عبد الباسط حمودة
الحياد، والفرادة، والاستقلال، هي الصفات المثالية للمفكر الحقيقي، الحياد إزاء الظاهرة، والفرادة إزاء المألوف والعقل الجمعي، والاستقلال عن كل مكون سلطوي؛ المفكر الحقيقي ينبغي أن يكون في الأمام، والمقدمة دائماً.
الفكر الحقيقي هو الذي يتقدم الواقع، وليس العكس؛ هناك ضرورة دائمة للتمييز بين المثقف، واعتقاده، وقبيلته، وطائفته، وأهوائه، عليه أن يقوم بتحييد اعتقاداته عن دوره بوصفه مثقفاً، عليه أن يكون انفصامياً بمعنى أنَّ: له أن يعتقد بما يشاء، بـ ” قدسية البقرة” مثلاً، ولكن ليس له ذلك في الوقت الذي يشّرع فيه بممارسة دوره، ووظيفته بوصفه مفكراً – ليس ثرثاراً ألمعياً! – لهذا لا يمكن للمثقف أن يكون طائفياً على الإطلاق، لا يمكنه أن يكون ’’ ممالئاً‘‘لأحد إلا إذا خان ذاته وصار بوقاً.
هناك فاصل دقيق يكاد يكون ’’ شبحياً‘‘بين اللمعان والذهب، بين المفكر والثرثار، ونحن في حاجة للتمييز بينهما إلى جهد فكري جبار، بحيث ننخرط في الفكر لتمييزه عن نقيضه؛ فإما أن تكون مفكراً، أو يتحتم عليك الحصول على قدر من الحدس يساعدك على كشف الرداءة وفضحها، ما يلمع ليس ذهباً لأن هناك مَنْ يشوه الفكر ليس بمظهر ’’ الفذلكة‘‘، و’’الرطانة‘‘ التي يجيدها المتحدث ’’المهذار‘‘ وحسب، وإنما أيضاً بجوهر سيكولوجي عُجن بداء التبعية.
ليس بالضرورة أن يكون كل ما يلمع ذهباً، كذلك ليس كل ثرثار ’’ متفذلك‘‘وبارز إعلامياً، هو إنسان ’’ معرفي‘‘، بوسعه أن يساعدنا على فهم الظاهرة والواقع، وإضاءتهما؛ وهذا شيء طبيعي، فهناك مَنْ لا يريد تبديد العتمة، وإزاحة الغموض بقدر ما يريد غسل الأدمغة، وهناك مَنْ لا يُشيع الفهم بقدر ما يشيع التضليل والثرثرة.
لمعانٌ في المظهر، وعبوديةٌ في الجوهر، والمحصلة ثرثرة، وتشويه، وتضليل؛ يمكننا القول على قاعدة التمييز ’’الكانطية‘‘ الشهيرة، الذي يقيم ’’الأبستمولوجيا‘‘ برمتها على الفصل بين الشيء في ذاته، والشيء في ظاهره، بين ’’الأنطولوجيا‘‘، و’’الفينومينولوجيا‘‘، إن هنالك ظهوراً لا يلمع إلا لأنه يحجب خواءً داخلياً. حتى إن كان هذا التمييز الكانطي لا يتضمن اختلافاً جوهرياً إلا أنه يمنحنا القدرة على وضع السؤال، والشك في الظاهرة الثقافية، في اللمعان الظاهري لجوهر عدمي، فالبريق تعويض عن فقر “جواني”، الجرأة الخارجية الماثلة في التأكيدات الرائجة في كل مكان، يشيع فيه غسيل الأدمغة، يعكس جُبّناً داخلياً، أو فراغاً.. لا يغرنكم براعة الحديث، أو طول اللسان؛ هذا إن برع في شيء ففي تعويض عجزه الفكري بالثرثرة، ولا شيء آخر، تلك هي كينونة المثقف اللامع، والاتباعي، مثقف واتباعي؟ أجل، يمكن أن يحصل ذلك على سبيل ” المزحة” الأنطولوجية للمفكر الثرثار، الذي لا يكف عن اللمعان، والمديح، والتسول.. والتحول.
لا تنفك دراما التحول بكل ما تكتنفه من دلالات سيكولوجية وثقافية عن إتحافنا بأمثلة وأحداث ساخنة؛ سوق التبشير يعج ببطولات التحول وتبديل الجلود، تتخذ أحياناً شكل وثبة إعجازية وأخرى متدرجة، تحول ثوري راديكالي أو معتدل، في ولادات تشهد فصولاً ومسارات من تمذهب منهمك ومتشبع بهويته، مروراً باعتدال ونزوع وحدوي متخفف من أعباء الهوية، لينتهي حيث يستقر أخيراً على ضفة أخرى، داخل هويات نقيضة؛ مراحل ثلاث يمر بها المتحول ليصل إلى ما وصل إليه. وفيما يشبه حركة تراجيدية أو ديالكتيك، نجد أنفسنا أمام ثالوث لا يسفر عن جديد: طمأنينة ثم قلق ثم الطمأنينة ذاتها؛ ومن انتماء إلى آخر يراوح العقل الأحادي ذاته، مستبداً بهذا الكارتوني ولا جديد تحت الشمس.
المتحولون أبطال ملحمة الهويات؛ يخلفون انفجارات مدوية للمكبوت على شكل هويات متقاتلة ومتنابذة ومسكونة بهاجس الانتقام، قد يكون وحدوي ملتحف بغطاء وطني عابر للهويات الماقبلية، ينازع في داخله ترهات معرفة الحقيقة ومشتقاتها. إذ أن كل تحول هو حدث مدوّ ولا شك، حدث مربك يعزز الانقسام والتعارض: فما هو مكسب عند طرف يصبح خسارة عند آخر، بحيث يبدو مثل شق جديد في الرقعة، تأكيد للانقسام والتعارض نفسه، وفي حالة الوحدوي الذي شاء القدر أن يتحول إلى ” قطيعي” متطرف، إقصائي همه نبذ الآخر وإقامة الحواجز، في هذه الحالة يبلغ التعارض أقصاه، حيث يبدو التحول نفسه وقد تحول إلى استبصار أو هداية حيناً وضلال ورِدّة حيناً آخر.
التحول بصفته صيغة أكثر تواضعاً لا يقال هنا، الطائفي المستبصر أو المرتد أكثر من متحول، إنه تائب مهتد وجد الحقيقة واطمأن بها قبل أن يستأنف دوره كداعية تبشيري يوزع أحكام الخلاص: ها هو المتهم وقد صار قاضياً يستبدل متهماً بآخر، وها هي الحقيقة والطائفة الناجية قد عادت من جديد طوع اليد وكأن شيئا لم يتغير.
كم سيكون شيقاً وجميلاً لو أن كل متحول لم يقطع شعرة معاوية، لو أنه تجاوز التمذهب نحو رؤية أعم، لو تخطى الانتماء العصبوي والتخندق الطائفي بكسر حلقة الاصطفاف بكل ما تكتنفه من كراهية ونرجسية، لكي يغادر نهائياً سياق ديدنهِ الخيانة المزمنة للمعرفة والفكر النقدي والوفاء لذهنيات قطّعية استئصالية متأججة عاطفياً، وذهنيات لا تُفرز إلا تحولات اجترارية مكرورة لا يعوَّل عليها.
لعله زمن التقلبات المميتة. زمن الموت العربي الراهن، ولعل تجربتنا نحن ” السوريات والسوريين”، في بلدنا والغربة، تقدّم صورة مأساوية عن مصير تحولات وفصامية الإنسان العربي.
المصدر: اشراق