محمود الوهب
لطالما أخذت موقفاً ممن يحاكم إنتاج المثقف سواء كان فناناً مبدعاً في أحد حقول الفن أو الأدب أم كان مثقفاً عاماً ذا رأي في هذه القضية أو تلك فالثقافة شيء أعم من السياسة وأشمل وقد تشغل السياسة حيزاً في جانب من جوانب الإبداع أدباً كان أم جنساً من أجناس الفن، ولكن يطلب من المثقف، في حالات خاصة جداً، مهما كان موقعه أن يكون له رأي إذ يتوقف الكثير على رأيه ومن ذلك على سبيل المثال الحالات الثورية التي تأتي من خلال انقلاب مفصلي في حياة الشعوب.
لماذا؟ لأن المفترض أن يكون المثقف أول من يتحسس تلك الحالات الاستثنائية التي تلامس أوجاع الناس، والأوطان، ومن أجل ذلك، دفع الكثيرون من حياتهم ضرائب باهظة نكراناً وسجناً وتعذيباً حتى الموت، ويشهد تاريخ العالم، وتاريخنا العربي/الإسلامي الكثير من الفظائع بحق المثقفين والعلماء من جرَّاء كلمة حق قيلت خدمة للعلم ولنشاط عقل الإنسان، ولم يكن المثقف السوري المعاصر بعيداً عن هموم وطنه، فلطالما تناول الكثيرون عبر إنتاجهم هموم شعبهم، ووضعوا يدهم على جرح الوطن المتولد من الاستبداد، منذ بداية السبعينيات إلى اليوم.
فمن لا يذكر، على سبيل المثال، أغنية “يا حيف” للفنان سميح شقير التي ظهرت مع بداية الاحتجاجات الشعبية السلمية في العام 2011 التي غدت نشيداً للثوار إذ تتغنى بالقيم المجتمعية الشعبية وتستنهض نخوة ابن البلد بما تنطوي عليها معانيها من بديهية العلاقة المفترضة بين الحاكم “السوري” ومواطنه المحكوم ولكن هيهات فالمنادى لا يدرك قيمة للوطن ولا للمواطن ولذلك أمعن في توحشه..
وإذا كان المثقف السوري قد وقف، في العموم، إلى جانب حرية شعبه في معركته الأخيرة المستمرة منذ عشر سنوات لتحرير بلاده من الاستبداد، فإن الفنان السوري دريد لحام (إذا جاز أن يتخذ نموذجاً) ظلَّ صامتاً طوال تلك الفترة إلا من دفاعه عن الجيش العربي السوري “الباسل” في مواجهته لأبناء شعبه.. ويحاول الأستاذ دريد أن يظهر بوعي جديد، لكنه الوعي الضالُّ والمضلُّ، إذ ينتقد، مثل كثيرين سبقوه، حال الفساد في أنحاء البلاد، ويعدّه مشكلة المشكلات إذ قال خلال تسجيل مصور لموقع “الإندبندنت عربية” الأربعاء التاسع من حزيران الماضي، “إن مسألة الفساد تحتاج إلى جرأة من النظام، لأن الأزمة في سوريا أولها فساد وآخرها فساد، وإذا لم يُقض على الفساد فالأمور ستذهب نحو الأسوأ”.
وكأن الوضع في الماضي لم يكن سيئاً، أو لم يكن هناك فساد.. وكأن دريد لحام لم يدرك حقيقة ما كان يكتبه له توءمه المسرحي حسني البورزان (نهاد قلعي) أوائل سبعينيات القرن الماضي، ثم ليجسِّد مع لفيف من الفنانين السوريين ما قدمه لهم الشاعر والمسرحي محمد الماغوط من مسرحيات لم يترك فيها شاردة أو واردة مما يسيء إلى الوطن والمواطن إلا وبيَّن بعدها الاستبدادي وافتقاد الحرية.. (أعطونا البرلمانات وسرقوا الحرية..) هذه الحرية التي يكمن في ثناياها محاربة الفساد إن لم أقل أمراض الدولة المستبدة كلها..
نعم إن الأزمة في “أولها وآخرها فساد”. ولكن على الفنان الذي يملك وعياً سليماً أن يدرك أسباب الفساد وأبعاده فالفساد نتيجة ملازمة لطبيعة النظم الاستبدادية.
