سامر إلياس
إشارتان مهمتان برزتا في نشاط وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، على هامش أعمال الجمعية العامة للأمم المتحدة، الإشارة الأولى عدم لقائه بنظيره الأميركي أنتوني بلينكن، ولوحظ أن المتحدثة باسم الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا حرصت على نفي اللقاء. والإشارة الثانية لقاء لافروف مع وزير الخارجية الأميركي الأسبق هنري كيسنجر، وحسب وسائل إعلام روسية تناول البحث العلاقات الثنائية بين روسيا والولايات المتحدة وآفاق تطويرها. وكان لافتاً تنويه الإعلام الروسي إلى أن “كيسنجر سياسي مخضرم، له ثقله في الولايات المتحدة وعلى الساحة الدولية، ويحظى بنفوذ لا ينضب في الدبلوماسية الأميركية. ومعروف بمواقفه الداعمة للحوار بين واشنطن وموسكو”.
اللقاء بين ثعلب السياسة الروسية لافروف وثعلب السياسة الأميركية كيسنجر، مع الفرق أن الأول يبرع في اشتقاق تكتيكات، والثاني صانع لاستراتيجيات طويلة الأجل، ليس الأول من نوعه، فقد التقيا عام 2019 على هامش أعمال الجمعية العامة، وناقشا العناوين ذاتها، وعقدت لقاءات كثيرة بين المسؤولين الروس، ومن ضمنهم الرئيس فلاديمير بوتين، مع كيسنجر بشكل شبه دوري منذ تسعينيات القرن الماضي لكن ما ميَّز اللقاء الأخير تزامنه مع عدم حصول اجتماع رسمي بين لافروف وبلينكن، واستمرار تدهور العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة في السنوات الأخيرة، ووصولها إلى أدنى مستوياتها في الشهور الأولى من ولاية الرئيس جو بادين، على خلفية العديد من الملفات الشائكة والقضايا العالقة والاتهامات المتبادلة بين البلدين.
الواضح أن اللقاء أملته حاجة الدبلوماسية الروسية لاستكشاف الوجهة التي ستمضي فيها الإدارة الأميركية بخصوص العلاقات الثنائية مع روسيا وكيفية تعاطيها مع القضايا الخلافية، والتغيرات المحتملة في السياسة الخارجية لواشنطن بعد الانسحاب من أفغانستان، مع وجود تحليلات متضاربة تؤكد بعضها أن إدارة بايدن بصدد إعادة تركيز اهتمامها على منطقة الشرق الأوسط والانخراط في ملفاتها لاحتواء التمدد الروسي، بينما تؤكد تحليلات أخرى أن واشنطن مستعدة للانفتاح على موسكو إذا لبت الأخيرة شروطاً محددة.
لكن التحليلات في كلا الاتجاهين لا تفيد بأن واشنطن بصدد المفاضلة بين إعادة الانخراط مجدداً في الملفات الشرق أوسطية وبين تغيير دفة علاقاتها مع موسكو، فالأهمية الجيوسياسية لمنطقة الشرق الأوسط كانت ومازالت تفرض نفسها على دوائر صنع القرار في الولايات المتحدة، ومثَّل التعاطي معها نقطة مفصلية في مراجعات إدارة بايدن، والتساؤل يدور حول الطرق التي ستتبعها واشنطن في التعاطي مع ملفات المنطقة، وفي مقدمها: الصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، والأزمة السورية، والأزمة الليبية، الخلاف التركي- اليوناني، وتقارب أنقرة مع موسكو، والملف النووي الإيراني. وغالبيتها ملفات إشكالية بين واشنطن وموسكو، وطبيعة العلاقات بينهما ستقرر إلى حدّ بعيد أسس وإطار حلها، بمعنى البحث عن تقاطعات في المصالح في حال تحسن العلاقات، أو دخول الطرفين في مواجهة يحاول فيها كل طرف تسجيل نقاط على الطرف الآخر، السيناريو الأسوأ فيها حروب جديدة بالوكالة. وخاصة في سوريا وليبيا، بالإضافة إلى مناطق في العمق الإفريقي مرشحة لأن تكون نقاط تماس بين استراتيجيات موسكو وواشنطن.
سيناريو إمكانية تحسن العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة يفترض تنازلات متبادلة، إلا أنها لن تغير من جوهر العلاقات التنافسي والعدائي، والذي يتم تبريده في بعض المحطات بالتعاون في ملفات محددة بما يحقق مصالح مشتركة. ويبدو أن وجهة السياسة الأميركية في المرحلة المقبلة تسعى لعلاقات دافئة نوعاً ما روسيا، وهو ما عبَّر عنه وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن، في تصريح لصحيفة “لا ريبوبليكا” الإيطالية في يونيو/ حزيران الماضي، بالقول إن “الولايات المتحدة تأمل في علاقات مربحة وأكثر استقراراً مع روسيا”، لكنه لم يسقط من الحسبان إمكانية استخدام “عصا العقوبات الغليظة” إذا تعارضت المصالح على نحو كبير.
موسكو قابلت، حينها، تصريح بلينكن ببرود، ومن قبله وبعده تصريحات للرئيس بايدن ومسؤولين في إدارته صبت في السياق ذاته، وأبدت موسكو ريبة وشكوكاً في دوافع واشنطن للانفتاح عليها، لجملة من الأسباب منها إبقاء واشنطن على سيف العقوبات مشرعا، وعدم وجود دلائل على أن واشنطن يمكن أن تقدم تنازلات مفصلية في ملفات خلافية ساخنة مثل الملفين السوري والأوكراني، والأهم من هذا وذاك ما الذي تريده واشنطن على المدى الاستراتيجي من وراء تحسين العلاقة مع موسكو رغم التعارض الكبير في المواقف بينهما.
يفترض أن يكون لافروف قد حمل معه هذا التساؤل ليستشف الإجابة عليه من محادثاته مع كيسنجر، ليس كخبير مخضرم ومؤثر في السياسة الأميركية فحسب، بل ربما كصانع لتوجهات جديدة حيال موسكو تعمل عليها إدارة بايدن، بنصيحة قدَّمها على أبواب الانتخابات الرئاسية الأميركية تشرين الثاني/نوفمبر 2020، ومفادها تكرار الحيلة التي استخدمت ضد الاتحاد السوفيتي في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، ولكن معكوسة هذه المرَّة، ففي ذلك الحين استخدم الانفتاح على الصين كحجز زاوية في استراتيجية وضعها كيسنجر لاحتواء الاتحاد السوفيتي، وأعطت ثماراً كبيرة. والمطلوب اليوم تبعاً لنصيحة كيسنجر الانفتاح على روسيا كجزء من استراتيجية لاحتواء الصين، التي باتت تشكِّل المنافس الحقيقي للولايات المتحدة.
الإشكالية في نصيحة كيسنجر أنها ليست واقعية تماماً، لاختلاف الظروف الجيوسياسية بين سبعينيات وثمانيات القرن الماضي واليوم، فالاقتصاد الروسي بأمس الحاجة للتبادلات التجارية مع الصين وخاصة في مجال الطاقة، وهناك أرضية مشتركة بين موسكو وبكين للإبقاء على تنسيق عال المستوى في الكثير من الملفات السياسية الدولية، بالإضافة إلى التعاون العسكري وإن انخفض مستواه في السنوات الأخيرة بعد تحقيق الصين اكتفاء ذاتياً في العديد من مجالات التسلح والتقنية العسكرية. فضلاً عن أن الصين تتصف بأنها منافس للولايات المتحدة من موقع الندية.
وفي المقابل، الشراكة بين روسيا والصين مختلة لصالح الأخيرة بشكل مضطرد مما يشكل مخاطر سياسية واقتصادية على روسيا في المدى المتوسط والبعيد، يرتبها محذور وقوعها في شباك التبعية للصين. كما تخشى روسيا من تنامي القوة العسكرية الصينية، وتوسع نفوذ بكين في فضاء الاتحاد السوفيتي السابق، الذي تعتبره موسكو مجالاً حيوياً لها. ورغم ذلك لا يمكن اعتبار هذه المخاوف دافعاً لموسكو للابتعاد عن بكين في المدى المنظور، لكن إيجاد نوع من التوافق بين روسيا والولايات المتحدة غير مستبعد انطلاقاً من احتياجات نفعية بين البلدين، سيحاول كل منهما توظيفها في صالحه بأكبر قدر ممكن.
في هذا السيناريو من المقدر أن تكون الأزمة السورية هي الملف الأبرز في “بازار” التكتيكات النفعية لروسيا والولايات المتحدة. فموسكو تدرك أن الخروج من عنق زجاجة الأزمة السورية يتطلب صفقة مع واشنطن، لا يمكن من دونها تحقيق مكاسب سياسية أو اقتصادية. وفي رصيد الكرملين أنه يستطيع إعطاء ضمانة بأنه سيعمل على أن يكون من أسس أي تسوية سياسية للملف السوري ضمان أمن إسرائيل بأكبر مقاربة مع شروطها، وتمهيد الطريق أمام تطبيع النظام معها، بطريقة أو أخرى، وهذا متحقق عملياً مع تحول قاعدة حميميم إلى مركز تنسيق يومي بين العسكريين الروس والإسرائيليين وبتوافق ضمني مع نظام الأسد.
بدورها تضع واشنطن المصالح الإسرائيلية على رأس قائمة أولوياتها، وتنظر إلى الأزمة السورية ليس من منظار محاسبة النظام على جرائمه وانصاف الشعب السوري، بل من منظار كونها أحد الأوراق الموضوعة على رقعة لعبة المصالح.
ويمكن أن يشكَّل ذلك دافعاً لقبول الولايات المتحدة بصفقة من حيث المبدأ مع روسيا، إنما دون القبول بكل ما تطمع موسكو للحصول عليه كثمن لنتائج تدخلها العسكري في سوريا منذ أيلول/ سبتمبر 2015. إلا أن أي صفقة مرتبطة أيضاً بلاعبين إقليميين منخرطين ومؤثرين بقوة في الملف السوري، تركيا وإيران، اللتين لن تقبلا بجوائز ترضية، إن صح التعبير، لقاء تنسيقهما مع موسكو التي استطاعت تحقيق معظم أهدافها المحققة عبر التنسيق معهما ضمن مسار أستانة.
وهذا يرفع مؤشرات الخطر، بدخول الأزمة السورية في لعبة جيوسياسية على نطاق أوسع، تشمل ترتيبات إقليمية تطاول بدرجات متفاوتة العراق ولبنان والصراع الفلسطيني- الإسرائيلي، والدور الإقليمي لكل من إيران وتركيا. وتدخل فيها على الخط دول عربية تدعو للانفتاح على نظام الأسد وإعادة تأهيله.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا