مهند الكاطع
انطلقت الثورة السورية، في آذار/ مارس 2011، في خضم الربيع الذي شهدته الدول العربية، وشهدت سورية خلاله تفاعلاً ثورياً وسياسياً غير مسبوق، أفرز -عبر مراحله المتتالية- خطابات ورؤى وإرهاصات متعددة، وتبدلات في المواقف السياسية وتطورات على الساحتين السياسية العسكرية، وتدخلات إقليمية ودولية متعددة على الأراضي السورية. سنحاول من خلال هذا الملف معالجة أبرز المحطات التي مرت بها منطقة الجزيرة السورية، تلك المناطق التي أعلن فيها “داعش” مشروعه للخلافة وجعل من الرقة عاصمة له، وكذلك أعلنت منظومة العمال الكردستاني فيها عن قيام مشروع روجافا (الإدارة الذاتية) المؤلف من ثلاث مقاطعات (كانتونات) هي الجزيرة وعفرين وعين العرب (كوباني).
أولاً: انطلاق الثورة السورية
1ـ انطلاق التظاهرات
انطلقت التظاهرات السلمية ضدّ النظام السوري، على كامل الرقعة السورية، وشهدت دمشق ودرعا التظاهرات الأولى، ولم تلبث أن انضمت حمص ثم محافظة الحسكة إلى الحراك، فكانت البداية من انطلاق تظاهرات لمجموعة من الشباب العرب، في ناحية الجوادية، قمعَها النظام بشدة، ليتسع نطاق التظاهرات مباشرة في كل من القامشلي وعامودا ومدينة الحسكة وناحيتي رأس العين والهول. وكانت السمة الأساسية لهذه التظاهرات هي خروج فئة الشباب من العرب والكرد وكذلك جزء من الأقليات المسيحية في هذه المحافظة، تحت رايات وشعارات مشتركة، وتحت عَلم مشترك، آنذاك كان العَلم المعتمد دولياً لسوريا في الأمم المتحدة، قبل أن يُتّخذ علم الاستقلال رايةً تمثّل الحراك ومؤسسات الثورة.
وكباقي المدن السورية، كانت الجمعة مناسبة لتجمع تنطلق من خلالها التظاهرات، وكانت الرمزية في الجمعة هي الحشد الجماهيري الذي يشجع الناس على المشاركة الجماعية، وكان الجميع ملتزماً بالشعار الموحد للثوار في سوريا باختيار اسم موحد لكل جمعة تحمل شعاراً يتبناه المتظاهرون.
2 ـ موقف الأحزاب الكردية من الحراك
بقيت الأحزاب الكردية مترددة، ولم تتخذ قراراً للمشاركة في الحراك الثوري ضدّ النظام الحاكم، خلال الأشهر الستة الأولى من عمر الثورة السورية، واجتمعت معظم الأحزاب الكرديّة في مدينة القامشلي، في أوائل أيار/ مايو 2011، وأصدرت بياناً وضعت فيه تصوّرها لحلٍّ سياسيٍّ للأزمة، دعت فيه إلى إجراء حوارٍ بين السلطة والمعارضة، لحقن الدماء ووضع مبادئ لإصلاحاتٍ ديمقراطية، من ضمنها تحقيق المطالب المشروعة “للشعب الكرديّ” في إطار وحدة البلاد، وعلى الرغم من تبني تسمية “آزادي” التي تعني الحرية بالعربية، على يوم الجمعة 20 أيار/ مايو 2011، فإن الأحزاب الكردية لم تتخذ موقفاً بالمشاركة في الحراك على الأرض، في الوقت الذي كان الشباب الكرد ينظمون التنسيقيات، ويشاركون مدفوعين بحماس كبير، يزيد حتى على حماس الشبان العرب، في المناطق التي تضم عرباً وكردا، مثل القامشلي، فالشباب الكرد لديهم تجربة سياسية أقدم من العرب، واستفادوا من الغطاء الذي وفره نظام الأسد سابقاً للأحزاب الكردية التي كان يتم تشجيعها واستخدامها، لأهداف إقليمية تتعلق بالساحتين العراقية والتركية.
وبالتالي كان حجم مشاركتهم كبيراً مدعوماً بغطاء شعبي من الأهالي في الأحياء أيضاً، أما الأحزاب الكردية فقد مارست ضغوطاً مختلفة على الشبان الكرد، لمنعهم من الخروج والتظاهر واتخاذ مواقف خارج مظلة الأحزاب الكردية التقليدية.
وقد وصل الأمر -كما يشير رئيس تنسيقية الحسكة الموحدة ميرال بروردا- “إلى أنّ الأحزاب السياسية سعت إلى تشويه صورة الشباب الكرد ونخبهم القيادية، وكانت تمارس إلى جانب الاعتقالات حملات ممنهجة لاتهامهم وترهيبهم”.
ثلاثة أحزاب فقط هي التي قررت المشاركة رسمياً بالثورة بعد ثلاثة أشهر من انطلاقه، عرفت (بأحزاب لجنة التنسيق الكُردية) وهي: حزب يكيتي الكُردي في سوريا، حزب آزادي الكردي في سوريا، وتيار المستقبل الكُردي في سوريا، التي اتخذت قراراً بالمشاركة رسمياً بالاحتجاجات، في بيان أصدرته في 7 حزيران/ يونيو 2011.
ثانياً: تشكيلات ما بعد الثورة
- تأسيس التجمع الوطني للشباب العربي
تشكّلت نواة التجمع الوطني للشباب العربي في 21 أيار 2011 في مدينة القامشلي، وذلك بعد أن تداعى مجموعة من الشباب العرب جلهم من المثقفين والجامعيين لعقد اجتماع في أحد المنازل، لمناقشة التطورات على الساحة السورية، وكانت الحالة الثورية هي القاسم المشترك لجميع المجتمعين، وخلص الاجتماع لانتخاب لجنة مؤلفة من الحضور، باتت لاحقاً الأمانة العامة، مهمتها وضع مبادئ ومنطلقات وتصورات لكيان يساهم في تنظيم مشاركة المكون العربي في الحراك الثوري ضدّ النظام، والعمل على الحالة العربية المغيبة عن أي نشاط سياسي أو تنظيمي خارج الأطر التقليدية التي يهيمن عليها حزب البعث، وكان على هؤلاء مواجهة حاضنتهم الشعبية التي كان معظمها مؤيداً للنظام حينها، أو مصدقاً لدعايته بأن الثورة ستفضي لمشروع دولة كردية على حسابهم.
التجمع الوطني للشباب العربي هو أول كيان ثوري تأسس بعد اندلاع الثورة في الجزيرة، معلناً منذ تأسيسه وقوفه ضد النظام بكل رموزه ومرتكزاته والمشاركة في ثورة الحرية والكرامة، وسعى إلى اللقاء والتنسيق مع باقي القوى والتنسيقيات الثورية في محافظة الحسكة، ونجح في تأسيس أول نقطة تظاهر باسم تنسيقية الشباب العربي، انطلقت من جامع الفاروق بالقامشلي، وجوبهت تلك المظاهرة بقمع أمني شديد، اضطروا بعدها للخروج في مظاهرات من جامع إبراهيم الخليل، القريب جداً من جامع قاسمو الذي اتخذته التنسيقيات الكردية ثم الأحزاب الكردية لاحقاً نقطة لانطلاق مظاهرتها، وكان الغرض آنذاك الاستفادة من الحاضنة الشعبية في تلك الأحياء من جهة، وتجنب التعرض لقمع النظام الذي كان يتجنب ولغاية في نفسه الدخول في مواجهة مباشرة مع الجماهير الكردية.