نعم إنه الفساد الذي بدأه حافظ الأسد. منذ كان وزيراً للدفاع إذ أخذ يجمع الضباط حوله بأساليب فاسدة، ثمَّ ليطلق يدهم حين آل الحكم كلياً له لتعبث بأموال الدولة والمجتمع، وقد تضاعف الفساد على يد ابنه الوريث حين أفسح لابن خاله في المجال لامتلاك منافذ المال الرئيسة في الدولة، ثم ليستبدل به أخيراً شركاء اختارهم من بين من تاجر معه بالدم السوري! يقول الأستاذ دريد إنَّ “الوضع في سوريا اليوم خطير جداً، والمستقبل غامض، والأمور ذاهبة نحو الأسوأ إذا لم يُقْضَ على الفساد” لكنه لم يشر إلى المسؤول الأول عن الفساد.. ولا أظنه يجهله! ومن المؤكد أنه سمع بحكاية السيد “مهاتير محمد” رئيس ماليزيا الذي لجأ إليه شعبه، وكان أن تجاوز التسعين فاستعاد، خلال فترة قصيرة، مليارات الدولارات المنهوبة من الدولة وأعاد عجلة تطور البلاد. فكيف تأتى له ذلك؟! ببساطة لأنه لم يكن شريكاً لأحد من الفاسدين.. ولأنه يدرك بأنه رئيس دولة لا مالك مزرعة موروثة عن أبيه.. ويعلم، الفنان دريد، أنه في ماليزيا لا يوجد أربعة عشر جهازاً أمنياً يحصون على الماليزيين أنفاسهم، كما هو الحال في سوريا، إذ يعجزهم الفساد وأبطاله، لكن زج عشرات ألوف السوريين في أقبية تلك الفروع بسبب ربطهم الفساد بالاستبداد لا يعجزهم.. كذلك لم يميز مهاتير محمد بين ماليزيين “متجانسين” وآخرين غير ذلك، وبين ثوار حقيقيين و”ثيران” ومعلوم أنَّ الثوار الحقيقيين بحسب “السيد الرئيس” هم هؤلاء “المتجانسون”
وتجدر الإشارة هنا إلى أن رئيس الوزراء الماليزي مهاتير محمد، يعمل مع ست دول من بينها أمريكا “لاستعادة نحو 4.5 مليار دولار اختلست من صندوق ماليزي حكومي في عهد رئيس الوزراء السابق نجيب عبد الرزاق”. (قيد السجن الآن) ولا بد أن الأستاذ دريد يعلم أنَّ العكس يحصل في سوريا إذ عمل “الثوار الحقيقيون” ويعملون على جمع العملة السورية منذ نحو خمسين عاماً، ويحولونها إلى دولارات تخزن في البنوك الأوربية، ونموذج هؤلاء جميعاً أسرة الأسد ومن يصفق لها..
وأخيراً إذا كان، الأستاذ دريد، يرى “أن الله غاضب منا، نحن السوريين، ولهذا يتمنى أن تحذف كل الأشعار والأغاني التي تتغنى ببردى والشام من القاموس الثقافي السوري”. فإن رأي السوريين غير ذلك تماماً إذ يقولون: حاشا أن يغضب الله من شعب عريق ومبدع؟ وإذا كان الله غاضباً فعلاً، فممن يساوي نفسه به، ويعمل ليكون بديلاً عنه! (من شعارات الانتخابات الرئاسية الأخيرة) إنه الذي دعا إليه الأستاذ دريد، وجدد له ثقته قبل عدة أسابيع.. أما أنَّ دريداً يريد حذف الأشعار والأغاني التي تتغنى ببردى والشام، فتلك تحكي تاريخ شعب كان له- قبل أن تتحكم به سلطة الفساد والنهب والفرد المستعلي على الوطن والمواطن- دولة ورؤساء جمهورية يتجددون بموجب انتخابات فعلية، ومجالس نيابية، وقضاء مستقل، وصحف ومجلات، ومنتديات، وعيش آمن، وشعراء عرب وسوريون يتغنون بجماله ورقيِّه، فلم يذهب الفنان دريد لحام إلى مَحْو تاريخ الوطن؟!
المصدر: