د- عبد الناصر سكرية
حينما انتفض الشعب السوري للتخلص من نظام الإستبداد والتبعية والفساد كان يتمتع بكل صفات ومواصفات الشعب الواحد الذي يعرف هويته ومطالبه ويتمسك بها ويقدم التضحيات لأجلها.
كانت سمات الإنتفاضة واضحة جلية تعبر عن تطلعات شعب يعاني من القهر والقمع والإستبداد طيلة أزيد من أربعة عقود هي عمر نظام مزرعة آل الأسد ..
– السمة الأولى أنها كانت إنتفاضة شعبية عفوية شاملة…
بحيث شاركت فيها كل الفئات الشعبية في مختلف المناطق السورية..
وقد كان لشعارها الواحد الموحد : الشعب السوري واحد أبلغ الدلالة على وحدة الشعب السوري المنتفض على خلفية قضية وطنية واحدة موحدة..
فكان هذا كافيا للتأكيد على مصداقية الإنتفاضة الشعبية وأحقية مطالبها الوطنية..
وحينما كانت الإنتفاضة شعبية وعفوية ووطنية موحدة ، فإنها اكتسبت شرعية ثورية وتحولت بسرعة إلى ثورة شعبية ذات منهج مطلبي واضح محدد..
– السمة الثانية أنها كانت شبابية بالمعنى الصحيح والفعلي..حيث أبرز المحركين والنشطاء والمتحركين والميدانيين والمنسقين من القوى الشبابية التي تعاني وتكابد القهر وإنسداد كل آفاق الوضع الداخلي في مختلف المجالات ..وحينما يخرج الشباب ثائرا منتفضا ضد سلطة نظام مجرم فاسد فهذا يعطي مزيدا من المصداقية الثورية للانتفاضة الشعبية ولمطالبها الوطنية التحررية..
– السمة الثالثة أنها كانت إنتفاضة من أجل الحرية والكرامة والمشاركة في المصير الوطني ورفض تغييبه في دهاليز الصفقات الإقليمية والدولية التي جعلت سورية ميدان صراعات دولية وتجاذبات إقليمية للسيطرة عليها أو لتوجيه قرارها ومصادرة مواردها ضد مصلحة أبنائها وشعبها..وهذا يعني أنها كانت ثورة من أجل الحياة بأبعادها المتنوعة المتكاملة..
وحينما تكون الإنتفاضة شعبية عفوية وطنية جامعة فهذا بيان أكيد لصدقها ؛ مما يعني أنها لن تنهزم مهما كانت التضحيات التي قدمتها أو سوف تقدمها..
وحينما تكون ثورة شبابية فهذا يفيد أنها منصورة مهما طال الزمان وإشتد الظلام من حولها في مرحلة من المراحل..
يكتسب هذا السياق لطبيعة الثورة السورية أهميته في الوقت الراهن لأسباب كثيرة أبرزها حالة الإحباط التي أصابت الكثير من الشباب والفئات الشعبية التي كانت ناشطة وتأمل في تحقيق أمانيها الوطنية بتضحيات أقل وبأثمان أرخص تكلفة..
وعلى الرغم من مواصلة قطاعات شعبية واسعة للعمل الثوري النضالي لا سيما من الفئات الشبابية الأكثر إلتزاما ووعيا ونقاء وطنيا وثوريا ؛ إلا أن الثورة كقوة تعبير وتغيير في آن واحد ، تعاني من تراجع فعاليتها الشعبية مما مكن القوى المعادية للثورة من التقدم وإكتساب الكثير من المواقع ..إننا نتحدث هنا عن مجال ثقافي ونفسي وإجتماعي وليس عن موازين القوة العسكرية والمادية حيث تتفوق القوى المضادة بلا شك أو جدال..
حيث أن الثورة في مراحلها الأولى أنجزت إنتصارا مدويا على صعيد الوقائع الحياتية والمفاهيم الثقافية والقيم النفسية للانسان السوري ولمعظم أبناء الشعب السوري..
