ستيفن إم والت*
ترجمة: علاء الدين أبو زينة
يقوم فهمنا -أو سوء فهمنا- لوجهات نظر البلدان الأخرى بتشكيل النظام العالمي. وسيكون من الأفضل لو أن الولايات المتحدة (وغيرها) يبذلون المزيد من الجهود لحل النزاعات من خلال الدبلوماسية الحقيقية بدلاً من تحميل فاعلي الشر المسؤولية عن جميع شرور العالم وجعل القضاء عليهم حتمياً حتى تنتصر الفضيلة.
* * *
تتنافس الدول وتواصل التنافس للعديد من الأسباب. وفي بعض الأحيان تكون هذه الأسباب واضحة تمامًا للمتنافسين. لكن الأسباب الجذرية للخلاف تكون في حالات أخرى غير مفهومة جيدًا ويكون حجم العداء أكبر مما ينبغي. وفي الحالة الأخيرة، تكون الدول على معرفة بأنها تختلف، لكنها تكون إما مشوشة أو مخطئة بشأن السبب (الأسباب) الكامنة وراء المشكلة بينها. وفي ظل هذه الظروف، تصبح المشكلة أكثر صعوبة على الحل ويكون احتمال تصاعد دوامة الصراع أكثر احتمالاً.
لهذا السبب، فإن أحد الدروس التي أجربها أكثر من غيرها في محاضراتي هو تعليم أهمية التعاطف: القدرة على رؤية المشاكل من منظور شخص (أو بلد) آخر. وللقيام بذلك، لن يكون من الضروري الاتفاق مع وجهة نظر هذا الآخر؛ وسوف يتعلق الأمر بفهم الكيفية التي يرى بها الآخرون الموقف المعنيّ وفهم السبب في أنهم يتصرفون كما يفعلون. والسبب في ذلك عمليٌّ بدرجة ملحوظة: من الصعب إقناع منافس بتغيير سلوكه إذا لم تتمكن من فهم أصل هذا السلوك.
تذكرت هذه المشكلة عندما قرأت العديد من مقالات النعي لـ”لي روس”، عالم النفس الاجتماعي الرائد الذي درّس في جامعة ستانفورد لسنوات عديدة. وقد اشتهر روس بعمله على ما أسماه “خطأ الإسناد الأساسي” والذي أصبح مفهومًا أساسيًا في المجال وتم استخدامه على نطاق واسع. وباختصار، الخطأ الأساسي في الإسناد هو الميل البشري إلى تأكيد التفسيرات “النزعاتية” للسلوك على حساب التفسيرات “الظرفية”. وبعبارات أخرى، يميل الناس إلى رؤية سلوك الآخرين باعتباره انعكاسًا لخصوصية بنيوية، أو شخصية أو رغبات أو نزعات الآخر وليس كرد فعل على المواقف التي يجد الآخرون أنفسهم فيها. ومع ذلك، فإننا نميل إلى تغيير سلوكنا كاستجابة للظروف التي نواجهها بدلاً من أن تكون مجرد مظهر من مظاهر “كينونتنا”.
على سبيل المثال، عندما يكذب علينا شخص ما، فإننا نميل إلى الاعتقاد بأن السبب في ذلك هو أن شخصيته معيبة وأنه يفتقر إلى النزاهة. لقد كذبتَ لأن هذا هو بالضبط الشخص الذي تكونُه. وفي بعض الأحيان يكون هذا صحيحاً. لكننا عندما نكذب نحنُ، فإننا نميل إلى رؤية ذلك على أنه الشيء الذي ينبغي فعلُه في ضوء الموقف الذي نكون فيه، وليس كدليل على عيوب في شخصيتنا. وعندما يفقد شخص آخر هدوءه ويَضرب، فإننا نستنتج أنه سيئ المزاج بطبيعته أو أنه يواجه صعوبة في التعامل مع الغضب بدلاً من التساؤل عما إذا كان يعاني إرهاق فرط العمل، أو أنه يناضل مع ثلاثة أطفال صغار محبوسين، أو أنه يعاني قلة النوم.
نتيجة لذلك، ثمة ميل إلى الاعتقاد بأن الناس الآخرين لديهم قدر من الحرية أو السيطرة على أفعالهم أكثر مما لدينا نحن على أفعالنا. إننا نعتقد أن ما يمكننا فعله يعتمد كثيرًا على ظروفنا، لكن ما يفعله الآخرون يتحدد إلى حد كبير بمن يكونون وبماذا يريدون. ويترتب على ذلك أنه عندما تنشأ مشكلة بيننا، فإننا نميل إلى الاعتقاد بأن لديهم من الخيارات أكثر بكثير مما لدينا لحلها، وبالتالي ينبغي أن يقع العبء عليهم هم.
كما أوضح العالم السياسي روبرت جيرفيس في كتابه الكلاسيكي “التصور والفهم الخاطئان في السياسة الدولية”، فإن النتائج التي توصل إليها روس وغيره من علماء النفس الاجتماعي يمكن أن تساعدنا على فهم السبب في ظهور دوامات الصراع في كثير من الأحيان ولماذا يكون من الصعب للغاية عكس وجهتها. إذا شعر كل من الطرفين أن أفعال الخصم تتولد داخليًا وأنها طوعية إلى حد كبير، في حين أن أفعاله هو دفاعية ومترددة، وأنها تأتي إلى حد كبير كاستجابة للظروف الخارجية التي ليس لديه سيطرة تذكر عليها، فسيكون من الصعب للغاية العثور على قاعدة مشتركة لحل الخلاف.
توجد الأمثلة على هذا التحيز في كل مكان في السياسة الخارجية. إنه حجر الزاوية في السياسة الخارجية السائدة التي تفسر بطريقة انعكاسية ما تفعله الدول من خلال التركيز على القادة أو أنواع الأنظمة. لماذا تتدخل روسيا في أوكرانيا؟ لأن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سفاح تدرب في المخابرات السوفياتية ومهووس بفكرة استعادة مكانة روسيا كقوة عظمى، وأنه اغتنم فرصة. لماذا تتدخل إيران في العراق وسورية واليمن؟ لأنها يديرها متعصبون دينيون لا يبالون بحياة الإنسان ويريدون تصدير النموذج الإيراني. لماذا تضطهد صين صاعدة جماعة الأويغور وتبني جزرًا في بحر الصين الجنوبي وتهدد تايوان؟ لأن الرئيس الصيني شي جين بينغ زعيم طموح يريد أن يسجل في كتب التاريخ كقائد أكثر رؤيوية حتى من الزعيم الصيني الراحل ماو تسي تونغ. وما إلى ذلك وهلم جرا. وليس من الشائع أن يفكر الخبراء فيما إذا كانت هذه الأفعال العدوانية، التي ينبغي الاعتراف بأنها كذلك، هي ردود فعل دفاعية على الأحداث أو الظروف التي رآى هؤلاء القادة (محقين أو مخطئين) أنها تشكل تهديداً.
كما سبق وأن أشرتُ في العام 2015، فإن سياسة روسيا في أوكرانيا تشبه بشكل لافت للنظر سياسة إدارة ريغان تجاه نيكاراغوا في الثمانينيات. في كلتا الحالتين، تخشى قوة عظمى من إمكانية أن تقود التطورات السياسية الداخلية في بلد قريب ذلك البلد إلى إعادة تنظيم نفسه مع القوة العظمى المنافسة، التي تكون قد نظمت على أي حال ودعمت جيشًا من المتمردين لتحدي الحكومة المحلية. ولكن، حيث رأى الأميركيون سياستهم على أنها ضرورة مفروضة عليهم بسبب الظروف، فإنهم رأوا أفعال بوتين على أنها طوعية بحتة، وغير مبررة مطلقاً، وأنها دليل لا يمكن دحضه على طبيعته الإشكالية.
عندما يتحول المسؤولون والمعلقون الأميركيون إلى تأمل سلوك الولايات المتحدة، فإنهم عادةً ما يرون أنه ليس مدفوعًا بالتصرفات أو الرغبات أو الشخصيات الفردية بقدر ما هو مدفوع بالضرورات الإستراتيجية الملحة. لماذا تنشر الولايات المتحدة أساطيل وقوات وأسراباً جوية في جميع أنحاء العالم، ولماذا تتدخل كثيرًا في الشؤون الداخلية للدول الأخرى؟ ليس لأنها تريد أن تفعل هذه الأشياء -أوه، كلا!- إنها تفعل ذلك لأن لديها “مسؤوليات خاصة”، أو لأنها تتعرض لتهديدات فورية تحتاج إلى مواجهتها. ومن وجهة النظر هذه، فحتى “الحروب الانتخابية” الأخيرة هي شؤون فرضتها عليها الظروف.
كما يعزز التحيز في الإحالة إلى الآخر الدافع المتكرر لحل المشكلات الدولية -ليس من خلال الدبلوماسية والتسويات، وإنما من خلال محاولات تغيير النظام أو أي خطوات متطرفة أخرى. إذا كان سلوك الخصم المثير للقلق نزعاتياً -وربما انعكاساً لما يكونه حقًا- فسوف يكون من الصعب عندئذٍ تخيل التمكن من علاجه طالما بقي الأشخاص والمؤسسات المسؤولة عنه في أماكنهم. إنك إذا كنتَ تتعامل حقًا مع زعيم أو نظام غير نزيه تماماً أو عدواني بشكل لا رجعة فيه، فمن المحتمل أن تكون المساومات ومحاولة التسويات غير مجدية -بل إنها يمكن أن تكون خطيرة.
ولذلك، فإن من ضرب المعجزة الصغيرة أن تؤدي الاستعدادات لحرب وقائية (مثل حرب العراق في العام 2003) دائمًا إلى شيطنة العدو باعتباره شريرًا بطريقة يتعذر إصلاحها وغير موثوق به وغير قادر على التغيير أو التسوية. وربما لا يكون هذا مجرد جزء من بيع الحرب على الجمهور؛ قد يصدق حتى الأشخاص الذين يقومون بفعل الشيطنة كل ما يقولونه. وبهذه الطريقة، يجعل الاعتماد المفرط على التفسيرات “النزعاتية” من النزاعات أكثر حدة، وأكثر صعوبة على الحل، وأكثر عرضة لاستخدام العنف. ولسوء الحظ، هناك اتجاهات مماثلة تصبح أكثر وضوحاً باطراد في الولايات المتحدة أيضًا.
ثمة فضيلة في واقعية السياسة الخارجية، هي أنها تساعد العالم على حماية نفسه ضد أنواع الأخطاء الإحالاتية الأساسية التي حددها روس. بدلاً من إحالة السلوك إلى خصائص “مستوى وحديّ” آخر مختلف (شخصيات القادة، أو الأنظمة السياسية، أو أي شيء آخر)، تؤكد الواقعية كيف أنه لدى الافتقار إلى السلطة السيادية الشاملة (مثل “الفوضى الدولية”) تقوم جميع الدول -وخاصة القوى العظمى- بمنح الأولوية لمصالحها الأنانية، وتواصل التنافس بشكل أو بآخر مع الآخرين، وتسعى إلى كسب المزايا النسبية عند ظهور الفرص، وتنتهج سياسات غالبًا ما يجدها الآخرون مهدِّدة أو مزعجة. وبدلاً من تقسيم العالم إلى دول جيدة أو سيئة، وقوى تقدمية مقابل رجعيين، أو قادة محبين للسلام مقابل معتدين عنيدين، يفهم الواقعيون أن الدول والقادة من جميع الأنواع يتعاملون مع عالم غير آمن وغير سلمي، ومن المرجح أن يفعلوا أشياء مؤسفة سيئة الطالع في سعيهم لتحقيق مزيد من الأمن. وقد يكون الواقعيون على دراية جيدة بالغشاوة في عيون الآخرين، لكنهم أقل احتمالاً لتجاهل الشعاع في أعينهم هم أيضاً.
هذا لا يعني أن جميع النزاعات تستند إلى تصورات وتحيزات خاطئة، أو أن السمات والدوافع الفردية لا تلعب دورًا مهمًا في الشؤون الدولية. يمكن بالتأكيد تبرير بعض تضارب المصالح عقلانياً -والتي تكون بالتالي أكثر مأساوية- ويجب ألا يكون المتخاصمون تحت أي أوهام بشأن اختلافهم. يمكن أن تكون لجنون العظمة، أو الطموح، أو أحلام قائد فردي آثار عميقة على السياسة الخارجية للدولة، كما يمكن أن تلعب الرؤى الأيديولوجية أو العوامل المحلية أو عدم الكفاءة المطلق دورًا مهمًا أيضاً. ويجب ألا يقودنا فهم أخطاء الإحالة إلى تجاهل هذه المصادر الأخرى للمشكلات بشكل مطلق.
ولكن، عندما نكون بصدد التعامل مع مشكلة دولية مزعجة، أو عدو مثير للجدل، أو بلد نجد سلوكه مقلقًا أو مهددًا، فإن رؤية روس الأساسية تذكّرنا بأن نتوقف ونطرح على أنفسنا بعض الأسئلة الرئيسية.
أولاً، هل يتصرف خصمنا كما يفعل لأن قادته يريدون ذلك فعلاً، أم لأنهم يعتقدون أن الوضع الذي يعيشون فيه يجبرهم على فعل شيء كانوا ليفضِّلوا تجنبه؟
ثانيًا، إذا كان الخيار الأخير احتمالًا حقيقيًا، فهل من الممكن أيضًا أن بعض أفعالنا قد تزيد من إحساس الطرف الآخر بالحاجة إلى فعل ما يفعل، وتعزز بشكل غير مقصود السلوك نفسه الذي يزعجنا؟
ثالثًا، إذا كان الأمر كذلك، فهل يمكننا اتخاذ خطوات للتخفيف من حدة هذه المخاوف -مثل تغيير الوضع الذي يجد خصمنا نفسه فيه- من دون تعريض مصالحنا للخطر؟
لن يكون من الممكن دائمًا عكس مسار دوامة غير ضرورية، ولكن سيكون من الأفضل لو أن الولايات المتحدة (وغيرها) يبذلون المزيد من الجهود لحل النزاعات من خلال الدبلوماسية الحقيقية بدلاً من تحميل فاعلي الشر المسؤولية عن جميع شرور العالم وجعل القضاء عليهم حتمياً حتى تنتصر الفضيلة. بالنسبة لهذه الرؤية الأساسية، يدين مجال العلاقات الدولية بدَين فكري كبير للراحل روس. وسيكون فكره بالتأكيد إرثًا مناسبًا لو أنه امتلك نفوذاً أكبر في إدارة السياسة الخارجية.
*أستاذ روبرت ورينيه بيلفر للعلاقات الدولية بجامعة هارفارد، وكاتب عمود في مجلة “فورين بوليسي”.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: The Geopolitics of Empathy
المصدر: الغد الأردنية/(فورين بوليسي)