من خلال حديث نبوي شريف يبدأ الروائي عبد الرحمن منيف الجزء الرابع من سلسلته الأدبية (مدن الملح) ليكون عنوانها ” المٌنبَتّ ” (فإن المنبت لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقى). وقد جاء هذا الجزء ضمن /258/صفحة من القطع المتوسط، حيث يبحر الكاتب (الراحل) في يمٍّ متلاطم الأمواج، من الرمال المتحركة التي وسمت جل سلسلته الروائية المهمة (مدن الملح). لقد خصص الكاتب هذا الجزء للحديث عن صراعات الملك، وانزياحات السلاطين، ونزاعات الأسر المالكة في جزيرة العرب، بل وفي سواها من أصقاع العرب السائدة والبائدة. ويدخل الكاتب في سرده الروائي ضمن بوتقة التفاصيل اليومية لأهل الحل والعقد، وخلافاتهم وانفلاتاتهم، المندرجة تحت هم الاستحواذ بالثروة والمرأة على حد سواء.. وكيف كان الارتباط بالغرب بدءً بالبريطانيين، إلى الأميركان ومن ثم باقي أصقاع المعمورة، وتلك الهموم اليومية، قبل وإبان اكتشاف النفط، وارتباط العقل بالصحراء والخيمة والخيل، بينما العالم ينهب الثروات ويستولي على العقول والبترول. كما يمر الكاتب على تصرفات الملوك والسلاطين وأهل السلطة، وكيف يتخلون عن أقرب الناس إليهم لغلطة بسيطة ليس إلا، ليُرمى المرء في الشارع كأي جيفة من الجيف .
” فكل شيء في القصر ثقيل وخانق، الأمر الذي دفع الكثيرين إلى الصمت، ودفعهم لأن يأووا الى فراشهم مبكرين ” وكما عهدنا عبد الرحمن منيف فهو صاحب صياغة أدبية سردية إبداعية قل مثيلها، ينقلنا من ساحة إلى أخرى، ومن حي إلى سواه، دون أن يُفقد العمل الروائي انسيابه، وانشداد القارئ إلى متابعته، حتى كأن المرء يعيش تلك المرحلة، ويدخل ضمن سراديب تلك الحياة اليومية لأهل الحل والعقد … في المُنبت حلول حياتي يومي من أرض ( موران ) إلى أرض الألمان ، و ” رغم الغضب كانت أصوات البلابل تعيده إلى الهدوء، فيشعر بالضآلة وما يشبه التوازن . يقول لنفسه : الطيور والحيوانات أفضل من الانسان، لأنها تعرف كيف تعيش . أما الانسان فيعرف شيئًا واحدًا: كيف يقضي على الآخر. ومن أجل القضاء على الآخر يبدد حياته كلها، ثم ينتحر “.
التحديات التي كانت تواجه الكاتب في دهاليز روايته هي: كيف يمكنه أن يسحب ذلك على زمان قادم، وليس زمان مضى وانقضى.. وكيف يمكن أن نسقطه – نحن معشر القراء – على آننا المعاش، ولحظتنا الزمنية التي نعاقرها. وهو إن كان يصبو إلى مستقبل أفضل وأرقى، إلا أن همه الأساس: كيف يتعلم المرء من أخطاء المتحكمين فيه، وكيف يعيد بناء ذاته على أسس أخرى، هي أقرب إلى الحياة منها الى الموت.. لكنه لا يجيبنا أبدًا بل يتركنا متعلقين في إجابات المستقبل، وفي أجزاء أخرى، لا بد آتية من سلسلة رواية (مدن الملح) التي ستذوب يومًا ما.