فحينما تحدت الأرادة الشعبية كل قيود القهر والاستبداد وواجهتها ؛ فإنها حطمت جبروته وكسرت قيوده وتجاوزت ذلك الرهاب النفسي المرعب الذي كان يكبلها ويمنع حركتها ويجعل منها كتلة جامدة عاجزة عن اي فعل إيجابي..
الثورة نقلت هذا الشعب البطل إلى دائرة الفعل والإرادة وإخافة المستبد بعد أن كانت هي التي تخافه..
لقد تحقق هذا في الشهور الاولى للثورة وبشكل عاجل وحاسم..ولقد تجلى الرعب الذي أصاب النظام في أعداد المعتقلين الضخمة ووسائل تعذيبهم وقتلهم بشكل يفوق المقدرة على التصور..كما في إستجداء الحماية الدولية وضراوة القصف العشوائي التدميري الذي أراد مصادرة الحياة ذاتها..
إلا أن مجريات الأحداث لاحقا قد وجهت ضربات مؤلمة لهذا الإنتصار النفسي – الثقافي الأخلاقي وأعادث الكثيرين إلى دائرة السكون والترقب والحذر ولا نقول الإستكانة والخوف والخضوع..فيما أصيب آخرون بالإحباط المؤقت أو العابر..
في غمرة هذه الأحداث برزت بالمقابل كتل شبابية ذات وعي متميز وقدرة على العمل والعطاء والتنظيم تفوقت على ما سبقها من تجارب ميدانية للعمل السياسي أو النضالي الوطني..فقد أتاحت أجواء الإنعتاق النفسي التي تحققت بفعل الثورة ؛ لعشرات آلاف الشباب السوري الحر فرصا كبيرة للعمل الميداني سواء من بقي في داخل سورية أو من يعمل من خارجها..ولقد برزت طاقات شبابية متميزة في كل مجالات العمل ..ثقافيا وفنيا وإجتماعيا وعلميا وحتى نضاليا..فتشكلت جمعيات ومؤسسات وتنسيقيات وروابط تهتم وتتابع كل قضية وطنية بكل تفاصيلها..من اول قضايا المعتقلين إلى الإغاثة والتضامن الانساني الى التدريب والتأهيل والتوعية والمساندة المختلفة..يمكن القول أن ورشة عمل كبيرة جدا قائمة الآن في أوساط الشباب السوري حيثما تواجد وتصب جميعا في إطار قضيته الوطنية الشعبية الصادقة…وهذا بحد ذاته يكفي ويزيد للدلالة على أمرين اساسيين : الاول
– إستمرارية الثورة.
والثاني
– قدرتها على التحقيق والتقدم والانتصار ..
إذ ليست الثورة سوى تراكم أعمال ميدانية ناجحة معبرة صادقة ، وحصيلتها الختامية..
المشكلة لم تعد إنتصار الثورة بل إستمرار مقدرة القوى المعادية على سرقة منجزات الثورة وإعادة الشعب إلى الدائرة المغلقة الضيقة الأولى..وهذا غير ممكن موضوعيا..ومع ان موازين القوة العسكرية والمادية والعينية هي التي تشكل الخلل الاكبر في واقع الثورة ؛ إلا أن موازين الإرادة الشعبية هي لصالح الثورة ولن تكون عكس ذلك..فحتى أؤلئك الخاضعين لسيطرة قوى الإحتلال المتعددة لم يعودوا خانعين كما كانوا قبل الثورة..لن نتحدث عن اؤلئك المنافقين والانتهازيين المستفيدين من قوى الاحتلال وقوى الامر الواقع المعادية للثورة .هؤلاء ساقطون من اية حسابات شعبية وطنية..
لن نتحدث عن حالة احباط عامة أصابت كثيرين من أبناء الشعب السوري وخصوصا أؤلئك الذين دفعوا أثمانا باهظة من حياتهم وممتلكاتهم وأبنائهم ..فتلك تحتاج معالجات ثورية خاصة وإن كانت مطلوبة وملحة وتقع على عاتق القوى الثورية أولا..
الحديث هنا موجه الى تلك القوى الشبابية ذاتها والتي انخرطت في صفوف الثورة .وحتى أؤلئك الشباب الذين انسدت أمامهم آفاق الحياة وبوابات التغيير فهاجروا أو سكتوا أو إمتنعوا عن العمل الميداني ؛ فهم جميعا لا يزالون في عداد القوة الشبابية الثورية التي ينبغي استمرار التوجه إليها ومخاطبتها ومعالجة أسباب إحباطها وإحجامها عن المشاركة الفعلية الفاعلة ..
هؤلاء هم أجيال الثورة وقيادتها ..
وحين الحديث عن قيادة شبابية للثورة فإننا نطرق أبواب تلك الاسماء المسماة معارضة وكانت وبالا على الثورة حيث خدمت أعداءها ولم تحقق شيئا من مطالب القوى الشعبية..وهذا بدوره يطرح أمامنا ذلك التحدي الأكبر الذي ما يزال أمام الثورة ونعني بلورة قيادة وطنية موحدة لها ؛ تستعيد واجهتها المسروقة وتعيد إليها تمثيلها الصادق وتعبيرها الأصيل لتعود فتمتلك القدرة على المواجهة والتغيير….هذا المطلب الملح جدا كان بالإمكان تحقيقه بصورة أفضل في الاشهر الاولى إلا أن انخداع البعض منا ببعض الاسماء التي جرى تلميعها على عجل وتصعيدها الى واجهة إعلام للثورة ؛ أدى الى اختطاف تلك الواجهة من قبل قوى سلبية واخرى معادية تحالفت معا لإفشال الثورة..
لقد نجحت الثورة في خطها الإستراتيجي وفي بلوغ جوهر العمل الثوري أي :
— التعبير والتغيير —
يبقى الإنجاز – أيا كان نوعه ومستواه – متوقفا على مقدرة الاطار الثوري الوطني على استثمار ما تم تحقيقه وصيانته وحمايته وتعميقه ..هذا هو المطلب الاكثر الحاحا حاليا لحماية الشباب والثورة والشعب من مصير يهدد الجميع بالتآكل من الداخل..إننا لا نخشى مواجهة قوى الاعداء بل تشتت قوى الأصدقاء وشرذمة قوى الشعب وتحديدا الشباب..
الباب مفتوح ليتقدم من يمتلك وعيا اكبر ..من يمتلك رؤية اشمل..من يحتفظ بارادة اصلب ونفس أطول..الشباب هو عنوان المستقبل وقيادة العمل الوطني اللازم..
فليتقدم الشباب لبلورة هذا الاطار الوطني الجامع على هدي القواعد الوطنية المشتركة التي يتفق عليها مجمل الشعب السوري..وليكن هدفه المركزي الراهن هو هذا الاطار الجبهوي الجامع..بما يستوجبه من عمل مشترك يصوغ برنامجا مرحليا للعمل الوطني المثابر .حينها ستكون الثورة على ضفاف انتصار أكيد..
إن هذه الثورة العظيمة بما تمتعت به من مواصفات وما حملته من قيم وأصالة ، شكلت خطرا كبيرا على النفوذ الدولي المستقر في المنطقة منذ اربعة عقود ..كما شكلت علامة مضيئة كان مقدرا لها أن تفتح آفاق التغيير الشامل في المنطقة برمتها..وكان هذا سببا كافيا لتنقض عليها كل قوى النفوذ الدولي والإقليمي متحالفة مع قوى الجمود العربي الرسمي وكل المتضررين من أي تغيير إيجابي تقدمي في أي بلد عربي ؛ فكيف إذا كان في سورية التي تمثل إطار فلسطين وقضيتها ومفتاح السيطرة على المشرق العربي بما يعني ذلك من تهديد أكيد لدولة المحتل الصهيوني فيما لو انتصرت..
فكانت مسارعة النظام الدولي بزعامة اميركا للإستعانة العاجلة بالتدخل الروسي والإيراني لمنع سقوط النظام الذي كان وشيكا .. ثم إقتحام صفوف الشباب الثائر بتشكيلات ميليشيوية حملت رايات الدين زورا وبهتانا لتخريب الثورة من الداخل..وهكذا تحالفت كل قوى النفوذ الأجنبي مع كل قوى الحقد والشر الإقليمية مع النظام الرسمي العربي مع كل قوى الجهل والظلام والتبعية المحلية للإطاحة بالثورة التي لم تحظ باي دعم حقيقي من أية جهة..لاول مرة في تاريخ الشعوب كانت ثورة شعب سورية يتيمة فكشفت كل الاضاليل والتزييف والخداع بمختلف أسمائه وعناوينه..
وكان هذا الحلف الشيطاني العالمي غير المعلن وبما يملك من إمكانيات هائلة وادوات متنوعة وتقنيات خبيثة ؛ أهم الاسباب التي اوصلت الثورة إلى وضعها الراهن..
ومع غياب القيادة الوطنية الموحدة للثورة تفاقمت التدخلات الخارجية وتعزز دور أدواتها المحلية وتكاملت فعالياتها الميدانية ؛ جرى إستفراد القيادات الشعبية الحقيقية ومحاصرة كل قوة شعبية ميدانية وخنقها ؛ ثم كانت النتيجة إحتلالات متعددة لكل سورية…وحيث انه لا بديل ولا خيار عن تحرير سورية من المحتلين وفي مقدمتهم النظام ؛ فإن الواجب الوطني والإنساني والأخلاقي يستوجب على جميع السوريين المخلصين الراغبين في حياة حرة كريمة في وطنهم ؛ العمل معا لتفعيل الحالة الثورية والنضال الوطني لتحقيق ما يصبو أحرار سورية جميعا إليه..
وفي أوجب المهمات الوطنية العمل معا لبلورة جبهة وطنية سورية شاملة تجمع كل الوطنيين لاستعادة التمثيل الصحيح للثورة من التشكيلات التي صنعتها القوى المضادة وفرضتها متحدثة عنها باسم المعارضة..في ذات الوقت الذي تعمل فيه بين صفوف ابناء الشعب المنكوب في كل اشكال الرعاية والتضامن وتعزيز مقومات الصمود بقدر ما تتحمل إمكانياتها المحدودة جدا قياسا الى حجم المآسي والنكبات..ولعل أخطر تحد راهن يتمثل في محاولات المحتلين تغيير الطبيعة السكانية للمجتمع السوري بما يؤدي الى نسف هويته العربية وتفجيره من الداخل شظايا مبعثرة متناحرة…
إن الجهد الأكبر في تنظيم الصفوف وازاحة المتسلقين واطلاق وسائل نضالية جديدة يقع على عاتق الشباب الوطني الحر ، بترشيد وتوجيه ورعاية كاملة من كل النخبة الشريفة المتحررة.
وكل من يتقاعس عن هذا الواجب الملح كبيرا أو صغيرا ، مقيما أو مهاجرا ؛ فلن يبقى في مأمن من النتائج المدمرة لاحتلال سورية وتقسيمها وتقاسمها بين القوى الاجنبية وابقاء النظام المجرم مجرد واجهة لتمرير اهداف كل اعداء سورية والمتآمرين عليها وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأميركية..لن يسلم أحد حتى ولو عاش في جزر واق الواق..فالإنسان السوري ذاته مستهدف وليس فقط سورية الأرض والوطن والمجتمع والدولة والهوية…
إن استمرارنا على هذه الأرض مرهون بمدى عملنا الجدي المشترك لإنقاذ أنفسنا وحياتنا وارضنا وأهلنا وشعبنا كله.. إنقاذ وجودنا برمته من الهلاك المرصود والفناء المنضود.