محمود الوهب
منذ ثلاثة أشهر تقريباً، لا أخبار في المحطات الفضائية سوى جائحة كورونا، ولا مقالات في الصحف والمواقع الإلكترونية والفيديوهات غير الحديث عن فيروسها الذي عرف بـ كوفيد 19، وإذا كان تركيز الأقنية الفضائية وسواها من الأدوات الإعلامية المختلفة على أخباره وأماكن انتشاره وتوثيق أعداد الناس بين إصابة وعزل وموت وشفاء، إضافة إلى استقبال الأطباء وخبراء الأوبئة وأدوات الوقاية وطرقها بهدف توعية الناس اتقاء لهذا الوباء الخطير، فإن المقالات المتخصصة في مجالات متعددة قد تناولت عمق تأثيرات هذا الفيروس، لا في حياة الناس فحسب، بل في شؤونها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، وكذلك في العلاقات الإنسانية التي لم ترتق رغم كل تقدمها في مجالات الحياة كافة إلى مستوى الإخوة الإنسانية، بل ظلت عوامل الأنا الفردية أحد أهم أسباب انتشار الوباء.
ويعود ذلك إلى الدول الغالبة في العالم التي ينصبُّ جلُّ اهتمامها على ما يُبقي كياناتِها وثرواتِها وسيادتَها وسيطرتها، ومن أجل ذلك ميزت نفسها بالتعالي والعدوان على الشعوب الأخرى مستعينة بالقوة العسكرية، وتوجه عدوانها إلى الحياة التي أكثر ما تتجسد في الإنسان والطبيعة المحيطة به.. ففي مجال حياة الإنسان لم يكن بعضها يولي الاهتمام الكافي، حتى في بلده، للحقول الاجتماعية كالصحة والتعليم والخدمات الأخرى توفيراً لأسباب الحياة الأفضل ما جعل خللاً في موازين الحياة ذاتها، واتسعت، من جهة أخرى، الهوة بين الفقراء والأغنياء أفراداً وشعوباً وحدث تخلف في التنمية لدى معظم بلدان العالم حتى تلك التي تمتلك ثروات طبيعية جمة لم تكن لتتحكم بها وبأسعارها التي لا تكاد تغطي نفقات استخراجها، ذلك إذا استثنينا البترول أحياناً.. وها هو ذا الآخر ينحدر إلى أدنى مستوى له أي إلى أقل من خمسة وعشرين دولاراً في حده الأعلى بعد أن كانت بلدان إنتاجه قد وضعت ميزانياتها على أساس 55 دولاراً للبرميل الواحد ما سيوقعها في أزمات اقتصادية إن لم يكن بانهيارات، وبذلك يكون فيروس كورونا قد دخل سلاحاً في حرب اقتصادية ربما أعادت ترتيب العالم من جديد.
أما العدوان الثاني لتلك الدول المسماة بـ: “العظمى” فكان على الطبيعة والتسبب في تغيير بنيتها الداخلية بنسب معينة، وبالتالي في توازنها المعهود إذ جرى عدوان على بيئة الكائنات الحية في البر والبحر وعلى المياه والغابات، ولم ينج الفضاء من التلوث، ولا يقتصر الأمر على الثقب الأسود فحسب، بل تعداه إلى الفضاء الخارجي الذي تحول إلى مقبرة لمخلفات السفن الفضائية والأقمار الصناعية.. وكل ذلك أحدث ويحدث تبدلات فيما يسمى بالتوازن البيئي..! ناهيكم عن الأخطاء العلمية التي يقع بها العلماء في مخابر ميادين علومهم المختلفة، وخصوصاً حين تُجرى تجارب غايتها العدوان في حقل ما.. تماماً كما حدث مع فيروس كورونا بحسب بعض الدراسات.!
في عالم القطب الواحد اليوم لا أحد يردع أحداً أو يكرهه على الانصياع للتقيد بأبسط قواعد الشريعة الأممية وأعني بها “الإعلان العالمي لحقوق الإنسان”، فعلى الرغم مما ألحق بالاتحاد السوفييتي السابق من تهم إلا أنَّه شكَّل، في وقت ما، عامل ضغط على البلدان الرأسمالية الكبرى الأكثر تفرداً بشعوب العالم..! اليوم يجري العكس تماماً إذ تتكاتف أمريكا وروسيا معاً على ارتكاب التوحش بأبشع صوره..! فها هي ذي سورية التي تعرضت لنوع من الإبادة ففقدت نحو مليون شخص أكثر مما قد تسببه جائحة كورونا للعالم كله، ناهيكم عن المعاقين والمعتقلين والمهجرين والخرائب وتفتت المجتمع الواحد قلباً وقالباً.. ومع ذلك لم يسع أحد من هؤلاء الكبار لإيقاف ذلك التوحش على نحو جدي، وإذا ما أضفنا إلى سورية بلداناً أخرى كالعراق واليمن وليبيا لكان حجم ما جرى ويجرى يفوق تصوراتنا.. ذلك إذا تجاوزنا أيضاً الذين يموتون في أفريقيا وآسيا من الأمراض والفقر والتخلف وسوء التغذية ومن أسباب حروب يفتعلها هؤلاء الكبار لتقتتل الشعوب فيما بينها..!
