علي محمد شريف
يخطئ الظنّ من يحسب أنّ ما يحصل في سورية شأن سوريّ خالص وأن المأساة السورية تخصّ السوريين وحدهم، هم فقط المعنيّون بها، وعليهم أن يتحملوا تبعات تمرّدهم على حكم الطغمة العسكريّة لوطنهم، فإن نحن أهملنا القصور في الجانب الإنسانيّ والقيميّ لهذه الرؤية الأحاديّة للمحرقة الأسدية التي طالت المجتمع السوريّ، فإننا بالتأكيد لن نتجاهل عديداً من الجوانب والأسباب الواقعية التي تحتم النظر إليها بدراية وتبصّر، ومن منظور شامل ذاتيّ وموضوعيّ بآن، فالكوارث التي أحدثها نظام المافيا الأسديّ وشركاؤه الروس والإيرانيون وأذرعهم الميلشياوية الطائفية والمتطرفة، لم تكن ردّاً على ثورة السوريّين ومطالبهم المشروعة بالحرية والكرامة والعدالة فحسب، بل كان الهدف منها أيضاً تقويض جغرافية الدولة السورية ذاتها خدمة لمشروع قديم متجدّد يهدف إلى زرع الفوضى والدمار وإفراغ الأرض من سكانها الأصليين، تمهيداً لإعادة رسم خريطة المنطقة ككلّ بما يخدم مصالح أميركا وإسرائيل في الهيمنة عليها والسطو على مقدراتها، ولعلّ ما ارتكب في سورية واليمن ومصر وليبيا..، وما سيتكرر على الأرجح في أماكن أخرى، من أهوال ومجازر مروّعة ومن جرائم الإبادة والتهجير، وجميع جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية بحق السكان المدنيين وبخاصة الأطفال والنساء والشيوخ، في ظلّ صمت دولي متعاظم وتواطئ أعضاء مجلس الأمن الخمس، تدلّ بوضوح إلى الغايات المذكورة لتحقيق المخطط المشار إليه.
منذ تشكّل الوعي بأهمية هذا الجزء من الأرض المسمّى حديثاً الشرق الأوسط لم تتوقف محاولات السيطرة والاستحواذ على هذه المنطقة التي تشكل عقدة العالم ورئته وذاكرته، بل وإرثه العقديّ والثقافي والحضاري، وقد زادت أهميتها باكتشاف ما تحتويه من ثروات طبيعيّة هائلة، وقد كانت هدفاً للحملات المختلفة التي تمتزج فيها الأطماع الجيوسياسية والاقتصادية بالأبعاد التاريخية والأيديولوجية ذات الطابع الثأري، ولعلّ ما يعرف بالحملات الصليبية خير شاهد ودليل على البعد العقائدي لتلك الحروب الظالمة التي استهدفت بلادنا في الماضي والحاضر.
لقد مارست أميركا بخاصة ودول أوربا الاستعمارية عامة منذ بدايات نهضتها الصناعية والزراعية تجارة الرقيق، اتبعت فيها أساليب القرصنة وخطف البشر من مواطنهم في دول أفريقيا ونقلهم إلى أراضيها بغية استعبادهم، لسدّ النقص البشريّ وتأمين اليد العاملة واستخدامها في الأعمال الشاقة والمهينة، بنظرهم، دون مقابل يذكر، وقد كانت تتم معاملة العبيد بوحشية وبأسوأ من معاملة الحيوانات، لكن مع نضال هؤلاء البشر ونموّ الوعي، والتطور الحاصل في القوانين ووسائل الإعلام انقرضت العبودية كما الاحتلال ظاهريّاً أيضاً، فكان البحث عن شكلٍ للاستعباد برّاق يتستر برداء المبادئ الإنسانية، لضخ الدمّ في شريان القوة الشبابية المتناقصة، ولتلافي التهديد الوجوديّ الخطير لبنيتها السكانية الشائخة، وقد وجدت هذه الدول ضالتها في المهجّرين من أوطانهم واللاجئين هرباً من ألوان القتل المتربص بهم.
لم يكد ينتهي عصر الاحتلال العسكريّ المباشر لبلدان أفريقيا والشرق الأوسط حتى بدأت حقبة احتلالها غير المباشر بواسطة عملاء المحتلّ وأذرعه المدرّبة المرتبطة به، عبر جنرالات وأشخاص استولوا على مقاليد السلطة القهرية بقوة السلاح، وبدعمٍ سياسيّ ومادّي غير محدود من قبله، فكان أن أصبحت هذه السلطات الانقلابية قوة احتلال مقنّع بالشعارات الوطنية والأيدولوجية، ، لكنها في حقيقتها ليست أكثر من أدوات رخيصة أكثر ضراوة وأشدّ فتكاً بالشعوب المغلوبة على أمرها تنفذ إرادة المحتلّ الذي لم يجلوا عن مستعمراته سوى بجيوشه وموظفيه حفاظاً على حياتهم كمواطنين وتهرباً من كلفة أعلى لن يستطيع تحملها.
تتلخص أساليب المستبدّين والطغاة في الإفساد وتدمير المؤسسات وقهر الشعوب وتجويعها والتنكيل بقواها الحية، وتهجير العقول وطرد الكفاءات العلمية والثقافيّة، ونهب المال العام والخاص والاستيلاء على ثروات البلد، ودفع الشباب للهجرة، مع ذلك وبالرغم من تلك الأساليب المرعبة إلاّ أنها لم تكن تكفي لتأمين الأعداد الكافية من اللاجئين، إذن لا بدّ للمحتلّ السابق الذي لم يغادر أصلاً من تمكين وكلائه الطغاة من الإيغال في القمع والعنف، ومن شنّ الحرب المدمّرة على الشعب الثائر ضدّه والطامح إلى الحرية والتغيير الديمقراطي، عند ذلك تتحقق أهدافه في الهيمنة والسيطرة على المنطقة وفي انتقاء ما يكفي من ملايين المهجّرين من بيوتهم والهاربين بحثاً عن ملاذ آمن يحفظ حياة أطفالهم ونسائهم ويقيهم من أشكال الخطف والاغتصاب والتعذيب المفضي غالباً إلى الموت.
إنّ الوعي بحقيقة أدوات الاحتلال الغربيّ وكيانهم الصهيوني المصطنع من الحكام الطغاة، وبأنّ السوريّ واليمنيّ والمصريّ المقتول والمقتلع من جذوره الحيّة ليس إلاّ بداية لمشروع خطير، ومخطط جهنمي يستهدف وجود دول المنطقة وشعوبها المستضعفة، يستدعي من جميع هذه الشعوب التضامن والتآزر والتوحّد لتحقيق طموحها المشروع في التحرّر الحقيقي، وفي الوصول إلى بناء دولها الوطنية القويّة العادلة التي تحمي مواطنيها وتحفظ لهم كرامتهم وتصون حقوقهم كبشر.
لا بديل للمهجّر عن وطنه وملاذ روحه وقلبه وذكرياته، وإن طال الغياب سيعود يوماً إلى أرض تشتاقه ويشتاقها.
المصدر: إشراق