تشكيل لجنة السلم الأهلي
دخلت الثورة عامها الثاني، وكانت وتيرة الشعارات القومية الكردية في الشارع تزداد تدريجياً، خاصة بعد دخول الأحزاب الكردية معترك التظاهرات، وباتت الشعارات يوماً بعد يوم تتخذ صبغة قومية كردية أحادية، وبدأ المراسلون الأكراد ينقلون الأحداث في هذه المناطق بوصفها مناطق “ذات أغلبية كردية” ثم بدأوا يستخدمون مصطلح ” مناطق كردية”، وهنا دعا التجمع الوطني للشباب العربي في بداية تشرين الثاني 2012 إلى تأسيس لجنة للسلم الأهلي، نجح من خلالها بعقد اجتماع في 13-11-2012 ضم الوجهاء والفعاليات من مختلف أطياف المجتمع الدينية والقومية. تعرض بعدها عدد من أعضاء التجمع للاعتقال والملاحقة الأمنية، وقمعت مظاهراتهم بشدة، فكل شيء كان يمكن للنظام أن يتغاضى عنه في منطقة بالغة الحساسية من حيث التركيبة الديموغرافية التي تضم العديد من الأقليات والتي يحاول النظام تجنيبها العنف، إلا مسألة التقارب بين مكونات المجتمع، فلم يكن النظام يسمح به.
هذه الحالة التي نستعرضها، هي نموذج لمحاولات النظام المتكررة لعزل الأقليات وتحييدها، فالنظام لم يكترث بالشعارات التي ترفعها الأحزاب الكردية مثل (جمعة هنا كردستان، وجمعة الفيدرالية مطلبنا)، لأنه يرى فيها تعزيزا للشرخ في صفوف الحراك الثوري الذي يمثل الخطر الأكبر على وجوده، وتركيز النظام على المدن والبلدات والأحياء “العربية السنية” على امتداد الرقعة الجغرافية السورية، كان يعكس مخاوفه الرئيسية من الحاضنة الأكبر للثورة السورية التي يمكن لها بالفعل إحداث تغيير شامل يؤدي إلى إسقاطه.
مظاهرات عامودا 2012
شكلت عامودا أحد أبرز مظاهر الثورة السلمية التي تبنت فيها التنسيقيات الشبابية الكردية شعارات الثورة، وكانت عامودا تتميز فضلاً عن شجاعة أبنائها، بروح الدعابة التي نجح من خلالها أبناؤها بإرسال رسائل تضامن رائعة مع كل المدن السورية التي بدأ النظام بقمعها، لقد دفعت عامودا ثمن وقوفها مع الثورة السورية، بتسليط النظام لقوات “YPG” عليها، التي بدأت باعتقال شبانها وتغييبهم، واستهداف المظاهرات السلمية بالرصاص الحي، وقمع الحراك السلمي فيها بشكل كامل بعد سيطرة هذه القوات عليها.
أما حي غويران فهو أحد أهم وأقدم أحياء محافظة الحسكة الرئيسية، سكانه من المكون العربي، وهو من أوائل الأحياء الثائرة التي رفعت شعارات الثورة وشاركت في فعالياتها. وقدّمَ أبناء غويران أوائل الشهداء الذين سقطوا بنيران النظام السوري، ومنذ منتصف عام 2012 سيطر أبناء حي غويران عليه، ومنعوا توغل قوات النظام داخله، وقد شنّت قوات النظام هجوماً شاملاً على الحي، في شباط/ فبراير 2014 مدعومة بميليشيا الدفاع الوطني “المقنعين”، استخدمت فيها الأسلحة الخفيفة والمتوسطة والثقيلة.
- 2. تشكيل المجلس الوطني الكردي ENKS (2011)
تشكّل المجلس الوطني الكردي في سوريا، في 26 تشرين الأول/ أكتوبر 2011، في أربيل بالعراق، برعاية ودعم مسعود بارزاني رئيس حكومة إقليم كردستان العراق. وبحضور أكثر من 250 شخصية تم اختيارهم، انطلق المؤتمر التأسيسي للمجلس الوطني الكردي، تحت عدة شعارات منها:
نحو دولة ديمقراطية برلمانية تعددية تضمن الحقوق القومية للشعب الكردي.
الاعتراف الدستوري بالشعب الكردي كمكون رئيس في البلاد.
وكانت المقررات الصادرة عن المؤتمر التأسيسي للمجلس الوطني الكردي، تشير إلى توجه القوى الحزبية الكردية إلى رفع شعارات ومطالب خاصة بالحالة الكردية، وكحال جميع الرؤى الصادرة عن الأحزاب الكردية، انقسمت أهداف المجلس الوطني الكردي إلى مجالين (المجال السوري، والمجال الكردي السوري)، مما يفتح المجال لتعزيز حالة التقوقع الكردية كحالة خاصة منفصلة عن المجال السوري وليست جزءا منه.
ففي المجال السوري كانت المقررات تحمل مواربة في وصف ما يحدث في سوريا بأنه ثورة، والاستعاضة عن ذلك بوصفه بأنه “أزمة وطنية متفاقمة يتحمل النظام مسؤوليتها”، أما أفق الحل في سوريا، فقد كانت بتغيير النظام الاستبدادي، ببنيته التنظيمية والسياسية والفكرية، وبناء دولة علمانية ديمقراطية تعددية برلمانية على أساس “اللامركزية السياسية”. أما في المجال الذي جرى تسميته بالمجال الكردي السوري، فقد كانت قرارات المؤتمر تعرّف الكرد بوصفهم ” شعب أصيل في سوريا يعيش على أرضه التاريخية”، مع المطالبة بالإقرار الدستوري بوجوده بوصفه ثاني أكبر قومية في البلاد، والمطالبة بإيجاد حل لما وصفه “بقضيته العادلة بما يضمن حق تقرير مصيره بنفسه ضمن وحدة البلاد” ، هنا تأتي عبارة ضمن وحدة البلاد لذر الرماد في العيون، فأي وحدة التي يمكن الحديث عنها، إذا كان يتم اعتبار الكرد شعب يعيش إلى جانب الشعب السوري، وأنه “أي الشعب الكردي” يعيش على أرضه التاريخية، بما يبرر من وجهة نظرهم حق تقرير المصير، أحد المبادئ الأربعة عشر التي قدمها رئيس الولايات المتحدة الأمريكية ويلسون سنة 1918، والتي ركز فيها على مبدأ السلم لإعادة بناء أوروبا من جديد بعد الحرب العالمية الأولى، وبالتالي كان مبدأ حق تقرير للشعوب التي خضعت لسيطرة المستعمرين الجدد كنتيجة للحرب، وتحريرها من سيطرة الجيوش المستعمرة، وبالتالي محاولة تشبيه الحالة الكردية في سوريا بحالة تلك الشعوب المستعمرة، فيه مغالطات تاريخية من جهة، وتفتح المجال أمام صراع قومي داخل سوريا لن ينتهي.
في منتصف أيلول/ سبتمبر 2013، وعلى أثر فشل تنفيذ التوافقات التي تم التوصل إليها في أربيل ودهوك في سنة 2012-2013 بين المجلس الوطني الكردي والقوى التابعة للعمال الكردستاني وإعلان مجموعة العمال الكردستاني عن إقامة “إدارة ذاتية” في أوائل أيلول 2013 كما سيمر معنا، قام المجلس الوطني الكردي بالانضمام إلى الائتلاف السوري لقوى الثورة والمعارضة السورية بشكل رسمي، بعد توقيع وثيقة مع الائتلاف ضمت بعض التعهدات ذات الطبيعة الدستورية التي لا يملك الائتلاف في واقع الأمر، سلطة البت فيها أو منحها، وكانت غاية الائتلاف ضم الكرد بأي ثمن وتشكيل جبهة تمثل أكبر قدر من مكونات الشعب السوري لتعزيز شرعيته في الساحة الدولية.
لكن السياسات الكردية للمجلس الوطني الكردي، بقيت تضع العصي في عجلة المعارضة، وتعمل في كثير من الأحيان على اتخاذ مواقف مخالفة للائتلاف، بل حتى أن أحزاب المجلس الوطني الكردي ناقشت في مرحلة من المراحل مسودة لدستور أطلقت عليه _ دستور كردستان سوريا_ مؤلفاً من 115 مادة، كانت تحاول وربما تعول على مواقف دولية تسمح بتأسيس إقليم كردي في الشمال الشرقي من سوريا، وبالتالي كانت مواد هذا الدستور ومضامينها خطوة نحو الانفصال، من خلال ما نصت عليه من مواد ومسميات وتبني لعلم كردستان العراق (العلم الكردي) ونشيد وطني ..الخ.
- 3. إعادة استخدام النظام لورقة العمال الكردستاني بعد الثورة (2011)
تلقى نظام الأسد رسائل زعيم العمال الكردستاني أوجلان وعروضَه التي أرسلها من سجنه، على شكل حوار مع محاميه تم نشرها في مواقع خاصة بالعمال الكردستاني، في وقت مبكر من الثورة السوريّة، وبحسب النشرة، فإن أوجلان أرسل رسالة، في 6 نيسان/ أبريل 2011، يقول فيها: “هُناك أخبار بشأن لقاء الأسد مع العشائر الكردية في سوريا، بينما على الأسد أن يلتقي بالتنظيمات الكردية هناك، مثل PYD (حزب الاتحاد الديمقراطي) وليس بالعشائر الكردية، إذا أجرت سوريا والأسد إصلاحات ديمقراطية، فإننا سندعمها، حيث يمكن الاعتراف بالحقوق الثقافية والإدارة الذاتية، أي الإدارة الذاتية الديمقراطية، ضمن هذه الإصلاحات، فمثلاً يمكن إدارة البلديات، ويمكن فتح المجال أمام الكرد ليديروا شؤونهم بأنفسهم، ويتم الاعتراف بهويتهم، فهم إن فعلوا ذلك سندعمهم، حيث إن سوريا دولة مهمة ويجب الانتباه إليها، فآل الأسد يعرفون نمط مقاربتي من القضية، فبهذا الشكل إن تم الاعتراف بحقوق الإدارة الذاتية الثقافية والإدارية، فنحن أيضاً سندعمهم، كما أن التنظيمات الكردية هناك ستساند سوريا. هذه الرسالة مهمة لنا في فهم العلاقة بين العمال الكردستاني وفروعه في سوريا من ناحية، وكذلك تظهر لنا أنّ المصطلحات والكيانات التي أعلنها حزب الاتحاد الديمقراطي في سوريا، هي ذاتها التي يذكرها أوجلان في رسالته (الإدارة الذاتية الديمقراطية، البلديات أو الكانتونات).
أبدى النظام اهتماماً بدعوات الكردستاني، وسعى لاستخدام ورقة العمال الكردستاني في سوريا مجدداً، وبدأ النظام، منذ الأشهر الأولى من عمر الثورة، بإطلاق سراح من له علاقة بالعمال الكردستاني من المعتقلين، كذلك فعل تجاه المعتقلين المتهمين بعلاقات مع التنظيمات الجهادية. كما تواصل النظام مع صالح مسلم، عن طريق زوجته التي أطلق سراحها، حيث استدعاه للخروج من مخبئه وعفا عنه، وبدأت علاقة التعاون التي يبدو -من خلال المعطيات- أنها سارت بخطط مدروسة، وفق توافق عريض على الخطوط التي وضعها أوجلان.
- 1. ظهور حواجز لقوات “pyd“
بدأت تظهر مظاهر مسلحة لقوات التنظيمات الكردية في ريف محافظة الحسكة لأول مرة، وبشكل خاص في المناطق الحدودية ذات الكثافة الكردية، وابتداءً من أيلول/ سبتمبر 2011، بدأت مظاهر تنظيم مجموعات pyd تبدو بشكل معلن في المدن والبلدات في الشمال السوري، كما افتتح pyd أول مدرسة كردية في عفرين، قرية دراقليا، في 6 أيلول/ سبتمبر 2011، وأول مركز للثقافة والفن، في حلب بحي الشيخ مقصود، باسم مركز “جميل هورو” في 21 من الشهر نفسه لذلك العام، وبدأ تدريجياً بالتوسع وافتتاح المراكز التابعة له في المدن والنواحي التي يشكل فيها الكرد أغلبية مثل عفرين، عين العرب، الدرباسية، عامودا، ديريك.
بدأ تعزيز وجود مسلح لجماعة العمال الكردستاني، في الأحياء والقرى الكردية بشكل خاص، يزداد على حساب انسحاب النظام تدريجياً منها وطوعاً ضمن خطة محكمة، كما لو أن الأمر استلام وتسليم، بإحكام سيطرة pyd على الشارع الكردي. يبدو أن النظام كان يتجنب التصادم مع الكرد مباشرةً، لأن ذلك سيوحد موقف الكرد مع الثوار السوريين في المناطق الأخرى، وسيجعل موقفهم أقرب إلى المعارضة السورية، وبدلاً من ذلك قرر النظام استخدام تنظيم “حزب الاتحاد الديمقراطي” الذي يمتلك خبرة تنظيمية، اكتسبها من المنظومة الأم العمال الكردستاني PKK. كان حزب الاتحاد الديمقراطي يعلم أن النظام يستخدمه لمحاولة كبح المظاهرات المؤيدة للثورة ضمن الشارع الكردي، وأيضاً لقمع الأحزاب الكردية الأخرى، فقبل بالدور المنوط به، لأن ذلك يحقق له مصلحة الانفراد بالشارع الكردي من ناحية، ويتيح له إعادة تنظيم صفوفه من ناحية أخرى، وخوض تجربة تطبيق نظريات ومبادئ أوجلان، في لعبة بدت كما لو أنها لعبة “عض أصابع” توقع النظام الانتهاء منها سريعاً، ثم الاستدارة نحو PYD، في الوقت الذي كان حزب الاتحاد الديمقراطي يأمل أن ينتهي النظام على يد المعارضة، بعد أن يكون قد استعد وتمكّن من تعزيز فرض سيطرته على الأرض.
تشكيل مجلس شعب غربي كردستان (2011)
بعد أقل من شهرين على قيام الأحزاب الكردية (المدعومة من إقليم كردستان العراق ورئاسته) بتأسيس “المجلس الوطني الكردي”؛ قام فرع العمال الكردستاني في سوريا بالدفع باتجاه تأسيس مجلس مقابل، تحت اسم “مجلس شعب غربي كردستان” عقد مؤتمره التأسيسي الأول في سوريا في ذروة سيطرة النظام على منطقة الجزيرة، في 12 كانون الأول/ ديسمبر 2011، بحضور 355 عضواً، تضمن البيان الختامي رؤية هذا المجلس لحل ما أسماه “القضية الكردية في سوريا” انطلاقاً من أيديولوجيا ومصطلحات العمال الكردستاني، مقتبساً مرافعات أوجلان التي أصدرها على شكل مجلدات في سجنه. ويمكن ملاحظة ما ورد في البيان الختامي للمؤتمر التأسيسي الذي يؤكد هذه العلاقة والارتباط الوثيق بالعمال الكردستاني.
ثالثاً: وحدات حماية الشعب (YPG)
1 ـ التأسيس
نظمت القوات المرتبطة بالعمال الكردستاني نفسها ضمن تنظيم أطلقت عليه اسم “قوات الدفاع الذاتية”، وفي 19 تموز/ يوليو 2012، تم الإعلان عن تشكيل “وحدات حماية الشعب” YPG، في بلاغ أصدرته القيادة العامة للوحدات.
هذه القوات هي الجناح العسكري الفعلي الممثل لحزب العمال الكردستاني في سوريا. وقد صرح جميل باييل نائب زعيم العمال الكردستاني بأنَّ: ” وحدات حماية الشعب (YPG) تقوم بتحقيق النجاحات اعتماداً على نهج سياسي. إنّ أيديولوجية القائد أوجلان ومفهومه في عملية الدفاع الذاتي لها تأثير كبير ومصيري في النجاحات التي حققتها حتى الآن”.
لاحقاً أعادت تلك القوات تنظيم نفسها تحت مسمى “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، في خطوةٍ اعتبر المراقبون أنها جاءت بناء على طلب أمريكي، لكي يكون الغطاء الأمريكي لهذه القوات تحت شعار أنها قوات (سورية)، وبذلك تتجنب الإحراج أمام عضو مهم في الناتو (تركيا) التي تعدّ حزب العمال الكردستاني والميليشيات المرتبطة به، قوات إرهابية. بقي القول بأن الفترة بين 2012-2015 كانت فترة ذهبية لانتقال آلاف المقاتلين من عناصر العمال الكردستاني (الأتراك والإيرانيين) إلى سوريا، وذلك بعد عملية اتفاق سلام مع الحكومة التركية.
2 ـ القمع ومحاولات بسط النفوذ والمواجهات الأولى
كانت منطقة الجزيرة في عامي 2013-2014 شاهدةً على عشرات الجرائم والانتهاكات والمجازر بحق المدنيين، على أيدي “وحدات حماية الشعب” YPG، في محاولة لترهيب السكان وإخضاعهم لسلطة الأمر الواقع. وحدثت المواجهة الأولى بين هذه القوات والسكان المحليين، بالقرب من محطة تل عدس، – أكبر محطة تجميع للنفط في حقول الحسكة-، في أواسط كانون الثاني/ يناير 2013. و في أواخر نيسان/ أبريل 2013، قاومت بعض العشائر العربية مثل البقارة والشرابيين محاولة تقدم “الوحدات” للسيطرة على تل تمر، دعم النظام من خلالها “الوحدات”، لتنتهي المواجهة بسيطرة الأخيرة لأول مرة على قرى ومناطق جميع سكانها من العرب، وبدأت هنا عمليات التجريف وحرق القرى، لتنتهي الأمور بعد سقوط ضحايا من الطرفين، بعقد هدنة تحولت لمصالحة يرعاها النظام، قبل أن تبدأ عملية احتواء الغالبية السكانية في المنطقة من العرب في صفوف “الوحدات”، سواء بالتجنيد القسري، أو باستغلال الوضع الاقتصادي المتردي آنذاك، وكان من ضمن ما ساعد “الوحدات” على ضم العناصر العربية، هي الرخصة التي سمح النظام بها لكل من يحمل هوية انتساب لـ”الوحدات”، بأن لا يتم سحبه للجيش، أو التعرض له. فقد تعامل النظام مع “الوحدات” كجناح رديف لقواته كما كانت تردد بثينة شعبان.
3 ـ المجازر بحق المدنيين
في الفترة الممتدة بين حزيران / يونيو 2013 وأيلول / سبتمبر 2014، ارتكبت قوات YPG التابعة لحزب العمال الكردستاني عدد من المجازر الجماعية بحق المدنيين، يمكن تلخيصها وفق التالي:
مكان المجزرة التاريخ الضحايا النتائج
بلدة عامودا 27-06-2013 مدنيون كرد قتل 6 مدنيين وجرح آخرين، واعتقالات طال العشرات.
قرية الأغيبش 23-11-2013 مدنيون عرب قتل 7 مدنيين وتجريف 27 منزلاً
ناحية تل براك ( قرى سميحان، دفي، عكر، تل فرس) 22-02-2014 مدنيون عرب قتل 42 مدنياً وتشويه للضحايا بمادة الأسيد، وتجريف أكثر من 150 منزلاً ومنشأة.
حي غويران في الحسكة (هجوم مشترك للنظام و YPG) 22-07-2014 حتى 16 آب 2014 مدنيون عرب 28 ضحية، بينهم امرأة و6 أطفال.
قرى ريف القامشلي ( تل خليل، الحاجية، المتينية) 13-09-2014 مدنيون عرب 35 شخصا بينهم 9 أطفال، و4 رجال مسنين، و3 نساء. وعدد الجرحى 5 أشخاص.
1ـ سياسات التهجير (الأرض المحروقة)
الأرض المحروقة هي إحدى السياسات التي يتبعها حزب الاتحاد الديمقراطي في تهجير السكان، وكانت موجهة بشكل حصري ضدّ العرب الذين يشكلون الغالبية السكانيّة. كانت قوات العمال الكردستاني تعمد إلى حرق القرى، وتجريف المنازل، وردم الآبار الزراعية، إضافة إلى زرع الألغام في المساحات المزروعة أو الجاهزة للزراعة، وتمنع الأهالي من العودة إلى قراهم، لدفعهم إلى النزوح إلى مناطق أخرى، ولا يزال أهالي بعض النواحي مثل (الشيوخ) ممنوعين من العودة إلى منازلهم حتى يومنا هذا.
برزت العديد من مظاهر الانتقام، في خطاب وممارسات العمال الكردستاني، ومن ضمن ذلك عبارات يمكن رصدها على حيطان المدن والقرى التي يتم السيطرة عليها في سوريا، وعلى لافتات المسيرات الشعبية، ومن خلال التصريحات الصحفية لقادتهم، أو تسميات المعارك: (عملية الانتقام لشهداء كوباني) في ريف تل أبيض، (YPG قد تسامح لكنها لا تنسى)، (حملة تحرير صرين انتقاماً لشهداء كوباني) ، (العهد الانتقام للشهداء في عفرين) ، (مسيرة: ثورة روجآفا انتقام لشهداء 12 آذار) ، (حملة الانتقام لشهداء تل تمر) ، (حملة انتقام لشهداء نوروز). وكذلك من خلال تصريحات مسؤولين كبار في تنظيم العمال الكردستاني، عن عمليات انتقام في سوريا، مثل: قره قيلان عضو الهيئة التنفيذية PKK : “شهداء عفرين قدوة لنا والانتقام لهم عهدنا”.
من القرى التي جرى تجريفها بعد حرقها في الجزيرة يمكن ملاحظة: ( قرية الرحية في ريف القامشلي، تهجير 131 عائلة من رأس العين في نيسان 2014، تجريف 10 منازل لعائلة السهم في تل تمر في تشرين الأول 2015، حرق وتجريف 211 منزلا من أصل 225 في قرية الحسينية في آب 2015 وفق ما وثقته منظمة العفو الدولية، بالإضافة إلى حرق وتجريف قرى منطقة جنوب الرد في ريف القامشلي في 23 آب 2014 والقرى هي: الحنوة، الزرقاء، أبو مناصب، خربة الأحيمر، الكاخرتة، السكيرية، مزرعة الحنوة، البشو، سفانة، عكرشة، تل سحن، تهجير أهالي ناحية الهول في تشرين الثاني 2015، وتهجير سكان مجموعة قرى سلوك وتل أبيض وعين عيسى، مثل: عبدي كوي وأبو خرزة، وبعض القرى الأخرى التي تقع غربي منطقة تل أبيض.
