تنبئ حوليات التاريخ عن ثورات لم يطوها النسيان، وعن نهايات لبعضها كانت تخذل بداياتها، وعن فلاح بعضها الآخر في تحقيق نبوءة الانتصار. دائماً كان لكل ثورة تجربتها الخاصة، وحكايتها المحفورة في ذاكرة من ورثوا بطولاتها أو هزائمها، ومن حفظوا دروسها وعبرها أو خانوا إرهاصاتها الأولى. لذلك بقيّ مفهوم الثورة في تجليّاته الفكرية والفلسفية، عصياً على إنتاج نظرية جامعة مانعة للثورة، لا تُغلق الأبواب أمام احتمالات المستحيل، ومفاجآته السعيدة أو الحزينة حتى نُخاع الألم. لكن التاريخ وعلى جلالة مرويّاته، لاسيما تلك التي تركت آثارها الخالدة، يقف مشدوهاً أمام قدرة الزمن، على استبطان معنى جديد لمفهوم الثورة، ولكيفية بناء وعي مغاير، يتجاوز قدرة البشر على احتمال ضريبة التمرد على الواقع. لا يبدو أن الثورة السورية، لديها أجوبة قاطعة، لمثل هذ الجدل المفتوح على أسئلة عالقة؛ بين مشروعية الثورة، وسطوة السياسات الموغلة بالتوحش. ومع ذلك لم تنفك الثورة السورية في ذكراها السابعة، عن محاولة البحث عن فحوى الإجابة، ليس فقط لأنها فريدة في زمنها وظروفها وتضحياتها، وإنما لأن بداياتها كانت خروجاً عن المألوف، في علاقة العرب بالثورة، وفي تعرية تواريخ التبرؤ من حق العرب بالحياة، وجدارتهم بالحرية كبقية البشر. منذ صرختها الأولى اتضح أيضاً؛ أنها وحيدة ويتيمة في آن، ليس لأن الربيع العربي بلا آباء شرعيين، بل لأنها نفضت الغبار عن كل طبقات وعينا المفوّت، ولم يخش أطفالها أن يرسموا على الحيطان، قصة الملك العاري الذي لم تستر كلّ أبواق التأليه، عوراته الفاضحة في عيون السوريين. من حيث لم يعد بالإمكان السكوت على مهزلة الأبد، خضّبت نسائم الحرية رحلة الخروج إلى معمودية الخلاص، وعبرَت الثورة أياماً، وليالٍ، وبحورٍ من الدم، كلما ابتعد الطريق وتاهت العيون بين مسالك الارتياب، أطلقت وعدها الأزليّ من تحت الرماد. تكتب تفاصيلها المدويّة، في دفتر تلميذٍ خبأ عصافير أحلامه، بين بقايا أضلاعه تحت الركام، وفي صرخة مُعتقلة لم يتسع لها منبرٌ للعدل، في عالمٍ فقد معناه من كثرة الخذلان، وترويها أشلاء هويةٍ مجهولة تبحث عن نسبٍ في بلادٍ تنكرت لأهلها. فاضت خوابي القهر في هذه الثورة المحمولة على صليب أوجاعها، حتى أصبح تفاؤل أطفال الخيام، كتمني الموت الطبيعي في زمن المجازر الجماعية. وما أن كانت تهتدي إلى ضوءٍ في نهاية العتمة، حتى ينقض عليها سربٌ من الغربان، وما أكثر الغربان في زمنٍ تلاشت فيه الفوارق بين الأصدقاء والأعداء. مضت سنين الثورة ولا وقت يكفي ولا مخيلة، لاستعادة ما جرى على ضفاف نبضها النازف، فقد أصبحت خارج الزمان والمكان، وخارج قدرة الرواة على الوصف، وأمست روحاً تلملم من بقوا أوفياء للصرخة الأولى، وعنواناً لقضية أهدر الانتهازيون محطاتها الناصعة، وتآمر عليها أمراء الحروب، وسماسرة التسويات الهزليّة. تقارع وحدها هذا الأفق المسدود بلا هوادة، وتحتفي بأوجاعها كل عام، كي لا يبقى ضحاياها بلا ذكرى تبلسم جراحها. تمضي وهي تمتحنُ كل النظريات والمواقف والضمائر، كأنها المرصد والكشّاف وحكمة التاريخ، وكأنها القدر وليست مجرد تجربة قابلة للقياس على غيرها. بقدر ما فضحت مرتزقة الفكر والسياسة وحقوق الإنسان، أماطت اللثام عن تجار الدم والكلمات والصفقات.
أطلقها السوريون في سيرورة تُعاند سياط الجلادين، وعبيد البساطير، ثم اتضح أنها شوكة تقاوم مخارز الطمع العابر للحدود، ومشاريع النهب والهيمنة. فتزاحمت عليها مافيات الداخل والخارج، كي لا تقضّ فكرة التمرد، مضاجع حيتان الحداثة المخصيّة، وكي تبقى فزاعة الإرهاب سيفاً مسلطاً على شعوب مُسيرة، وإذا كان عليها أن تختار؛ فليس أمامها سوى التدجين، أو الموت السوري بشهادة من ينجو منه. مع ذلك وأكثر من قدرة العقل على إدراك خصوصية ثورة ليست كالثورات، تقطع سنواتها السبع وخلفها أيتام، وثكالى، ومشردون في أصقاع الأرض، وحولها وحوش لم ترتوِ بعد من دماء طرائدها، وخطط ومشاريع تكفي للتشكيك بأنبل مبادئها، وتحويل بطولاتها إلى أكبر مؤامرة على “أسد المقاومة”.
تمضي رغم كل ذلك في شارة نصر يرفعها سوريٌ تحت القصف، وسوريٌ آخر يخشى موت أولاد بغاز الكلور، فيخرج من الغوطة، وهو يقول أمام كاميرا نظامه الحقير، سامحوني على ما أقول: فقد عشقتُ الثورة ولكنني أريد أن أنقذ أولادي من الموت اختناقاً. وبينما يسمعه العالم الذي يريد أن يُصدّق ما يبرئ ذمته، تستمر الثورة وهي لا تريد للحقيقة أن تقتل أبنائها، لأنها تنتصر لأخلاقها، وهو أعظم تجليّاتها حتى في انكسارها. يا لها من ثورة أعجزت الأدب، واللغة عن وصف مآثرها، وتركت ألغازها عصيةً على فك طلاسمها، رغم وضوح سرديتها الدامية، وإصرارها على التحدي حتى آخر الطريق.