إميل نخله
تجاهلت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة المطالب العربية بالمساواة والإنصاف، ولا سيما في السنوات الأخيرة في ظل نظام نتنياهو. وتضمنت هذه المطالب السماح للبلدات والقرى العربية بتوسيع حدودها وأراضيها من أجل تخفيف الاكتظاظ الشديد للسكان؛ ومَنح المجتمع المزيد من التصاريح لبناء المنازل الجديدة؛ والسماح للعرب بشراء واستئجار المنازل في البلدات اليهودية والمدن المختلطة عرقيًا؛ وزيادة مخصصات الميزانية لكل طالب لتحسين البرامج التعليمية في المدارس العربية. كما يريد المواطنون العرب تحسين البنية التحتية المادية للبلدات والقرى العربية والاعتراف بالبلدات العربية “غير المعترف بها” في النقب.
* *
أدت السياسات الفاشلة التي انتهجها رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، والجهود التي بذلها لشيطنة فلسطينيي 48، إلى المساهمة في تأجيج الصراع الأخير، وتسببت في مقتل وإصابة مئات الفلسطينيين والإسرائيليين، وقوضت بشكل خطير ما تسمى “اتفاقات إبراهيم” التي أُبرمت بين إسرائيل وعدد قليل من الدول العربية. وقد استخدم نتنياهو، من أجل البقاء في السلطة وحماية نفسه من الخطر القانوني الذي يواجهه بسبب تهم الفساد، وقصف سلاح الجو لحماس وقطاع غزة وإحداث دمار كامل فيهما.
وعمل دعم الولايات المتحدة المطلق والمستمر على مر السنين لسياسات نتنياهو المعادية للفلسطينيين على تمكينه من التخلي عن عملية السلام ومواصلة مشاريعه الاستيطانية العدوانية في المناطق الفلسطينية في القدس والضفة الغربية. ومتسلحاً بالدعم الأميركي، نشر نتنياهو روايته الزائفة القائلة إن “الشارع العربي” سئم من القضية الفلسطينية، وهو ما يعطيه بالتالي الذريعة لتجاهل القضية الجوهرية المتمثلة في الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية والإذلال والبؤس العميقين للفلسطينيين. وقد كشف رد الفعل العربي الأخير على الدمار الذي حدث في غزة والانتفاضة العربية في إسرائيل الزيف الكامل لرواية نتنياهو.
الآن، توفرت لإدارة بايدن الفرصة –والدعم من شريحة يُعتد بها من أعضاء الحزب الديمقراطي في الكونغرس- لتصحيح هذا الخلل في التوازن. يجب على بايدن أن يخبر نتنياهو، بالأقوال والأفعال، بأنه يرى تمييزاً بين إسرائيل كدولة نؤيدها وندعمها، ونتنياهو كسياسي لنا الحق في التساؤل عن سياساته واستنطاقها. إن دعم الولايات المتحدة لأمن إسرائيل لا يمتد تلقائيًا إلى دعم سياسات نتنياهو المعادية للفلسطينيين -محليًا وإقليميًا.
تشكل الانتفاضة العربية المحلية التي يقودها فلسطينيو 48 على المدى الطويل تهديدًا أكثر خطورة بكثير من حماس نفسها. وقد كشف العنف الطائفي الذي انتشر أخيراً عبر معظم مناطق إسرائيل عن المغالطة في فكرة التعايش اليهودي العربي، وكذَّب رواية نتنياهو الواهية عن أن فلسطينيي 48 راضون وقانعون بوضعهم كأقلية.
بطبيعة الحال، يغلب أن تساعد الدبلوماسية في تسوية الصراع الأخير بين إسرائيل وحماس، لكن التفكك العرقي المحلي يشكل تحديًا لقدرة إسرائيل على البقاء كدولة ديمقراطية متعددة الأعراق. ويجب على بايدن تحميل نتنياهو المسؤولية عن سياساته التمييزية المسببة للانقسام تجاه فلسطينيي 48.
على الصعيد الإقليمي، عملت حماس ونتنياهو من المنطلقات نفسها عندما تعلق الأمر بالحسابات السياسية: كلاهما يريد البقاء في السلطة وأن يكون ذا صلة. من جهتهم، يريد قادة حماس أن يظهروا للعالم أنهم هم، وليس رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، هم المدافعون الحقيقيون عن الفلسطينيين.
وعلى النقيض من ذلك، يريد نتنياهو أن يعتقد الجمهور الإسرائيلي بأنه هو وحده القادر على تشكيل حكومة في إسرائيل. ولم يقتصر الأمر على أنه فشل في تشكيل حكومة فحسب؛ لقد عمل أيضاً بشكل محموم على تقويض فرص المعارضة في تشكيل حكومة، وخاصة واحدة يمكن أن تضم حزباً عربياً.