رابعاً: خارطة القوى الأخرى
ظهور “الجيش الحر” في الجزيرة
بدأ “الجيش الحر” منذ نهاية 2012 بعمليات سيطرة على محافظة الحسكة، كان معظم منتسبيه من أبناء المحافظة، بينهم كرد حملوا اسم الشهيد مشعل التمو، ومنهم من أبناء غويران الذين منعوا النظام من دخول أحيائهم في الفترة الممتدة بين آواخر 2012 وحتى الربع الأخير من 2016، سيطر “الجيش الحر” أيضاً على معابر حدودية مثل اليعربية، وسيطروا على رأس العين بعد طرد عناصر العمال الكردستاني من هناك، وسيطروا كذلك على أكبر ناحية عقارية في محافظة الحسكة ( تل حميس) التي تضم أكبر مخزون استراتيجي للقمح، وبدأت تتقاطر كتائب من “الجيش الحر” من محافظات أخرى وخاصة من دير الزور، وكان ملاحظ وجود انتهاكات بحق الممتلكات، وكان كذلك ملاحظ وجود مجموعات من اللصوص التي تعلن أنها جزء من الجيش الحر، لكن مهمتها كانت تنحصر في السرقات ومحاولة السيطرة على بعض المرافق أو المخازن. ونفذ النظام سنتي 2013-2014 مئات الغارات الجوية على مناطق سيطرة كتائب المعارضة وعلى القرى المدنية في ريف القامشلي والحسكة، وبالرغم من ذلك فشلت عناصر العمال الكردستاني في شهر كانون الأول / ديسمبر من عام 2013 من اقتحام تل حميس، وتكبدت عناصره خسائر بشرية فادحة في صفوفه قدرت بالمئات وكانت من أعظم الخسائر التي تعرض لها هذا الحزب منذ نشأته. ولم يتوقف قصف النظام إلّا بعد أن سيطر تنظيم “داعش” على تل حميس مستغلة ظروف الاضطراب هناك، حيث بدأت بنزع سلاح باقي فصائل المعارضة، وطرد من يرفض ذلك أو قتله، وهنا بدأ مسلسل سيطرة داعش على المنطقة، قبل تسليمها بالكامل لـ “الوحدات” دون أي مواجهات بين الطرفين.
ظهور “داعش”
ظهر داعش لأول مرة على الساحة السورية في آذار 2013، في مرحلة بالغة الضبابية ومشهد يضع الكثير من علامات الاستفهام حول ظروف نشأته، وتمكنه خلال فترة وجيزة من التسلح بأحدث الأسلحة، وفتح المجال أمامه لأخذ أسلحة الجيش العراقي الذي انسحب أمامه وترك له معدات وآليات وعربات وكميات كبيرة من الأموال في البنوك والمصارف في مدينة الموصل، سبق ذلك هروب عناصر من القاعدة من سجون المالكي، وكذلك إخراج النظام السوري لمجموعة كبيرة من المتشددين الذين سبق لمعظمهم المشاركة في عمليات قتالية داخل العراق في السابق.
كانت القيادات المحركة لداعش هلامية، جميعها تحمل أسماء حركية والقرار يأتي دائماً من قيادات أجنبية لا يعرف عنها أبناء المناطق السورية شيء، بالرغم من انضمام عدد من أبناء المنطقة للتنظيم، سواء تحت مبررات عقائدية تم اقناعهم من خلالها بمشروعهم، أو تحت نير الظروف الاقتصادية التي تدفعهم للعمل مع أي مشروع يعود عليهم بدخل معقول.
في تجربة داعش في سوريا يمكننا إيجاز النقاط التالية:
داعش هو التنظيم الوحيد الذي امتلك حرية الحركة والتنقلات بين المدن السورية والعراقية دون أن تتعرض قوافله لأي استهداف من النظام أو باقي الدول، على الرغم من إعلان الكثير من الدول بأنها بدأت فعلياً بمحاربة داعش.
امتلك تنظيم داعش أجهزة تصوير وإخراج لأفلامه المصورة هي الأحدث في العالم، وخبرات فنية لا تستطيع توفيرها سوى القليل من الدول حول العالم، ومؤسسات سينمائية كبرى تشبه هوليود.
داعش التنظيم الوحيد الذي كان ينشر عبر الشبكة العنكبوتية ما يريد، دون أن تتعرض مواقعه للتهكير أو الحجب، بل كانت وسائل الإعلام العالمية تساعده في بث الرسائل التي كانت هناك رغبة من أطراف دولية لإيصالها وبشكل متعمد، في إطار جهود لتعزيز الإسلامفوبيا في العالم.
داعش استهدف البلدان التي ثارت شعوبها ضد الاستبداد، وانتشرت في سوريا والعراق وليبيا، وبدأت بضرب جميع الفصائل المعارضة العسكرية، والنشاطات والفعاليات الثورية والمدنية السلمية المناهضة للأنظمة الاستبدادية أيضاً، وكان انتشارها في الخارطة السورية ضمن المناطق والبلدات الثائرة تحديداً.
النظام السوري كان يتعمد التحليق فوق حواجز ومقرات داعش في الرقة وريف الحسكة، ليستهدف من خلفها فصائل الجيش الحر وباقي الفصائل التي تحارب النظام، وكذلك استهداف المناطق المدنية والقرى والأسواق. في عملية كان الهدف منها تقوية داعش، وتهجير السكان المدنيين تحت ذريعة وجود داعش.
لم تقم أي دولة بمحاربة داعش بشكل رسمي قبل إعلان الإدارة الأمريكية الحرب ضدّ داعش سنة 2018، وحتى بعد انتهاء الحرب على داعش التي نتج عنها تدمير 80% من مدينة الرقة، بقيت هناك إشارات استفهام كبيرة عن مصير داعش وقياداتها الأجنبية، وعلى الأقل جثث مقاتليها التي لم يظهر منها شيء على العلن.
باختصار يمكننا القول بأن داعش كان الشماعة التي لا بد منها لتبرير جميع التدخلات الأجنبية التي حدثت في سوريا بحجة محاربة داعش، وكان طوق النجاة للنظام الذي حاول من خلاله تبرير عمليات القتل والقصف العشوائي وتهجير المدنيين ضمن لعبة مررها الإدارات الغربية أيضاً.
خامساً: الإعلان المتدرج عن الإدارة الذاتية – (بالونات الاختبار)
1ـ إدارة مدنية انتقالية في “غرب كردستان – سوريا”
في 13 آب/ أغسطس 2013، أعلن حزب الاتحاد الديمقراطي، انتهاءَ المرحلة الأولى لمشروع الإدارة الذاتية، ودخوله المرحلة الثانية عبر البدء بتشكيل هيئة تشريعية مكلفة بتشكيل الهيئة الإدارية الانتقالية للمنطقة. وفي 12 تشرين الثاني/ نوفمبر 2013، بالتزامن مع إعلان المعارضة السورية تشكيل الحكومة الانتقالية، أعلن الاتحاد الديمقراطي PYD تشكيلَ ما أسماه “الإدارة المدنية الانتقالية لمناطق غرب كردستان – سوريا”، وتشكيل مجلس عام للإدارة الذاتية، تمّ وسمها بـ “المرحلية”.
2ـ الإعلان عن الإدارة الذاتية
عشية مباحثات (جنيف 2) التي استبعدت الميليشيات التابعة للعمال الكردستاني التي كان يمثلها سياسياً حزب الاتحاد الديمقراطي برئاسة صالح مسلم، جرى الإعلان عن الإدارة الذاتية، بعد اجتماع ما سمّي بالمجلس التشريعي للإدارة الذاتية، في 21 كانون الثاني/ يناير 2014 في مدينة عامودا، معلناً أسماء أعضاء المجلس التنفيذي (الحكومة المؤقتة) وعددهم 22 عضواً (وزيراً). حيث شغل 5 أعضاء مختارين من السريان والعرب كلاً من هيئات (حقوق الإنسان، التموين، المواصلات، التجارة، الزراعة)، فيما شغلت شخصيات كردية الهيئات الثمانية عشر المتبقية. وهكذا أُعلنت “الإدارة الذاتية” فيما سمّي كانتون الجزيرة (مقاطعة الجزيرة)، ثم جرى الإعلان عن الإدارة الذاتية، فيما سمّي كانتون كوباني، بتاريخ 27 كانون الثاني/ يناير 2014، ثم كانتون عفرين بتاريخ 29 من ذات الشهر.
