لم أكن أعرف في ذاك الزمن المبكر من عمري، المعنى المأساوي الذي تشير إليه عبارة ” لاجئ فلسطيني” وحتى عندما قرأت قصة أم سعد للمبدع الشهيد غسان كنفاني، ولم أزل حينها في الصف السادس الابتدائي، لم أشعر ببرودة تلك الخيمة التي اقتلعتها الريح، ولم تذهب مخيلتي أبعد من التأمل في وجه إمراه كبيرة من المخيم، تشبه في شقائها وحزنها وعنفوانها صورة أم سعد، كما وصفها أول من شدني للتقصي الطفولي عن سردية اللجوء، التي كنت أنتمي إليها قبل أن يتفتح وعيي في السنين التي تلت، على تاريخ وعوالم النكبة في الوعي الجمعي الفلسطيني. لم يُطرح بوجهي سؤال اللجوء بدلالاته التمييزية الحادة طيلة حياتي في سورية، إلا في مواقف نادرة – شهدتُ ما يماثلها بين السوريين أنفسهم- دون أن تترك فيَّ أثراً من شعور باضطهاد أو نقص، طالما أن نظرة السوريين العامة للفلسطينيين كانت مزيج من تعاطف وإعجاب ومحاكاة، ولذلك كانت مقاربتي الأولية لعالم اللجوء، هي انعكاس مباشر لتأثير المخيم الفلسطيني في تكوين رؤيتي للذات والآخر، ولمساحات من التفاعل والغموض بينهما، ولسياق حاشد من الأحداث والوقائع والانكسارات كانت تطبع الحالة الفلسطينية في أزمنة متعاقبة، ومعها كانت تكبر أسئلتي الوجودية القلقة، التي لم تغبْ عنها مفارقات إنكار الفلسطيني لواقع لجوئه، وكيف يحيل شواهد النكبة وتجلياتها المأساوية إلى فعل تمرد لا يستكين.
كان مخيم حندرات الواقع شمال حلب، والذي ولدت وعشت طفولتي وسنيّ شبابي فيه، أقرب إلى قريةٍ تستعيد في شكلها ومرويات ساكنيها، ذكريات وتفاصيل حياة تلك القرى الفلسطينية التي هُجر أهلها منها عام 1948، وكأن اعتلاء آبائنا وأجدادنا لتلك التلة الجبلية المُشرفة على وادي قويق في بداية ستينيات القرن الماضي، كي يُشيدوا عليها مخيماً يشبه فردوسهم المفقود، حدثاً يجمع بين الضرورة والمصادفة، ويكشف عن أثر الجغرافيا في استدعاء الحنين للمكان الأول. وهو ما بدا في تلك السلاسل الحجرية التي كان الأهالي يرصفونها بأيديهم، كي يسوروا بيوتهم بالحواكير، ويزرعونها بأشتال الليمون والبرتقال والزيتون، في طقس إحيائي لتلك البلاد التي لا يريدون لغيابها الحارق أن يقض أرواحهم، لكن بقاء صورة المخيم التي رسمتها مخيلة ملتاعة، تخشى ضمور تاريخها السعيد في عوالم الغربة، لم تبقَ على حالها، أمام تغيرات الديموغرافيا العشوائية، وبالتوازي معها تحولات الواقع الموضوعي، الذي لا يمكن للمخيم كمجتمع لجوء أن ينجو من تداعياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية. كنت من ذاك الجيل الذي عايش خلال عقد الثمانينات المنصرم مسارات ورياح التحولات التي شهدتها مدينة حلب في تلك الفترة، وكان من أبرزها مسلسل الخوف المُعمم الذي فرضه النظام السوري على المدينة وأريافها، عشية حربه مع “جماعة الإخوان المسلمين” وكنت أرى خلال زياراتي المتكررة لمخيم النيرب الملاصق لمطار حلب، وهو الأكبر بعدد لاجئيه من مخيم حندرات، والمضغوط بأزقته وبركساته وحيويته المتوثبة، تلك القبضة التي فرضتها المفارز الأمنية، التي غزت بعناصرها ومخبريها هذا المخيم، في الوقت الذي انتقلت إليه في تلك الحقبة – كحال بقية المخيمات الفلسطينية في سورية ولبنان- تداعيات الانقسام السياسي الذي أصاب الحركة الوطنية الفلسطينية، عشية الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، وكان لتلك المفارز الأمنية دورٌ جليّ في استثمار الخلافات والصراعات الفلسطينية، التي كان نظام الأسد الأب من مهندسي بؤر اشتعالها، من أجل إعادة تنظيم واحتواء مجتمع اللاجئين بأدوات الترهيب والسيطرة والتحكم. بدا مشهداً مألوفاً وقتذاك أن تتحول أي مظاهرة فلسطينية يشهدها مخيمي النيرب وحندرات، لأحياء مناسبات وطنية أو فصائلية، إلى حلبة صدام بين الأخوة الفرقاء، وكانت جامعة حلب التي درست فيها منذ نهاية الثمانينات وبداية التسعينات، تعكس في نشاطها الطلابي الفلسطيني أصداء ذاك التنافر السياسي، الذي لم يحجب مظاهر التمايز، التي دأب الطلاب الفلسطينيون على إظهارها أمام زملائهم السوريين، كشعب مُسيس ومُثقف، يتبرم أبناؤه من أي نظرة إليهم بوصفهم “لاجئين” ولا يرون بأنفسهم سوى مناضلين في مشروع وطني، كانت فصائله وتنظيماته تستنفذ دورها التاريخي في تمثل قضايا المناضلين واللاجئين، وتستعيض عن فشلها الوطني والسياسي المزمن، بالخطابات والشعارات و التورية اللفظية.
