عوني القلمجي
لا سبب مقنعا يدعو كاتب هذه السطور إلى تصديق ما يجري تداوله بين عموم الناس، عن توجه الولايات المتحدة، ورئيسها دونالد ترامب، إلى شن حرب شاملة أو محدودة ضد إيران، بهدف إنهاء نفوذها السياسي، وحل المليشيات العراقية التابعة لها، وتشكيل حكومة جديدة تأخذ على عاتقها بناء العراق وعودته دولة مستقلة وموحدة. ويبدو أن كل هذا الخيال الواسع تولد هذه المرة جرّاء تحريك حاملة طائرات وسفن حربية وقاذفات في مياه الخليج العربي، في حين أن تحريك مثل هذه القطع العسكرية الأميركية إلى أية منطقة، على الرغم من أهميته البالغة، لا يعني في كل الأحوال إعلانا للحرب، أو تعبيراً عن وجود نياتٍ حقيقية لخوض معركة وشيكة. كما أن واشنطن وطهران لم تتحدثا عن حربٍ مرتقبة، بل قال الرئيس دونالد ترامب غير مرة إنه لا يريد إيذاء إيران ولا إسقاط نظامها. وقال وزيرا الدفاع باتريك شاناهان والخارجية مايك بومبيو ورئيس هيئة الأركان المشتركة جوزيف دنفورد، في “جلسة إحاطة مغلقة لأعضاء الكونغرس”، إن الولايات المتحدة ليست ذاهبة إلى حرب. وفي المقابل، وصف وزير خارجية إيران، جواد ظريف، الرئيس ترامب، بأنه مختلف عن الفريق المحيط به، الذي تبدأ أسماؤه بحرف الباء، وحدّدها ببولتون مستشار الأمن القومي وبومبيو وزير خارجيته وبن زايد ولي عهد أبوظبي، وبن سلمان ولي العهد السعودي. واستبعد المرشد الأعلى في إيران، علي خامنئي، نشوب الحرب.
لا يدخل ما سبق في باب الأحكام القطعية، ولا الاستخفاف بالتحرّك العسكري في مياه الخليج العربي، ولا حتى اعتباره استعراضا للقوة الأميركية، وإنما يعد بمثابة رسالة ذات طابع عسكري، غرضها، كما نعتقد، وقف تمادي حكام إيران وتمددهم في المنطقة العربية، وتشكيلهم خطرا على حلفائها من دول الخليج العربي من جهة، والتعدّي على نفوذهم في العراق تحديدا من جهة أخرى، وذلك بإجبارهم على تنفيذ شروط أميركية تؤمن للولايات المتحدة تلك الأهداف، منها تقييد البرنامج النووي الإيراني، والحد من مليشيات إيران المسلحة في العراق وسورية واليمن. بل قلل مسؤول القيادة المركزية للجيش الأميركي، كينث ماكنزي، من أهمية هذه الحشود، وقال “إرسال واشنطن حاملة طائرات أبراهام لينكولن وقاذفات إلى الشرق الأوسط، رسالة واضحة إلى النظام الإيراني، فأي هجوم سيستهدف المصالح الأميركية سيقابل بقوة صارمة”. بمعنى آخر أكثر وضوحا، تسعى أميركا من هذه الحملة العسكرية إلى تقليم أظافر إيران، وليس قلعها، لتعود حليفا ملتزما، أو على الأقل غير مشاكس.
تُرى، هل ستقبل إيران بتقديم التنازلات المطلوبة مقابل الحفاظ على نظامها، ورفع الحصار الاقتصادي عنها، أم ستمتنع عن ذلك، وتدخل في مواجهة مع الولايات المتحدة ذات القوة العسكرية المتوحشة؟ استلم حكام طهران الرسالة، ومحوا من ذاكرتهم كل ما وسوست لهم شياطينهم من أوهام وأحلام فارسية توسعية، يمكن لأميركا غض النظر عنها، كما غضت النظر عن وجودها في العراق. وإنهم، في نهاية المطاف، سينفذون ما طلبته أميركا منهم، سواء في ما يخص تحجيم مشروعهم النووي وصواريخهم الباليستية، أو الحد من توسع نفوذهم في العراق والمنطقة، خصوصا أن مثل هذه التنازلات لن تضعف إيران إلى درجة تفقدها القوة التي تحتاجها أميركا على الدوام، لتهديد دول المنطقة، وخاصة السعودية، فبهذه الذريعة استطاع ترامب الاستحواذ على نصف ترليون من الدولارات في مقابل تأمين استمرار العائلة المالكة في السلطة، ناهيك عن إدراك حكام طهران الأهداف الأخرى لهذه الحشود التي لا تضرّها، وهي سعي ترامب إلى إعادة انتشار قوات بلاده بكثافة في عموم منطقة الخليج العربي، لتمرير “صفقة القرن” التي تهدف إلى تصفية القضية الفلسطينية وإنهاء الصراع العربي الصهيوني، لتمهيد الطريق أمام الكيان الصهيوني ليصبح الوكيل المفوّض في المنطقة ككل، وهو ما سيجعل الأوضاع أكثر استتبابا للأميركيين الذين يهمهم تأمين المنطقة، ليخوضوا صراعهم الاقتصادي شرقاً، مع القوى الصاعدة في الصين والهند.
أما الحديث عن إمكانية تعنت إيران ورفضها الشروط الأميركية واستعدادها للمواجهة فلا يستند إلى أدلة واقعية، لأسباب عدة، منها أن حكام طهران يعلمون علم اليقين بعدم قدرتهم على الوقوف بوجه القوة العسكرية الأميركية المتوحشة، لا هم ولا جيشهم ولا صواريخهم ولا مليشياتهم المسلحة خارج حدودها، سواء في العراق أو لبنان أو سورية أو اليمن، بسبب اختلال موازين القوة العسكرية لصالح أميركا بالتمام والكمال، مثلما تعلم أنه لا الاتحاد الأوروبي ولا الصين ولا روسيا على استعداد لدعمها في مواجهة واشنطن، فروسيا على سبيل المثال، وهي أقرب حليف لها، قال رئيسها بوتين يوم الاربعاء الماضي: “أخبرت شركاءنا الإيرانيين بأن الدول الأوروبية الموقعة على الاتفاق النووي لا تستطيع فعل أي شيء لإنقاذ ايران، والقيام بأي عمل فعلي للتعويض عن خسائرها في القطاع الاقتصادي”. وأوضح أن بلاده ليس بإمكانها لعب دور “فرقة إنقاذ” أو “فرقة إطفاء” و”نحن غير قادرين على إنقاذ كل شيء”.
وهناك وضع إيران الداخلي غير المؤهل لخوض معركة من هذا الوزن، فهو، كما تؤكد الوقائع، سيئ للغاية، فبالإضافة إلى تدهور الوضع الاقتصادي الذي ولد استياء عاما من فئات واسعة من الشعب، فإن التيار الإصلاحي الذي يرفض سياسة الولي الفقيه التوسعية، ويسعى إلى بناء علاقات مع الغرب عموما، ومع الولايات المتحدة خصوصا، بات قويا ومؤثرا في الحياة السياسية الإيرانية، إضافة إلى وجود معارضة سياسية قوية من خارج النظام، ممثلة بأحزاب وقوى ديمقراطية ويسارية، ناهيك عن احتمال قيام انتفاضات شعبية من القوميات المضطهدة، مثل عرب الأحواز والكرد والقوميات الأخرى العديدة، ولم يخف حكام طهران هذه المخاوف، في حال خوض مواجهة مع الولايات المتحدة، حيث جرى تحديدها باندلاع احتجاجات واسعة ضد الحكومة، أو تمرّد شعبي ضد فشل الحكومة الاقتصادي والاجتماعي، جرّاء تكثيف الضغوط الأميركية على الصادرات النفطية والمبادلات المصرفية، وكذلك الخوف من وضعية ثبات الجمهورية الإيرانية، بعد وفاة علي خامنئي (80 عامًا)، وهذا ما يفسر التغيرات التي حدثت في قيادات الحرس الثوري، استعدادا لقمع أي انتفاضة أو ثورة شعبية ضد النظام، وذلك بتعيين الضباط الأكثر تشددا وبطشا، مثل اللواء حسين سلامي الذي يعين قائدا للحرس الثوري، والأميرال علي فدوي نائبا له، ومعلوم أن الحرس الثوري يعتبر أقوى مؤسسة في الجمهورية الإيرانية، بعد مؤسسة القيادة، وأكثر المؤسسات نفوذًا.
ليس هذا كل شيء، فأميركا وإيران لم يزل كل منهما بحاجة إلى الآخر، والتعاون بينهما في العراق، خصوصا، استند إلى أسس متينة، وليس من السهل التفريط به، والخلافات بينهما، على الرغم من كل هذه المظاهر العسكرية والتهديدات المتبادلة، سيجري حلها على طاولة المفاوضات وليس في ساحات الوغى. وقد أكدت وقائع وأحداث على متانة هذا التعاون الذي يصل أحيانا إلى حد الشراكة، وقد أكدته شخصيات عديدة ذات صلة بمثل هذا الموضوع، مثل إدوارد دجيرجيان، مساعد وزير الخارجية الأميركية الأسبق لشؤون الشرق الأدنى وأفريقيا، ومن الباحثين السياسيين، جون سبوزتو وستيفن زوترو، ومن الكتاب ذوي الصلة الوثيقة بالأميركيين الكاتب اللبناني فؤاد عجمي، ومن العراقيين أحمد الجلبي وكنعان مكية وليث كبة ورند الرحيم، وغيرهم. وقد وصفوه بأنه تعاون متين، وضعت أسسه بشأن العراق منذ سنة 1991. وتعزّز ذلك التفاهم طوال فترة الحصار، وبعد أحداث “11 سبتمبر” في العام 2001 أصبح شبه مكتوب. وما دامت مصالح أميركا وإيران متفقة على تدمير العراق، دولة ومجتمعا حتى النهاية، فإن هذا التعاون سيبقى مستمرا، مهما تخاصما. هذه حقيقة، وإذا كان هناك من لم يدركها بعد، فإن الوقائع العنيدة ستُجبره على قبولها، عاجلا أم آجلا.
على ضوء ذلك، عموم العراقيين والأحزاب والقوى الوطنية المعادية للاحتلال الأميركي، وتابعه الإيراني، مدعوون إلى نزع كل هذه الأوهام من العقول، ومواصلة طريق الانتفاضات الشعبية، والعمل على تطويرها إلى ثورة شعبية ذات طابع سياسي وطني شامل، تتعدى المطالب الحياتية والخدمية، وصولا إلى المطالبة برحيل الاحتلال، وإسقاط العملية السياسية الطائفية، لتتمكن الحكومة الوطنية المقبلة من رحم الانتفاضة من استعادة استقلال العراق وسيادته الوطنية ووحدته كاملة غير منقوصة.
المصدر: العربي الجديد