اليوم يأتي فيروس “كورونا” بشموليته وبانتزاعه التميُّز عن المجتمعات البشرية ودولها ومؤسساتها وما تملكه من قوة وأدوات باستهدافه الناس جميعاً
اليوم يأتي فيروس “كورونا” بشموليته وبانتزاعه التميُّز عن المجتمعات البشرية ودولها ومؤسساتها وما تملكه من قوة وأدوات باستهدافه الناس جميعاً، فيساوي ما بينهم ويخضعهم لقوانين وأنظمة تفرض عليهم سلوكاً واحداً، واستخدام أدوات واحدة، لتفضح “على نحو أو آخر” ممارسة السلطات القائمة في أنحاء الدنيا كلها ديمقراطية وديكتاتورية..!
وقد أكثر الباحثون والمحللون لما يمكن أن تأتي به هذه الجائحة من خراب اقتصادي ربما أسهم في تغيير العالم كلِّه، وقد تُسْتَبدل مراكز الحضارة الرئيسة بأخرى، كما حدث عبر التاريخ، وقد أشار بعضهم، في أسباب ما يجري، إلى أمر في غاية الأهمية، وهو ضعف الجانب الروحي/الإنساني في حياة الناس عموماً سواء أتى من الجانب الديني أو الأخلاقي أو الثقافي العام.. ولعلَّ هذه الجائحة هي الأخطر في العالم، إذ يأتي خطرها من مجيئها في عصر وصل العالم فيه إلى درجة متقدمة من العلم والمعرفة والتكنولوجيا فاقت أحلام الناس، ولكن لم يرافق ذلك البناء الروحي السليم، ما جعل العالم كله في دهشة، كمن تلقى صفعة قاسية، كانت كفيلة بأن تحدث ارتجاجا ذهنيا يكره الإنسان على القيام بما هو ضروري لإحداث التغيير وإعادة التوازن على أسس جديدة وخصوصاً أن ما حدث أصاب العالم المتحضر قبل غيره..
إن ما يحتاجه العالم اليوم هو جرعة مناسبة من “عصير الإنسانية”، الروحانية، الحميمية، تساهم في إيصاله إلى أخوة إنسانية حقيقية تعمل لا على محو عذابات الإنسان بل على التخفيف منها ما أمكن.. نعم لقد هزَّ “كورونا” اليوم عالم الإنسان بما يكفي ليدفعه للتفكير فيما جرى، بعيداً عن أية تفاسير غيبية للظواهر الطبيعية، بل بما يقوله العلم وما تنجزه مختبراته وتجاربه.. وبذلك فقط يمكنه أن يدفع هذا البلاء بأقل الخسائر.. وتبين أزمة “كورونا” أن الإنسان لم يزل على جهل بقضايا كثيرة تكتشف له من خلال تقدمه العلمي فتدفع عنه فيروس الجهل، وتجعله يوقن بالعلم أكثر فأكثر.. فالإنسان الذي لا يشكل في هذا الكون سوى ذرة يسيرة في تركيبته العظيمة المدهشة يظلُّ الأقوى، والأقدر بعقله، وبما يستخدمه من أدوات متطورة على إيجاد الحلول لأعقد المشكلات وليحسم، في نهاية المطاف، صراعه مع الطبيعة لصالحه..
ويبقى أن نقول إن كورونا ما هو إلا تلك الدول “العظمى” التي بيدها مفاتيح إيقاف هذا التدهور في بنيان الحياة بسبب التجاوز على إنسانها وطبيعتها.. ولن يملأه في النهاية غير التعاطف الإنساني والغنى الروحي المتطلع إليه.. سواء ملأه الدين العفوي الفردي، أم الثقافة بما تنفتح عليه من قيم إنسانية تأتي من ألوانها كافة فكراً وفنوناً وآداباً تفرض علاقات اجتماعية حميمية افتقدت مع تنامي الحضارة وطغيان أدواتها التي غدت، رغم دورها الحضاري المميز، مجال اهتمام أكثر من الإنسان ذاته..!
المصدر: موقع تلفزيون سوريا