أما حلب المدينة فكانت تهرب من ذاكرتها المثخنة بالجراح، إلى مطاردة لقمة العيش بعيداً عن عوالم السياسة وعواقبها المأساوية في دولة البعث، ورويداً رويداً سطت شهوة المال والاستهلاك على المدينة، وتصدر مشهدها محدثو النعمة، فيما تزايدت فئاتها المهمشة، مع تعليب الثقافة وتحزيب المجتمع، وما أن حط عقد التسعينات حتى أصبحت مدينةً مغلقةً على روحها المُتعبة. وبحكم الواقع لم يكن فلسطينيو مخيماتها بمنأى عن سطوة تلك التحولات، التي أصبحت الكلمة الطولى فيها للمقربين من السلطة والمنتفعين من فسادها. بيدَ أن كل تلك الحقائق المتصلبة، لم تخفف من نزعة اللاجئ الفلسطيني، لبقاء المخيم عنوان هويته المتمردة على لعنة التاريخ، وحرزاً أكثر منه مكاناً، لحفظ ما ورثه من شهود النكبة الأم، كوصية مقدسة تنتقل من جيل الى آخر. حين انتقلت للعيش في مخيم اليرموك بعد تخرجي من جامعة حلب عام 1992، هناك عرفت أكثر كيف تتوارى مأساة اللجوء، أمام وجوه تُصر أن تكون الناطق الوجداني عن كل مآسي الفلسطينيين في المنافي، وتأبى أن تفضح بعيونها ورؤيتها النقدية الساخرة ، نصيبها الخاص من مأساة النكبة، بل إن مخيم اليرموك الذي كان يختزن بتجاربه وتفاعلاته ومداراته، موحى التجربة الفلسطينية وتناقضاتها القصوى، كان أكثر من يحتفي بقدرته المتجددة على حماية مفهوم الانتماء، واجتراح فضاء مفتوح يتجاوز كينونة المخيم، كي يقطع تلك الصيرورة العنيدة من النكبات والمجازر، بعناد يستلهم من المحطات المضيئة في التاريخ الفلسطيني رغبة عارمة في الحضور الصارخ.
كثيراً ما سألت نفسي كيف يمكن لمخيم لاجئين أن يكون ملاذاً ووطناً وحلماً في آن ؟!… ولم يخطر ببالي خلال عشرين عاماً قضيتها في اليرموك، أن زمناً ما سيحمل إجابةً أخرى، لا مكان فيها للتحايل على واقع النكبات وقسوة اللجوء، وبأن وجع اليرموك نزع كل الأقنعة، وعرى فصائل وأحزاب ووجوه سقطت في امتحان الضمير. وبين هذا وذاك طرح على الكل الفلسطيني، المعنى الأخلاقي ” لهوية وطنية” يتنكر بعض أهلها إلى جراح بعضهم الآخر. بينما تستحضر المفارقات المؤلمة صُنّاع نكباتنا، تُعلن فداحة نكبتنا الفلسطينية السورية زمنها المصلوب، وتُسدل الستار على تاريخ حافل من الإنكار المُكابد لواقع اللجوء، على وقع أزمنة الموت والحصار والهجرة الأخيرة، وفيما يتسمر أمامي شريط طويل من مآسي نكباتنا المفتوحة بلا حدود، ثمة صوت لازال ينادي من أعماقي: لن أصير لاجئاً كي لا تقتلني النكبات، سأبقى غريباً في هجرتي ألملم جراح الزمن، وأقتفي دروب الخلاص لتبقى فلسطينيتي سورية الهوى.