3ـ الخطوات السياسية وتشكيل “مجلس سوريا الديمقراطية” (مسد)
مؤتمر “ديريك” رداً على مؤتمر الرياض
انطلق مؤتمر الرياض بين 8-10 كانون الأول/ ديسمبر 2015، وضمّ لأول مرة أطراف المعارضة السورية المختلفة بما فيها معارضة الداخل المتمثلة بـ”هيئة التنسيق الوطنية لقوى التغيير الديمقراطي”، كذلك استثنى المؤتمر دعوة حزب الاتحاد الديمقراطي PYD بالرغم من أنه كان حتى تاريخ انعقاد المؤتمر جزءاً من هيئة التنسيق الوطنية، الأمر الذي دفع صالح مسلم إلى إعلان تجميد عضوية حزبه في هيئة التنسيق، وتحت شعار “معاً نحو بناء سوريا حرة وديمقراطية”، قام بتنظيم مؤتمر في بلدة المالكية (ديريك) التابعة لمحافظة الحسكة، في الفترة نفسها، بين يومي 8-9 كانون الأول/ ديسمبر 2015، تحت اسم “مؤتمر قوى المعارضة السورية”، بحضور هيثم المنّاع، رئيس تيار (قمح) الذي انسحب من مؤتمر الرياض أيضاً، في نهاية أعمال مؤتمر ديريك، أُعلن عن ولادة جسم سياسي جديد يحمل اسم مسد “مجلس سوريا الديمقراطية” الذي سيتولى هيثم المناع رئاسته إلى جانب المقاتلة السابقة في صفوف العمال الكردستاني (إلهام أحمد).
وبحسب الوثيقة السياسية المقررة في المؤتمر، فإن مجلس سوريا الديمقراطية سيكون الممثل لقوات سوريا الديمقراطية (قسد) التي تأسست بتاريخ 15 تشرين الأول/ أكتوبر 2015. كما أكدت الوثيقة السياسية على الإقرار بالحقوق القومية للشعب الكردي، والشعب السرياني الأشوري الكلداني، والشعب التركماني والأرمني والشركسي، وحلّ قضيتهم حلاً ديمقراطيا عادلاً، وفق العهود والمواثيق الدولية، في أي دستور توافقي قادم.
الإعلان عن مشروع “فيدرالية – روجآفا” وانسحاب المناع
تزامناً مع تصريحات روسية وأميركية ملتبسة بإمكانية إقامة دولة فيدرالية (اتحادية) في سوريا، مع تأكيد روسيا، 29 شباط/ فبراير 2016، على لسان نائب وزير خارجيتها، أنها لن تمانع فكرة إنشاء جمهورية فيدرالية في سوريا، أعلن حزب الاتحاد الديمقراطي PYD والقوى الشكلية التابعة لمشروعه، في اجتماع عُقد بمدينة الرميلان، بمحافظة الحسكة، في 17 آذار/ مارس 2016، قيامَ ما أسموه “الفيدرالية الديمقراطية لروجآفا – شمال سوريا” ، ولا يبدو أن هذا الإعلان جاء صدفة، بل كان يستبق معركة ضدّ داعش في الرقة، سوقت من خلالها أمريكا القوات الكردية كشريك في محاربة “الإرهاب”، لذلك نجد أن المؤتمر أبقى الباب مفتوحاً من خلال مقرراته، أمام ضمّ مناطق سورية أخرى مستقبلاً لما سمّوه (النظام الاتحادي الديمقراطي لروجآفا) وجاء فيه: “يحق للمناطق التي يتم تحريرها من التنظيمات الإرهابية أن تكون جزءاً من النظام الاتحادي الديمقراطي لروجآفا- شمال سورية، بشكل توافقي”، وبالفعل هذا ما حدث بعد “مسرحية” تحرير الرقة، التي أفضت إلى ضم الرقة لهذا المشروع مع مناطق دير الزور أيضاً.
هيثم مناع رئيس استقال من رئاسة مسد على أثر الإعلان عن المشروع الفيدرالي، وبيّن مناع أسباب الاستقالة، بالاختلاف مع حزب الاتحاد الديمقراطي، حول مفهوم الإدارة الذاتية الديمقراطية، التي يرى المناع أنها تحتاج إلى قوة المثال لا شكلية الشعار، ولا تتحقق بقرار حزبي أو سياسي من فوق. وأن الديمقراطية التشاركية اسم على مسمى، أي أنها عملية سياسية مجتمعية، وليست مجرد برنامج سياسي يقرره عدد من مندوبي المنظمات والهيئات والروابط الاجتماعية والمدنية.
4ـ السيطرة على المؤسسة التعليمية (التجهيل الممنهج)
سيطر حزب العمال الكردستاني على المؤسسات والمباني الحكومية، في الأحياء والنواحي والمناطق والقرى التي أخضعها لسيطرته العسكرية، ومن ضمن ذلك المدارس وجميع المباني المرتبطة بالمؤسسة التعليمية، باستثناء المربع الأمني في مدينة القامشلي، إلا أن الخطورة لا تكمن فقط في سيطرة هذه القوات على المدارس، واستخدام بعضها كمقرات أو سجون أو مراكز تدريب، بل بات نهج هذه القوات في محاولتها هدم العملية التعليمية يشكل الخطر الأكبر على المنطقة ومستقبل أبنائها، حيث قامت -عبر ما يعرف بالإدارة الذاتية- بعدة خطوات في هذا الإطار منها:
فرض مناهج دراسية تحمل أيديولوجية حزب العمال الكردستاني وخطابه ومصطلحاته، وتشجع بمجملها على “العنف الثوري”.
إلغاء بعض الحصص الدراسية كالتربية الدينية، وفرض مادة أخرى يتم من خلالها تناول العديد من العقائد الغريبة عن المنطقة وهويتها وعقائد سكانها، ومنح الديانة الإسلامية هامشاً ضئيلاً ضمن هذه المادة وبشكل محرّف وخال من أي قيمة حقيقية.
الاستعاضة عن كتاب التربية القومية الذي كان يفرضه حزب البعث بشكل إلزامي على التلاميذ لدراسة فكر وأيدولوجية ومنهاج حزب البعث، بمادة يتم من خلالها دراسة منهج العمال الكردستاني، وما يروج له تحت شعارات الديمقراطية، كبناء الأمة الديمقراطية، وهو أحد الشعارات التي يطرحها حزب العمال الكردستاني في نشراته وأدبيّاته.
فرض التعليم باللغة الكردية كيفما اتفق، من دون وجود مدرسين لها، وباستخدام أشخاص عديمي الكفاءة، في ظل انعدام أي تجارب في هذا المجال.
استبعاد المدرسين الأصلاء وانتداب مدرسين من حملة الشهادة الإعدادية والابتدائية أحياناً للتدريس، ومعظمهم غير مؤهلين، إضافة إلى أن مادة اللغة العربية في هذا المنهاج ركيكة جداً، ولا يحتوي المنهاج على أي قيمة علمية حقيقية.
يبدو أن ذلك غير منفصل عن توصيات المؤتمر الثاني لمؤسسة اللّغة الكرديّة “SZK” الذي عُقد في مدينة عفرين، بتاريخ 18 كانون الثاني/ يناير 2015، وأكد على ضرورة “ترسيخ النظام التعليمي وفق مبادئ الأمة الديمقراطية، استناداً إلى فلسفة قائد الشعب الكردي عبد الله أوجلان”، وضرورة تأهيل الكادر التدريسي لنفسه بجهود ذاتية، إضافة إلى وجوب خضوع جميع الأعضاء للتدريب الأيديولوجي، الثقافي والمسلكي، وضرورة عمل الهيئة على البدء بالتعليم بشكل رسمي باللغة الكردية، خلال العام الدراسي 2015- 2016.
سادساً: انفجار الوضع بين النظام والعمال الكردستاني
كانت العلاقات بين النظام السوري والقوات الكردية تتجه إلى التصعيد، وتخلل ذلك مواجهات متقطعة بين القوات الموالية للنظام (الدفاع الوطني) والقوات الكردية، وذلك باستخدام الأسلحة الخفيفة في الحسكة وفي القامشلي، وبدأت هذه المواجهات في محاولة لفرض النظام سيطرته على هذه القوات، بعد أن بدا له بأنها تتجه للخروج من عباءته بعد تحالفها العسكري مع الولايات المتحدة الأمريكية.
