سمير صالحة
كانت أنقرة تطمح إلى نظام إداري محلي في مدينة إدلب السورية وجوارها، بالتعاون والتنسيق مع موسكو، في إطار تفاهمات سوتشي، وتكون مشابهة للحالة القائمة في منطقتي درع الفرات وغصن الزيتون، فوجدت نفسها أمام خطر تقدّم قوات النظام إلى المربّعين اللذين تشرف على شؤونهما، بدعم وتشجيع روسي، تحت ذريعة الحرب على المجموعات الإرهابية والقوى المتطرّفة.
لم تكن أنقرة تتوقع أن تخبئ موسكو لها مفاجأة من العيار الثقيل في خان شيخون، وبهذا التخطيط والتحرّك السريع. كانت تستعد لسيناريو ما، بعدما تأخرت في حسم موضوع مجموعات جبهة النصرة، لكنها لم تكن تراهن على قلب الطاولة، وإيلامها روسيا بهذا الشكل.
ردّدت القيادات التركية قبل أسابيع، وفي أعقاب اتفاقية أنقرة مع واشنطن بشأن المنطقة الآمنة وشرق الفرات، أن الأصابع ستبقى على الزناد هناك، تحسبا لما قد يعرقل التفاهمات، فأتتها الضربة من غربه، حيث استهدف النظام، بدعم روسي، القوات التركية، وهدّد نقاط المراقبة المنتشرة في مناطق خفض التصعيد، وأضرم النار في مسار العلاقات بين تركيا وحلفائها المحليين الذين ينسقون معها منذ بداية الثورة في سورية.
خيّبت موسكو آمال أنقرة في رهانها على فرص التنسيق والتعاون بينهما في سورية. ولكن القيادات التركية لم تكن تنتظر أن يجاهر الروس باستعدادهم ضرب كل التعهدات والاتفاقيات مع أنقرة بعرض الحائط، محملينها المسؤولية الكاملة لنتائج التطورات في إدلب. المؤكّد أن أنقرة لم ترصد، كما ينبغي، قرار الانفتاح الروسي على تل أبيب وواشنطن، سواء في قمة مجموعة العشرين، حيث عقد لقاء القمة الأميركي الروسي المطول، وهي لم تتابع تفاصيل القمة الأمنية الثلاثية التي جمعت الروس والأميركيين والإسرائيليين حول طاولة حوار بمادة وحيدة اسمها سورية.
كانت القيادات التركية تراهن على طاولة حوار، تجمعها مع الروس والأميركيين، لبحث الملف السوري، أو في سيناريو معاكس قطع الطريق على أي تقارب بين موسكو وواشنطن على حسابها في سورية، فجاءت مفاجأة بوتين لتعلن أن الحوار أميركي روسي في سورية، وأن على بقية اللاعبين المحليين والإقليميين انتظار فرصهم ودورهم وحصتهم، عند الانتهاء من التقاسمات الكبرى. لافروف سايكس وبومبيو بيكو يستعدان للإعلان عن تاريخ التفاوض ومكانه، تمهيدا لتقاسم الكعكة، من دون نسيان حصة إسرائيل، ثم توزيع ما تبقى.
كانت المخاوف التركية من وقوع عاصفة الشرق، ففاجأها إعصار الغرب. هي كانت تستعد لإلزام واشنطن باتفاقية واضحة ومحدّدة في شرق الفرات، ففاجأها الشريك الروسي بإشعال جبهات غرب الفرات، وكأنه يقدم خدمةً للأميركيين لتخفيف الضغوط عنهم، وإضعاف الموقف التركي في مناطق شمال سورية بأكملها.
