواطف، فكيف لنا أن نحكم بهذا الغثاء العاطفي، فالنخب هي التي في أيديها كل شيء “.
أتفق مع الأستاذ راشد الغنوشي في ضرورة السعي نحو امتلاك القوة الصلبة ولكن دون التقليل من أهمية القوة الناعمة والميل العاطفي نحو التدين ووصفه بالغثاء.. إن السعي نحو استحواذ القوة الصلبة هو خطوة صحيحة ولا بد منها للسير بالمشروع الإسلامي الإنساني الحضاري الذي يسعى لتحقيق العدالة والمساواة والرقي والتقدم على كافة المستويات وبما يخدم جميع المواطنين على اختلاف انتماءاتهم ومشاربهم.. إلا أننا ندرك جيدا أن امتلاك مثل هذه القوة من قبل الحركات الإسلامية هو خط أحمر حقيقي لدى الغرب وأعوانه في المنطقة المتضررين – بطريقة ما ولسبب ما – من وصول الإسلاميين إلى سدة القرار ، وأنهم مستعدون أن يخوضوا حروبا ويدوسوا على كل مبادئهم وشعاراتهم ويتحالفوا مع أشد منافسيهم للحؤول دون تحقيق هذا الهدف في المنطقة العربية خاصة بعد معاينة التجربة التركية والنهضة الاستثنائية التي حصلت في تركيا على كافة المستويات بعد استلام العدالة والتنمية الإسلامي الحكم فيها والتي أبهرت حتى أعداء الخط الإسلامي إلى درجة كسب أصوات شرائح واسعة من الملحدين والعَلمانيين في الانتخابات .. الأمر الذي يجعل امكانية الاستحواذ على القوة الصلبة صعب للغاية في هذه المرحلة ويحتاج الكثير من الصبر والدهاء والتخطيط بعيد المدى ريثما تحين الفرصة المناسبة لتحقيق هذا الهدف.. وحتى تحين تلك اللحظة لا بد من الحفاظ على القوة الناعمة المتمثلة بالعاطفة الدينية والوعي الجمعي والتعاطف الجماهيري مع هذا المشروع لأنها الضامن الأساسي لعودة الانبعاث من جديد..
لا يخلو مجتمع على وجه الأرض من مظاهر الانحلال الأخلاقي والتصرفات العدوانية والاتجاهات الشاذة – فكريا وسلوكيا – بما في ذلك المجتمعات الإسلامية، وهذا أمر طبيعي ولا يدعو للقلق طالما أن عموم المجتمع يرفضها ويستهجنها ويحاصرها، لكن المشكلة تكمن عندما تتحول هذه التصرفات الشاذة إلى ثقافة عامة مقبولة اجتماعيا وتصبح مكونا أساسيا من مكونات المجتمع وملمحا مهما من ملامحه.. وهذا بالتحديد ما يجري العمل عليه في هذه المرحلة من قبل العديد من الجهات والقوى المحلية والخارجية..
من أجل ذلك فإن تلك القوى تعمل اليوم على تغيير الوعي الجمعي في المجتمعات الإسلامية منعا للوقوع في الاحراج من نسف نتائج أي انتخابات يصل فيها الإسلاميون للحكم عبر صناديق الاقتراع.. إن الغرب – وأدواته – وقد امتلكوا القوة الصلبة في المنطقة يعملون اليوم على محاولة امتلاك القوة الناعمة فيها والتحكم بعواطفها وتوجهاتها. إنهم يعملون بجد على تجفيف مصادر الطاقة الاجتماعية والسيل البشري الداعم للحركات الإسلامية عبر استهداف الثقافة الإسلامية الاجتماعية وتشويه الأخلاق الإسلامية السائدة وتصحير العاطفة الدينية في المجتمعات الإسلامية ما يعني ظهور جيل جديد لا يهتم لدين ولا يلتفت لقيم ولا يقدس مبادئ.. جيل استهلاكي فارغ لا يعنيه سوى اشباع غرائزه وتلبية احتياجاته وتحقيق رغباته بعيدا عن أي ضوابط أخلاقية أو محرمات اجتماعية وهنا مكمن الخطر ..ولعلي لا أستبعد أن يكون هذا الهدف واحدا من أسباب استقبال أعداد كبيرة من المهجرين وتأمين مستلزمات حياتهم في الدول الغربية تهيئة لمرحلة مقبلة يعاد فيها الجيل الصاعد والذي تربى في مدارس الغرب وتشرب قيمها الاجتماعية البائسة إلى بلادهم بأفكار جديدة وثقافة غريبة وأسلوب حياة مختلف تتصادم مع قيم مجتمعاتها وتحدث فيها هزة داخلية قوية على مستوى بناء الاسرة والقيم الاجتماعية والأخلاق العامة التي تشكل العامل الأهم في تماسك المجتمع وتشكيل الوعي الجمعي لدى أبنائه .
هناك محاولات حقيقية لضرب البنية التحتية الأخلاقية لمجتمعاتنا ، وتقويض الشعور الديني فيها ، ونشر مظاهر التحلل الأخلاقي والعلاقات الشاذة والأفكار الغريبة على أنها مكون طبيعي من مكونات المجتمع الإسلامي واسقاط قدسية القيم والمبادئ بطرق مختلفة منها اسنادها إلى غير أهلها – كأن تعطى جائزة الام المثالية في بلد فيه آلاف الأمهات المناضلات لراقصة أو يتم تكريم ساقطة على أنها نموذج للمرأة المسلمة وغيرها من الأمثلة الكثيرة – و فتح المجال أمام كل حالات الشذوذ للظهور الإعلامي في ذات الوقت الذي يتم فيه التضييق إعلاميا على المفكرين المعتدلين والإسلاميين المنفتحين والادباء الشرفاء وأصحاب الرأي الحر ، ومنع ظهورهم وطرح أفكارهم إلا ضمن إطارات محددة مرسومة وعلى نطاق ضيق ..
ومن ناحية أخرى هناك محاولات حثيثة عبر الاعلام والدراما لتدمير بناء الاسرة وتهديد تماسكها والتركيز على تفككها وإشاعة جو من عدم الثقة الدائمة بين أفرادها ومحاولة جرها نحو النموذج الغربي المفكك واللاإنساني في جوانب كثيرة منه – كعدم وجود أي التزام قانوني أو اجتماعي من الأبناء تجاه الوالدين الكبيرين بالسن في ذات الوقت الذي يوجب القانون على الوالدين الكثير من المهمات تجاه أطفالهما – والذي أدى تدريجيًا إلى نشوء ثقافة جماعية بضرورة اشباع الرغبات بعيدا عن تكوين الاسرة والانجاب وتحمل المسؤولية تجاه أفرادها.. كما امتلأت وسائل الاعلام والمسلسلات والبرامج التلفزيونية المباشرة بالكثير من الايحاءات التي تحقر مظاهر التدين الاجتماعي وتسخف من طروحاته وتدعو إلى التمرد عليه، وتظهر المتدين غالبا بمظهر المتطرف – شكلا ومضمونا – أو المتخلف – فكرا وسلوكا -. كل ذلك بهدف تغيير الوعي الجمعي واضعاف العاطفة الدينية لدى شعوب المنطقة..
بناء على ذلك فإن المرحلة المقبلة تتطلب جهدا كبيرا من جميع المؤسسات والشخصيات الإسلامية تتركز على صناعة الوعي الجمعي وتقوية العاطفة الدينية وتعميق الشعور بالانتماء لهذه الثقافة وهذه المبادئ وهذا التراث.. و من أجل تحقيق هذا الهدف الاستراتيجي لا بد من تضافر جهود القوى الإسلامية والشخصيات الإسلامية الوازنة والحركات الإسلامية والشخصيات السياسية المتعاطفة مع الخط الإسلامي بهدف انشاء مراكز أبحاث تضم العديد من المتخصصين في علم الاجتماع والتاريخ والفكر الإسلامي والباحثين الاستراتيجيين لوضع خطط بعيدة المدى اجتماعية وثقافية وفنية لمواجهة الخطط الغربية والمحلية التي تستهدف المشروع الإسلامي اليوم في عمقه الثقافي والاجتماعي والوجداني.. وبما أن الاعلام يلعب الدور الأبرز في تشكيل الوعي الجمعي فإن واحدا من أهم ملامح المعركة المقبلة والتي ينبغي على مراكز الأبحاث هذه أن تخوضها بحرفية هي المعركة الإعلامية.. لا بد في هذه الحالة من العمل بجدية من أجل انشاء قنوات فضائية والكترونية مهنية تستقطب العقول الدينية البارزة والمنفتحة على ثقافة العصر واحتياجات الجيل والتقنيات الحديثة، والإفادة من وسائل الاعلام والاتصال الحديثة من أجل تقديم الإسلام الأخلاقي بصورة ذكية وجذابة.. ولا بد من اقتحام ساحة الفنون بكافة أنواعها وتشكيل مؤسسات فنية ضخمة بلمسات إسلامية تنشر عبر المسلسلات والأفلام والمقالات والمقاطع المسموعة والمرئية قيم الدين الأخلاقية وتشرح من خلال الدراما أهمية التماسك الأسري وفوائد الأخلاق الاجتماعية الإسلامية للحفاظ على تماسك المجتمع، وتنشر قيم المحبة والأمانة والإخلاص والتعاطف مع الضعفاء والمساكين وتظهر جمالية تلك القيم وانعكاسها الإيجابي على استقرار الفرد والمجتمع..
يعتبر الدين الإسلامي خزانا حقيقيا للقيم الإنسانية والمبادئ الأخلاقية التي ترنو إليها الفطرة الإنسانية وتتطلع إليها القلوب النقية.. هذه القيم التي تنحسر في العالم تدريجيا أمام تغول الفكر المادي ولغة المصالح والسلوك البراغماتي الذي يتبناه الغرب ويغزو العالم من خلاله.. ولأن هذه القيم منسجمة مع فطرة البشر ومتماهية مع أحاسيسهم، ولأن الثقافة الغربية الحالية تخنقها بشكل تدريجي، فإن الثقافة الإسلامية مؤهلة – لو أحسن عرضها بشكلها الأخلاقي الحقيقي – لاستقطاب الكثير من شرائح المجتمع البشري في الشرق والغرب..
نعم هم يمتلكون القوة الصلبة ويدمرون من خلالها آمال شعوبنا ومستقبلها، ونحن مطالبون بالسعي الجدي من أجل امتلاك تلك القوة.. ولكن الأكثر أهمية من ذلك في مرحلة الضعف والتفكك التي نعيشها هو المحافظة على القوة الناعمة التي نمتلكها ورعايتها وتنميتها وتقويتها ووضعها في خدمة الانسان.. أي انسان..
قد ينجح أعداؤك باحتلال بلدك.. ولكن حذار أن تسمح لهم باحتلال عقلك وقلبك..
قد ينجح أعداؤك بتشويه جسدك.. ولكن حذار أن تسمح لهم بتشويه وعيك..
قد ينجح أعداؤك بتغيير مناهج دراستك.. ولكن حذار أن تسمح لهم بتغيير منهج حياتك..
إنها معركة الوعي.. وجميعنا مطالبون بالانخراط فيها..