في 18 أغسطس / آب 2016 أعلن متحدث باسم وحدات حماية الشعب الكردية أن طائرات النظام قصفت مناطق يسيطر عليها الكرد في مدينة الحسكة بشمال شرقي البلاد، لأول مرة خلال النزاع الدائر في سوريا منذ 2011. وفي اليوم التالي نشرت وكالة رويترز تصريحاً لمسؤول بوزارة الدفاع الأمريكية (البنتاجون) قال فيه إن طائرات تابعة للتحالف الذي تقوده الولايات المتحدة أرسلت قرب مدينة الحسكة بشمال شرق سوريا لحماية قوات برية للتحالف ردّاً على قصف طائرات النظام. وقال المتحدث باسم البنتاجون الكابتن جيف ديفيز إن الواقعة لم تكن لاعتراض طائرات، وإن طائرات التحالف وصلت إلى المنطقة بينما كانت الطائرات الحربية “السورية” تغادر. لم يمضِ وقت طويل حتى لعبت روسيا دور وسيط بين حلفاء الأمس (النظام، العمال الكردستاني)، حيث تم توقيع اتفاق وصف بالمذل للنظام، تم توقيعه في قاعدة حميميم الواقع تحت السيطرة الروسية.
سابعاً: تركيا واستهداف الـ PKK في سوريا
1ـ عملية درع الفرات
بالتزامن مع ذلك بدأت أنقرة في 24 أغسطس / آب 2016 بتدخل عسكري مباشر في منطقة جرابلس، في عملية أطلقت عليها اسم (درع الفرات) جرت بتعاون تركي مع بعض فصائل الجيش السوري الحر، واستمرت سبعة أشهر، حيث كانت أهدافها المعلنة محاربة الإرهاب وتطهير المناطق الحدودية من داعش وقوات “ب ي د – بي كي كي” بحسب الإعلان التركي. نجاح التدخل التركي تحت اسم عملية “درع الفرات”، عزز الوجود التركي العسكري في سوريا، الذي تم تسويقه كضامن أساسي في سوريا وحماية للأمن القومي التركي. وكانت تركيا تقول إن عملها هذا دفاعي وليس هجومي، لكنها كانت تبقي الباب مفتوحاً أمام احتمالية قيامها بعمل هجومي تمهيداً للتوسع في مناطق أخرى.
2ـ عملية غصن الزيتون وإسقاط كانتون عفرين
علمية غصن الزيتون (بالتركية: Zeytin Dalı Harekâtı) هو الاسم الرمزي للعملية التي شنتها قوات من المعارضة السورية والقوات التركية، ضدّ مواقع القوات التابعة للعمال الكردستاني في سوريا، وكان هدف العملية هو السيطرة على عفرين التي كانت القوات قد أعلنت عن أنها إحدى مقاطعات الإدارة الذاتية تحت مسمى (كانتون عفرين).
أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن انطلاق عملية غصن الزيتون في 20 كانون الثاني / يناير 2018، معلناً بأن القوَّات المُسلَّحة التُركيَّة بدأت فعليا في عمليتها العسكرية، لطرد مقاتلي الأحزاب الكردية من مدينة عفرين، وأن هذه العمليَّة العسكريَّة لن تتوقف عند عفرين وحسب، بل ستكون مدينة منبج – التي تسيطر عليها “الوحدات” الكردية – هي التالية، وقال: “سنطهّر دنس الإرهاب الذي يحاول تطويق بلادنا حتى حدود العراق”. واعتبر أن تركيا لن تكون آمنة، ما دامت سوريا غير آمنة.
“الوحدات” تستغيث بالنظام السوري
استغاثت “وحدات حماية الشعب” بحكومة النظام السوري على أثر التدخل التركي، ودعت الأسد إلى إرسال قوات لمساعدتها في صد الهجوم التركي. ودعا الرئيس المشترك للمجلس التنفيذي لقوات سوريا الديمقراطية في مقاطعة عفرين، عثمان الشيخ عيسى، النظام السوري إلى التدخل لمنع الطائرات التركية من قصف المنطقة. وصرَّح الشيخ عيسى لوكالة الصحافة الفرنسية قائلًا: “إذا كان هناك من موقف حقيقي ووطني للدولة السورية، التي لديها ما لديها من إمكانات، فعليها أن تقف بوجه هذا العدوان وتقول إنها لن تسمح بتحليق الطائرات التركية”.
اشترط النظام على “الوحدات” تسليمه منطقة عفرين وعودة مؤسساته إليها كي يتدخل ويُساعدهم في التصدي للهجوم التركي، لكن “الوحدات” رفضت المقترح رفضا تاما وقدمت مع باقي الأحزاب الكردية اقتراحاتٍ إلى روسيا، حليفة النظام، أن تطرح على النظام إمكانية أن ينتشر الحرس الحدودي السوري على الحدود مع تركيا؛ ليحمي منطقة عفرين، مع بقاء قوات الدفاع والشرطة والأمن الكردي في المنطقة المذكورة، واعتبروا أنَّ هذه الخطوة من شأنها طمأنة تركيا التي ترفض قيام دولة كردية على حدودها.
توصَّلت وحدات حماية الشعب الكرديَّة والنظام السوري، إلى اتفاقٍ يقضي بإنشاء قاعدة لقوات النظام في عفرين والانتشار على عدد من النقاط الحُدوديَّة. وقالت وكالة فرات نيوز التابعة لحزب العمال الكُردستاني إنَّ المُفاوضات بين “الوحدات” والنظام السوري كانت قائمة مُنذُ عدَّة أيَّام في منطقة حلب بحضور قيادات رفيعة من وحدات حماية الشعب وقوات النظام، وأنها أفضت إلى اتفاقٍ يقضي بِإنشاء قاعدة انطلاق لجيش النظام، وتوزيع بعض نقاطه على الحُدود المُواجهة لِتركيا، ومنع الطيران التُركي من التحليق في أجواء عفرين. لكن أردوغان أعلن أن تركيا أحبطت مخطط نشر قوات النظام في عفرين بعد محادثات أجريت مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. كما صرَّح مسؤولون في “الوحدات” لوكالة الأنباء الألمانيَّة بِكلامٍ مُشابه، حيث اتهموا روسيا بوضع العقبات أمام الاتفاق مع النظام السوري، كما قالوا إنّ الولايات المتحدة تُنسِّق هي الأُخرى مع الروس، وأنَّ هاتين القوتين أعطتا تُركيا اليد العُليا لِمُهاجمة عفرين.
3ـ عملية نبع السلام
أطلقت تركيا في 9 تشرين الأول/ أكتوبر 2019، عملية عسكرية في الشمال السوري أطلقت عليها اسم نبع السلام، وشملت في مرحلتها الأولى المناطق الواقعة بين تل أبيض ورأس العين، بما فيها تلك المدن، تبعها تفاهمات تركية – روسية – أمريكية حول المنطقة شمال شرق سوريا، أحدثت تغييراً في خريطة سيطرة القوى الدولية والمحلية في الشمال السوري، خصوصاً تلك المنتشرة في ريف محافظة الحسكة.
بالنسبة للقوات الأمريكية، فقد سحبت قواتها من عدة قواعد أهمها قاعدتي “صرين وخراب عشق” في عين العرب بريف حلب الشمالي، وقاعدة منبج ومن قواعدها في تل أبيض وعين عيسى في الرقة، وكذلك من قاعدة قرية تل أرقم في منطقة رأس العين في الحسكة. الأمر الذي شكل خيبة أمل كبيرة لقسد، واتهمت القوات الأمريكية بطعنهم بالظهر وبيعهم لتركيا. وقد رافق الانسحاب تعزيز للقواعد الأمريكية في كلٍ من: قاعدة هيمو الكائنة في الجهة الغربية من مدينة القامشلي، وقاعدة الشدادي بالقرب من الحقل النفطي وقاعدة رميلان وإنشاء قاعدة جديدة في حقل عودة النفطي شرق ناحية القحطانية بالحسكة.