أعلن النظام في دمشق عن قرار وقف النار من جانب واحد على جبهة إدلب، بانتظار تنفيذ شروطه وبنود اتفاقية سوتشي. واعتبرت أنقرة وحلفاؤها من الفصائل السورية هذا الإعلان مناورة جديدة لا قيمة لها، طالما أن الاتفاقيات التركية الروسية سارية المفعول. ولكن التقدير الخاطئ الذي وقعت أنقرة فيه كان استبعادها احتمال إعطاء موسكو الضوء الأخضر للنظام، لتفجير الوضع في إدلب، حتى ولو عرّض كل التفاهمات التركية الروسية لخطر الانهيار. فشلت أنقرة في مهمة وتعهد تحييد “جبهة النصرة” في إدلب، وأصبح الموضوع مسمار جحا الذي سيستخدم ضدها في كل مناطق شمال غرب سورية. وقد تكون مجموعات “النصرة” سجلت تفوقا عسكريا، وتمدّدا جغرافيا أوسع في إدلب، لكنها قدّمت خدمة لا تقدّر لدمشق وموسكو، بعدما أضعفت يد أنقرة سياسيا وميدانيا. من سيتحمل في تركيا مسؤولية ذلك، خصوصا أن النظام يردّد أنه سيواصل عمليات فرض سيادته على كامل الأراضي السورية.
سيكون السيناريو الأصعب إذا ما قرّر النظام، بتشجيع روسي، الاقتراب من مناطق “غصن الزيتون” و”درع الفرات”، بذريعة مطاردة الجماعات الإرهابية هناك؟ كيف ستتصرف أنقرة عندها، وما هي قيمة التفاهمات والتنسيق بين الدول الضامنة الثلاث بعد الآن؟
تدعو الناطقة باسم الخارجية الروسية، ماريا زاخاروفا، الجميع إلى الالتزام بتفاهمات وتعهدات أستانة وسوتشي. وفي هذا قمة السخرية والاستهزاء! ألا تعرف أن الجغرافيا السياسية في منطقة شمال غرب سورية تتغير يوميا، وأن العرض الروسي على أنقرة هو تبديل أماكن نقاط المراقبة التركية، لتكون خارج حدود مناطق سيطرة النظام، بعد عمليات التمدّد والقضم أخيرا.
وسيناريو آخر هو مفاجأة أميركية روسية في لقاء ثنائي عاجل لإخراج سورية مما هي فيه يأتي بإجماع محلي وإقليمي. يالطا سوري معدل. بومبيو – لافروف على وزن سايكس – بيكو جديد. وكانت سيناريوهات من هذا النوع قد راودت كثيرين، لكنهم لم يتجرأوا على البوح بها، احتراما للشراكات والتحالفات والعلاقات.
هل يبقى شيء من اتفاقيات مناطق تخفيض التوتر، عندما تجتاح قوات النظام، بدعم عسكري روسي إيراني، خان شيخون وجوارها، وتلوّح بأنها البداية فقط؟ هل هي خدمة تقدّمها دمشق لأنقرة، بدعم روسي، للتخلص من مجموعات “النصرة”، بعدما عجزت تركيا عن حسم الملف، ورأينا العكس يتم على الأرض. جبهة النصرة هي التي تتمدّد وتنتشر، وتسيطر على الأرض والقرار؟ هل الهدف من هذا التصعيد فتح الطريق الدولي، أم فتح الطريق أمام تفاهمات تركية روسية إيرانية تقلص نقاط التباعد والخلاف بين أنقرة ودمشق، أم أن السيناريو الأهم هو طاولة التقاسم الأميركية الروسية؟
الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وراء مشروع فرض أمر واقع جديد، كانت أنقرة تتوقعه، ولكن ليس بهذا الشكل وهذه الخطورة. قد يعاتب الرئيس التركي أردوغان نظيرته على فعلته أخيرا في خان شيخون وإدلب على طريقة المتنبي لسيف الدولة “فيك الخصام وأنت الخصم والحكم”، ولكن بوتين قد يرد على أردوغان، وبلسان المتنبي نفسه: أنتم لم تعرفوني جيدا على الرغم من أن “الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح ..”.
قد يحمل لقاء أردوغان بوتين أجوبة كثيرة على أسئلةٍ كثيرة يطرحها الرئيس التركي، ولكن احتمال عودته مطمئنا بعد الآن شبه مستحيلة. هل كان من الأفضل لأردوغان التوجه إلى إيران أم إلى موسكو؟ تقول تحولات وتطورات كثيرة إن طهران جاهزة لاستقبال الرئيس التركي، إذا ما قرّر أن يعرّج عليها لسماع ما عندها، عل وعسى.
المصدر: العربي الجديد