مجموعة من المفكرين ترجمة: علاء الدين أبو زينة
بعد مرور عام على شروع جائحة “كوفيد -19” في انتشارها الذي لا هوادة فيه في جميع أنحاء العالم، بدأت الملامح العامة لنظام عالمي أعاد الوباء تشكيله في الظهور. تماماً مثلما حطم الفيروس حياة الناس، وعطل الاقتصادات، وغيّر نتائج الانتخابات، فإنه سيؤدي إلى تحولات دائمة في مراكز القوة السياسية والاقتصادية داخل البلدان وفي ما بينها. ولمساعدتنا على فهم هذه التحولات، مع دخول الأزمة مرحلة جديدة في العام 2021، طلبت مجلة “فورين بوليسي” من 12 مفكراً رائداً من جميع أنحاء العالم أن يزودونا بتوقعاتهم بشأن النظام العالمي بعد الوباء. وقدم لنا مداخلاتهم حول هذا العنوان كل من جون آر ألين؛ لوري غاريت؛ ريتشارد ن. هاس؛ ج. جون إكنبيري؛ كيشور محبوباني؛ شيفشانكار مينون؛ روبن نيبليت؛ جوزيف س. ناي الإبن؛ شانون ك. أونيل؛ وستيفن م. والت.
* *
لا، لم تكن هذه نقطة تحول
ريتشارد ن. هاس، رئيس مجلس العلاقات الخارجية
بطريقة مثيرة للدهشة، لم يكن هناك توافق بين النظام السياسي لبلد ما وأدائه في التعامل مع الوباء. كان أداء بعض الديمقراطيات والأنظمة الاستبدادية جيدًا، وكان أداء بعضها الآخر بائسًا. كان ما يهُم حقاً هو القيادة والتنفيذ. وهنا يثير السجل الرهيب للولايات المتحدة الشعوب بالصدمة. ثمة الكثير من الخسائر التي كان يمكن تجنبها.
لقد أدى الوباء إلى تعميق الصدع بين الولايات المتحدة والصين، وحفز على إعادة التفكير في سلاسل التوريد. وتبدو أوروبا الآن أقوى بعد أن عملت ألمانيا وفرنسا معًا، وقام كل من البنك المركزي الأوروبي والمفوضية الأوروبية بصياغة ميثاق أوسع إطاراً. ومن خلال تجريد النمو الاقتصادي من زخمه وإجبار البلدان على سن حوافز مالية على نطاق غير مسبوق، أدى الوباء إلى زيادة مذهلة في الديون في جميع أنحاء العالم.
ربما يكون التأثير السياسي الأكبر هو ذلك الذي تمكن ملاحظته في الولايات المتحدة؛ حيث أسهمت الاستجابة الفيدرالية غير الكفؤة للوباء وآثاره الاقتصادية بشكل كبير في هزيمة الرئيس دونالد ترامب في الانتخابات. ولو لم تكن هناك جائحة، أو لو أنها قوبلت بقدر ضئيل من البراعة فقط، لكان ترامب قد فاز -ووضع البلاد على مسار مختلف تمامًا- في الداخل والخارج.
على نطاق أوسع، وعلى الرغم من جميع التكاليف والعواقب الهائلة للوباء، لم يحدث سوى القليل مما لا يمكن نقضه وعكس وجهته إلى حد كبير بمجرد اتباع السلوكيات المسؤولة وإجراء اختبارات واسعة النطاق للكشف عن الإصابة، واكتشاف العلاجات الأفضل، واللقاحات الفعالة. ومن المرجح أن تحدد التحديات الأخرى -من تغير المناخ إلى الانتشار النووي إلى التنافس بين القوى العظمى- ملامح هذا العصر. ومن جانبه، لن يؤدي الوباء إلى إعادة تشكيل العلاقات الدولية بشكل أساسي، ومن المرجح أن يُنظر إليه في وقت لاحق باعتباره حدثًا مفرَداً وليس كنقطة تحول.
* *
الاقتصادات الحرة سوف تنتعش
كوري شاك، مديرة دراسات السياسة الخارجية والدفاعية في معهد “أميركان إنتربرايز”
سوف تكون التغييرات الأكثر أهمية التي يُحدثها الوباء اقتصادية. سوف تتسع اللامساواة لأن أولئك الذين لديهم إمكانية الوصول إلى الرعاية الصحية واحتياطيات رأس المال والوظائف التي يمكن أداؤها عن بُعد أصبحوا أكثر حظًا وامتيازاً. وستتم إعادة تأميم سلاسل التوريد -أو على الأقل، سوف تدفع تجربة الانقطاع الشديد للإمدادات الشركات إلى إنشاء سعة احتياطية وإعادة التفكير في القرارات المتعلقة بالموقع. وسوف ينخفض الطلب على المواد الخام مع توقف الاقتصادات. ومع تباطؤ العولمة، ستنهار ربحية مشروع “الحزام والطريق” الصيني. وسوف تجني الاقتصادات سريعة الابتكار التي يمكنها اغتنام الفرص وتحويل العمالة مكاسب هائلة.
سوف تكون لهذه التغييرات تداعيات كبيرة على الأمن الدولي. كانت تكاليف الوباء هائلة لدرجة أنها ستحفز بشكل كبير التعاون الدولي لتحديد وإدارة الأوبئة المستقبلية. وسوف تحوّل الميزانيات الحكومية الإنفاق من الدفاع إلى الصحة العامة، حيث تصبح الصحة جزءًا لا يتجزأ من الأمن القومي. وستحوّل التوترات داخل الدول بسبب زيادة التفاوت في الدخل الانتباه إلى الداخل؛ حيث ستوسع الدول التي تنجح في معالجة عدم المساواة تماسكها الاجتماعي وقاعدتها الاقتصادية. ومن المرجح أن تتخذ التحالفات الأمنية، مثل حلف الناتو، لنفسها أهدافًا اقتصادية مثل ضمان موثوقية الإمدادات، لكن الدفع من أجل تقاسم أفضل للأعباء سيكون مرشحاً للتكثيف أيضاً.
من المرجح أن تصل القوى الصاعدة إلى توقُّف، في حين أن اقتصادات العالم الحر في وضع يسمح لها بالانتعاش والسيطرة على مجالات جديدة. وقد أصبحت الصين مُسبقاً أكبر دائن في العالم، وهي تسعى بقوة إلى السداد التفضيلي من الحكومات المدينة، الأمر الذي قد يدفع العديد منها إلى التماس الحماية. وقد يمنح ذلك الولايات المتحدة فرصة كبيرة لاحتواء الصين وتنظيم الحلفاء داخل النظام الغربي القائم للمؤسسات متعددة الأطراف.
* *
عالم ينقسم إلى فقاعات
شيفشانكار مينون، زميل بارز في معهد بروكينغز، الهند، ومستشار الأمن القومي السابق لرئيس الوزراء الهندي مانموهان سينغ
في العام 2020، ضيع العالم فرصته في استغلال الأزمة التي أطلقتها جائحة “كوفيد -19″، ففشل في العمل الدولي الجماعي وفي إحياء التعددية. وفشلت معظم الحكومات في تقوية أواصر الثقة بين المواطنين ودولهم، معتمدة بدلاً من ذلك على تشديد الضوابط والمراقبة والاستبداد. كما فشلت العديد من الدول الأكثر ديمقراطية وتقدمًا بشكل مذهل في حماية صحة مواطنيها وأرواحهم.
بدلاً من ذلك، سرَّع الوباء محاولة تجزئة الاقتصاد العالمي إلى “فقاعات” منفصلة معتمدة على الذات، وهي محاولة من غير المرجح أن تنجح، لكن من الممكن أن تُفقِرنا جميعًا من خلال الحد من النمو. وقد أصبحت العلاقات بين القوى العظمى أكثر توتراً من أي وقت مضى، بما في ذلك العلاقات بين الصين والولايات المتحدة وبين الصين والهند.
إذا حكمنا من خلال الأداء الضعيف لقادة العالم والمنظمات الدولية حتى الآن، فقد ترك الوباء العالم أيضًا أقل قدرة على مواجهة المستقبل والتعامل مع القضايا -الوطنية التي تؤثر علينا جميعًا- مثل تغير المناخ، والأوبئة المستقبلية، والأمن السيبراني، والأمن البحري، والإرهاب الدولي.
* *
الصين تنطلق بمحرّك توربيني
روبن نيبليت، الرئيس والمدير التنفيذي لمؤسسة “تشاتام هاوس”
مكّن قمع الحزب الشيوعي الصيني المنضبط لفيروس كورونا الصين من استعادة وتيرتها السابقة للنمو الاقتصادي، وشحن بمحرك توربيني انتقالها نحو أن تصبح أكبر اقتصاد في العالم. ومع خروج جيران الصين بسرعة من أزمة الوباء، أصبحت منطقة شرق آسيا بؤرة النمو الاقتصادي العالمي.
في المقابل، كان من تداعيات جهود الرئيس الأميركي دونالد ترامب غير المنضبطة لتقويض صعود الصين كقوة تكنولوجية عظمى هو أنها سرّعت ببساطة من سعيها إلى تحقيق الاكتفاء التقني الذاتي. وعلى عكس نهج ترامب الفاشل الذي يعتمد على مبدأ “اعمل وحيداً”، قد يمكّن الرئيس المنتخب جو بايدن الولايات المتحدة من إعادة بناء تحالفاتها وعلاقاتها الثنائية لمواجهة صعود الصين. لكنّ الأوان فات الآن على تحديد الديمقراطيات الليبرالية الشروط لكيفية تطوير الصين قوتها الاقتصادية.
قد تستمر اليابان وكوريا الجنوبية وأعضاء رابطة دول جنوب شرق آسيا، وحتى أستراليا، في اللجوء إلى الولايات المتحدة لضمان أمنهم. لكنهم لا يستطيعون تحمل كلفة الانضمام إليها في تقويض الاقتصاد الصيني الذي يعتمدون عليه في مستقبلهم الاقتصادي. وفي الأثناء، ستقضي الولايات المتحدة وأوروبا السنوات الخمس المقبلة في التركيز على إدارة تداعيات الوباء على اقتصاداتهما ومجتمعاتهما.