أما فيما يخص القوات الروسية، فقد كان عددها قبل عملية “نبع السلام” محدوداً جداً، ويقتصر على بعض الضباط الموجودين في مطار القامشلي، ومع بدء العملية التركية وحصول تفاهمات جديدة بين الجانبين التركي والروسي زاد عدد هذه القوات بشكل كبير، خصوصاً القوات الجوية لتتخذ من مطار القامشلي (مطار مدني وعسكري) قاعدة لها بالإضافة إلى السيطرة على النادي الزراعي لتجمع العناصر والآليات الأخرى.
والجدير بالذكر أنّ قاعدة “هيمو” الأمريكية تبعد نحو 4 كيلو متر فقط شمال غرب القاعدة الروسية الموجودة في مطار القامشلي.
وتتولى القوات الروسيّة، مهمة تسيير دوريات مشتركة مع تركيا في كل من عين العرب في أطراف المنطقة الآمنة في رأس العين وتل أبيض والدرباسية وعامودا، وكذلك المنطقة الحدودية بدءاً من شرق القامشلي وحتى أقصى نقطة في عين ديوار التابعة للمالكية شرقا وتقول: إن مهمتها التأكد من انسحاب “قسد” والإشراف على عملية وقف إطلاق النار.
وفيما يخص قوات النظام، فقد انتشرت في مناطق عدة لم تدخلها منذ نحو 7 سنوات أهمها مدينة “تل تمر” الاستراتيجية وبعض القرى في محيط المدينة الشمالي والشمالي الشرقي حتى بلدة أبو راسين شمال شرق تل تمر بنحو 22 كيلو متر، بالإضافة إلى انتشارها في عدة نقاط على طول الشريط الحدودي من مدينة الدرباسية غرب القامشلي إلى مدينة المالكية أقصى شمال شرق الحسكة (كامل المسافة نحو 150 كيلو متر).
يذكر أن انتشار قوات النظام على طول الشريط الحدودي الواقع شرق مدينة القامشلي يعتبر محدودا جداً مقارنة ببقية مناطق انتشاره؛ فعدد عناصره لا يتجاوز 100 عنصر ويتمركزون في 10 نقاط تقريباً، مع أسلحة خفيفة فقط ولا يسمح لهم بدخول مراكز المدن والقرى إلا برفقة “قوى الأمن الداخلي” التابعة لما يسمى (بالإدارة الذاتية).
أما تركيا وفصائل “الجيش الوطني”، فسيطرت على مدينة رأس العين الحدودية بالإضافة إلى بعض القرى من الجهة الشرقية للمدينة، وكامل ريفها الجنوبي حتى الطريق الدولي (m4) باستثناء بعض القرى في محيط تل تمر الشمالي التي ما تزال تشهد تجدداً للاشتباكات بين فترة وأخرى بين “قوات نبع السلام” مدعومة بالقوات التركية من جهة وقوات النظام السوري و”قسد” من جهة أخرى.
الانتهاكات في مناطق السيطرة التركية
لقد تنوعت الانتهاكات في مناطق السيطرة التركية سواء في درع الفرات، أو غصن الزيتون، وأخيراً نبع السلام، وإن كان يحسب لتركيا بأن تدخلها لم يرافقه تدمير للمدن ولا المرافق داخل المناطق التي دخلتها مع فصائل المعارضة، فإنّ ما يحسب عليها هو الآلية التي تمت إدارة المناطق التي وقعت السيطرة عليها، فوضع هذه المناطق تحت السيطرة العسكرية لفصائل لا تخضع للمحاسبة على تجاوزاتها، جعل الفوضى في تلك المناطق في أعلى مستوياتها.
يمكننا إيجاز نماذج الانتهاكات التي تحدث في مناطق النفوذ التركي بما يلي:
الحواجز العسكرية التي تفرض ضرائب وإتاوات مرتفعة على الآليات والمارة والمتنقلين من منطقة لأخرى.
مصادرة المنازل والأملاك للعوائل التي هربت من المنطقة بذريعة انتماء بعض أفرادها لـ”الوحدات”، وأحياناً دون أن يكون هناك ذريعة لذلك.
السرقات التي تركزت على المرافق العامة والأملاك الخاصة أيضاً.
التعسف والبطش بالمدنيين، وكذلك التعذيب أحياناً لبعض المحتجزين التي تصل إلى حد القتل.
انتهاكات رأس العين أنموذجاً
رأس العين مركز منطقة تابعة لمحافظة الحسكة، غالبية سكانها من العرب، وهي ضمن منطقة عملية “نبع السلام” التي تقودها تركيا بدعم على الأرض من فصائل سورية.
نستعرض هنا جزءا من الانتهاكات التي حدثت في رأس العين (جزء من نبع السلام)، كنموذج لما يحدث في المناطق التي تسيطر عليها تركيا.
مع دخول الفصائل التابعة للجيش الوطني لرأس العين، نزح معظم سكان المدينة والقرى المحيطة بها إلى مناطق أخرى خوفاً على حياتهم، أما أولئك الذين لم يبقوا في قراهم ومناطقهم، فقد تندموا على البقاء، فالانتهاكات التي تم ارتكابها من قبل الفصائل المشاركة في عملية نبع السلام بحق المدنيين وأملاكهم أكبر من الوصف، خاصة أنها حدثت في قرى ومناطق معظم سكانها هم ضحايا سابقون لانتهاكات حزب العمال الكردستاني، وبالتالي كانوا ينتظرون من يعاملهم بطريقة أفضل ويعيد لهم حقوقهم.
أبرز ما حدث ولا يزال في منطقة نبع السلام، وبشكل خاص منطقة رأس العين، هو عملية تقسيم المنطقة لقطاعات، كل قطاع مسؤول عنه فصيل، يقوم من خلاله بعمليات فرض الضرائب على الشاحنات، و الإتاوات على الناس، وتتم عملية ( تشليح) علنية لأموال الناس، ناهيك عن السرقات التي طالت جميع المنازل الخالية من السكان، بل وطالت حتى محولات الكهرباء. وعلى الرغم من الشكاوي المقدمة لقيادة الجيش الوطني الذي تندرج تحته تلك الفصائل، فلا تزال عملية فرض الضرائب والإتاوات جارية، خاصة على حواجز الطرق العامة، وعلى البضائع التي تدخل البلدة، بحيث ارتفعت أسعار البضائع والخضار والأغذية إلى أضعاف الأسعار في المناطق التي تسيطر عليها قسد. أبرز الفصائل العسكرية التي تسيطر على المنطقة اليوم هي ( السلطان مراد، الحمزات، أحرار الشرقية، شهداء بدر، فصائل تابعة للسلطان معتصم، فيلق الرحمن، الفرقة 20، القعقاع) وغيرها.
هناك على ما يبدو مجلس مدني محلي في هذه المدينة، يرغب في الإصلاح، وغير راضٍ عمّا تقوم به الفصائل، وعلى الرغم من جهودها في مجال الإصلاح، إلا أن السلطة الفعلية بيد الفصائل المسلحة، التي أعاقت حتى تسليم المدينة لشرطة مدنية من أبناء المنطقة بعد أن تخرجوا من دورة تأهيلية لممارسة أعمالهم في حفظ الأمن في المدينة.
من المرجّح أن هذه الممارسات لا يمكن لها أن تحدث خارج الإرادة التركية، فتركيا تستطيع بسهولة إيقاف تلك الممارسات، وتستطيع أيضاً وضع هذه الفصائل تحت قيادة مدربة من كوادر الضباط المنشقين الذين تم إبعادهم وتسليم القيادة لأشخاص غير مؤهلين وأصحاب سوابق، لتكون النتيجة كما نرى من الانتهاكات، التي دفعت بعض السكان لتفضيل عودة الوضع على ما هو عليه تحت سيطرة قسد، من أن يبقى الأمر تحت سيطرة هذه الفصائل.
المصدر: بروكار برس