كُتب الكثير في الأسبوعين الأخيرين عن المواجهة بين إسرائيل وحماس ورد الفعل العالمي المتنامي، بما في ذلك داخل الحزب الديمقراطي في الولايات المتحدة، ضد قصف نتنياهو المستمر لغزة. ومع ذلك، لم يُكتب سوى القليل عن المظالم التي يعانيها عرب إسرائيل وإحباطاتهم المتفاقمة بسبب سياسات الدولة المعادية للعرب.
وقد أكدت الأحداث الأخيرة ما يعتقده الكثير منهم من أنه ما لم تغير الحكومة الإسرائيلية هذه السياسات بشكل جذري، فإن غضب فلسطينيي 48 سوف يتصاعد فحسب، وسوف تصبح المواجهات الطائفية بين العرب واليهود أكثر دموية. وإذا استمر هذا الوضع، فإن إسرائيل يمكن أن تتحول من دولة ديمقراطية شاملة لجميع مواطنيها إلى كيان يهودي إقصائي وغير ديمقراطي، لـ75-80 في المائة من مواطنيه فقط.
فلسطينيو 48 مجتمع ناشط يبحث عن هوية وطنية
تسلط المواجهات العنيفة الأخيرة التي جرت في إسرائيل بين فلسطينيي 48، الذين يشكلون أكثر من خمس سكان إسرائيل من جهة، والشرطة واليهود المتطرفين من جهة أخرى، الضوء على الشعور المتزايد بالغربة والتهميش بين فلسطينيي 48. وتشمل المحفزات المباشرة للعنف الطائفي المعاملة المتسلطة التي تمارسها الشرطة الإسرائيلية في حق المصلين المسلمين في المسجد الأقصى في القدس، ثالث أقدس مسجد في الإسلام، ومحاولات إخلاء الفلسطينيين من منازلهم في حي الشيخ جراح في القدس الشرقية، والقصف الإسرائيلي المروع وغير المتناسب لمدينة غزة. كل ذلك إضافة إلى اتجاه فلسطينيي 48 إلى التأكيد المتنامي للذات، وروح التحدي، والمعاناة من الفقر والتهميش.
ينظر العديد من اليهود الإسرائيليين، وخاصة القطاع الديني اليهودي الأرثوذكسي المتطرف، إلى فلسطينيي 48 على أنهم قنبلة زمنية ديمغرافية وتهديد كبير للهوية اليهودية لإسرائيل. وقد دعا العديد من الإسرائيليين العلمانيين إلى انتهاج سياسة ذات معنى للإشراك والتعايش. لكن نتنياهو امتنع عن اتباع مثل هذه السياسة بسبب تأثير الأحزاب الدينية الصغيرة -وإنما القوية سياسياً- في حكومته. وقد دعا بعض هذه الأحزاب إلى طرد العرب من إسرائيل أو نقلهم إلى دولة فلسطينية مستقبلية إذا ما تم تأسيس مثل هذه الدولة في أي يوم.
أظهرت المواجهات المميتة الأخيرة، ولا سيما في المدن المختلطة عرقيًا، بما في ذلك عكا، وحيفا، واللد والرملة وغيرها- أن الشباب العرب، مثل نظرائهم اليهود الأرثوذكس، يمكن أن يذهبوا إلى التطرف بسرعة هم أيضاً. وقد تمكن فلسطينيو 48، الذين وُلِدوا في إسرائيل، ويتحدثون العبرية والعربية، على مدى عقود من التوفيق بين هوياته الأربع المترابطة –العربية، والمسلمة، والفلسطينية، والإسرائيلية- بشكل معقول. وفي الانتفاضة الحالية، انفصلت هذه الهويات الأربع عن بعضها بعضا، حيث حلت الهويات العربية والإسلامية والفلسطينية محل الهوية الإسرائيلية. ولم يعد من الممكن افتراض دوام التوازن الذي كان قائماً بين هذه الهويات، اقتصاديًا وتعليميًا وثقافيًا وسياسيًا.
لقد تجاهلت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة المطالب العربية بالمساواة والإنصاف، لا سيما في السنوات الأخيرة في ظل نظام نتنياهو. وتضمنت هذه المطالب السماح للبلدات والقرى العربية بتوسيع حدودها وأراضيها من أجل تخفيف الاكتظاظ الشديد للسكان؛ ومَنح فلسطينيي 48 المزيد من التصاريح لبناء المنازل الجديدة؛ وشراء واستئجار المنازل في البلدات اليهودية والمدن المختلطة عرقيًا؛ وزيادة مخصصات الميزانية لكل طالب لتحسين البرامج التعليمية في المدارس العربية. كما يريد المواطنون الفلسطينيون تحسين البنية التحتية المادية للبلدات والقرى العربية والاعتراف بالبلدات العربية “غير المعترف بها” في النقب. وفي الجزء الأكبر، لم يحصل المجتمع العربي على مطالبه أبدًا. وإذا كان ثمة تحسينات، فقد تم تنفيذ معظمها في البنية التحتية التجميلية فحسب.
أظهر تحليل للوضع الاقتصادي والتعليمي والسياسي والاجتماعي لنحو 1.5 مليون عربي يعيشون في إسرائيل على مر السنين أنه لم يحدث تحسن كبير في أوضاعهم منذ الأحداث الدموية التي وقعت في تشرين الأول (أكتوبر) 2000، والتي قُتل فيها 13 عربيًا خلال مظاهرات لدعم انتفاضة الأقصى. وفي واقع الأمر، تراجع وضع فلسطينيي 48 في الرفاه، والصحة، والتوظيف، والبنية التحتية، والخدمات العامة والإسكان، في العقد ونصف العقد الماضيين. ويعيش أكثر من نصفهم الآن تحت خط الفقر مقارنة بـ15 في المائة فقط من السكان اليهود.
على الرغم من أن فلسطينيي 48 تعلموا كيفية التعامل مع مطالباتهم بحقوق المواطنة باستخدام هوياتهم المتعددة، فقد تخلصوا من بعض المصطلحات “الإخضاعية” التي تستخدمها الدولة لوصفهم، بما في ذلك “العرب الإسرائيليون”؛ و”عرب إسرائيل”؛ و”المواطنون العرب في إسرائيل”، أو “الوسط العربي”. واستبدلوا هذه التوصيفات بـ”الفلسطينيين في إسرائيل”؛ أو “المجتمع العربي الفلسطيني”؛ أو “الأقلية الفلسطينية”؛ أو “الأقلية العربية الأصلية”. وقد أصبحت هذه الأقلية أكثر عددًا، وأصغر سنًا ويتعرضون للمزيد من تضييق المساحات. ويعيش أبناء هذا المجتمع فعليًا فوق بعضهم بعضا في أحياء وبلدات مزدحمة بخدمات عامة غير كافية، ويفتقرون إلى الحقوق المتساوية مقارنة بالمواطنين اليهود. وبالكاد تمتد “مواطنتهم” إلى ما هو أبعد من التصويت في الانتخابات المحلية والوطنية.
ينتشر فلسطينيو 48 في جميع أنحاء إسرائيل. لكن معظمهم يعيشون، في الجليل، المثلث -في وسط البلاد- وفي النقب. ويعيش بضعة آلاف منهم في مدن ساحلية مختلطة. وإضافة إلى رهط، أكبر مدينة عربية في النقب، يعيش ما يقرب من 70 ألف مسلم سني بدوي في “قرى غير معترف بها”، في منطقة مسيجة في شمال النقب، والتي تُعرف باسم “السياج”، على نحو يشبه كثيراً محميات الأميركيين الأصليين في الولايات المتحدة.
من المشجع أن تكون إدارة بايدن قد شرعت في ملاحظة الأهمية المتزايدة للمجتمع الوطني الفلسطيني الأصلي في إسرائيل وتزايد التشدد لدى العديد من شبابه. وخلال لقاء أخير، التقى نائب مساعد وزيرة الخارجية الأميركية للشؤون الإسرائيلية والفلسطينية، هادي عمرو، بعدد من الشخصيات البارزة في الجالية العربية الإسرائيلية، والذين تقاسموا معه أحزانهم ومظالمهم.
من أجل معالجة هذه المظالم المنهجية، يمكن لواشنطن العمل على إشراك فلسطينيي 48 من خلال توفير الفرص التعليمية، بما في ذلك المنح الدراسية والهبات وبرامج التكنولوجيا. كما يمكن أن تمتد المشاركة لتشمل مشاريع التنمية المجتمعية في البلدات والقرى العربية. وسوف يستفيد المجتمع من برامج لريادة الأعمال والاستثمار الصغير، التي تعزز خلق فرص العمل وفرص التوظيف، ولا سيما بين خريجي المدارس الثانوية والجامعات.
إن مستقبل إسرائيل، وغزة، والضفة الغربية، وفلسطينيي 48، يرتبط بشكل وثيق يتعذر فصمه. وما لم يتم حل النزاع الإسرائيلي الفلسطيني، فإن الاستقرار الداخلي الإسرائيلي والسلام الإقليمي سيظلان مشكلة مقيمة تستعصي على الحل.
*إميل نخلة: هو موظف رفيع متقاعد في جمع وتحليل المعلومات الاستخباراتية، متقاعد من المخابرات المركزية الأميركية، ومدير مؤسس لمكتب برنامج التحليل الإستراتيجي للإسلام السياسي التابع لوكالة المخابرات المركزية. وهو حاليًا أستاذ باحث ومدير معهد سياسة الأمن العالمي والوطني في جامعة نيومكسيكو.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: Netanyahu’s Obsession and the Palestinian Uprising
المصدر: الغد الأردنية/(ذا سيفر)