إلى أن تختبر القيادة الصينية الجوانب السلبية لنموذجها الدولاتي الاستبدادي وتضع الصين على مسار جديد، سوف تستمر عوالم شمال الأطلسي وآسيا-الهادئ في التباعد.
* *
لا يمكن لأي حكومة أن تتكيف وحدها
جوزيف س. ناي الابن، أستاذ فخري في كلية كينيدي في هارفارد
تستجيب العولمة، أو الاعتمادية المتبادلة عبر القارات، للتغيرات في تكنولوجيا النقل والاتصالات. وقد غير فيروس “كوفيد -19” الشكل فقط -سفر أقل، واجتماعات افتراضية أكثر- بدلاً من تغيير حجم العولمة.
قلص الوباء بعض جوانب العولمة الاقتصادية، مثل التجارة، لكن هذا ليس صحيحًا تماماً في جوانب أخرى، مثل التمويل. وتتخذ بعض سلاسل التوريد الصناعية صبغة أكثر إقليمية، وتدفع المخاوف الأمنية الشركات والحكومات إلى إعطاء أولوية أعلى لإبقاء مخزونات كبيرة من المواد في متناول اليد بدلاً من الاعتماد على وصولها من الخارج في الوقت المناسب. ولكن، على العكس من الاضطرابات الحقيقية مثل الحرب، من غير المرجح أن تؤدي هذه التعديلات إلى تغيير جذري في سلاسل التوريد العالمية أو التجارة الدولية. وحتى لو فعلت، فإنها لن تتمكن من تفكيك التعالق البيئي المتزايد في العالم.
بينما تتأثر العولمة الاقتصادية بالحكومات، فإن الجوانب البيئية للعولمة، مثل تغير المناخ وانتشار الأوبئة، تحددها قوانين الفيزياء والبيولوجيا. ولن توقف الجدران والتعريفات الجمركية التهديدات البيئية العالمية العابرة للحدود الوطنية، على الرغم من أن الحواجز أمام السفر والركود الاقتصادي المستمر قد تؤديا إلى إبطاء حركتها إلى حد ما. ولا يمكن لأي حكومة أن تتكيف بمفردها، لكنها يجب أن تفكر بالسلطة مع الآخرين، تماماً كما تفكر بالسلطة على الآخرين. لم أكن قد توقعت أبداً أن يكون مثل هذا العدد الكبير من الدول غير كفؤة في استجابتها للوباء -وبطيئة جدًا في التعلم.
* *
عالم “جيكل-هايد”
جي جون إكينبيري، أستاذ في كلية الشؤون العامة والدولية في جامعة برينستون
سيكون لوباء “كوفيد -19” تأثير دائم على تصوراتنا العالمية -رؤيتنا لعالم القرن الحادي والعشرين. وقد جعلنا الوباء نرى بشكل أوضح وجودنا المشترك المحفوف بالمخاطر، والأخطار المتأصلة في الاعتمادية المتبادلة، والتكاليف المترتبة على وجود تعاون دولي فاشل، وفضائل الحكومة الكفؤة، وهشاشة المؤسسات الديمقراطية، وضعف حال حضارة “عصر التنوير”، وحقيقة مصير البشرية المشترك بطريقة حتمية.
الآن، بعد مرور عام على بدء انتشار الوباء، ليست مشاكل الفوضى الكامنة في العالم -القومية، والمنافسة الأمنية والحرب- هي التي تبدو الأكثر إلحاحًا. بدلاً من ذلك، يبدو العالم اليوم أكثر تأثراً بمشاكل الحداثة -قدراتنا المتعثرة وعجزنا عن التعامل مع التحولات العالمية العميقة في مجتمعاتنا، التي أطلقتها قوى العلم والتقنية والصناعة. ويقدم الوباء تذكيرًا دراميًا، يتردد الآن في كل ركن من أركان الأرض، بأن البشر لم يفهموا الطبيعة ولم يسيطروا عليها تمامًا، وأننا لا نستطيع الهروب من التعالُق المطرد المتأصل في وجودنا الحديث.
يشكل الوباء تذكيراً بأن الحداثة ظاهرة كثيرة الشبه بالدكتور جيكل والسيد هايد: العالم الحديث يخلق باستمرار القدرات لتحقيق تقدم كبير في رفاهية الإنسان -ولكن أيضًا لحدوث كارثة مَشهدية وكارثة حضارية. وسوف يقودنا الوباء -جنبًا إلى جنب مع التهديدات الوجودية المتزايدة التي يفرضها تغير المناخ وانتشار الأسلحة النووية- إلى حقبة جديدة من الصراع على النظام العالمي الذي تبحث فيه البلدان في جميع أنحاء العالم عن طرق لتحقيق مكاسب الحداثة، بينما تحترس من مخاطرها.
*نُشرت هذه المداخلات تحت عنوان: The World After the Coronavirus
المصدر: (فورين بوليسي) / الغد الأردنية