منير شحود
تعتمد التنمية على ركيزتين أساسيتين؛ السياسة والاقتصاد، وهي ديمقراطية بقدر ما تربط بينهما من أجل تحقيق مزيد من الحريات والرفاهية للمواطنين. كما تتنوع تجليات التنمية الأخرى لتشمل كل ما يغني المجتمع ثقافيًا وروحيًا ويحقق للشعب مكانة لائقة بين الأمم المتحضرة.
تتضمن التنمية السياسية اعتماد السبل الديمقراطية في الحكم، كسيادة القانون والفصل بين السلطات، فضلًا عن حضور المجتمع المدني ومساهمته المباشرة وغير المباشرة في عملية التنمية، بينما يُقصد بالتنمية الاقتصادية تحقيق أكبر قدر من الإنتاج المادي والتوزيع العادل للدخل الوطني وتخفيض نسبة الفقر والنهوض بالتعليم ورعاية الفئات الضعيفة اجتماعيًا، وغير ذلك مما يساهم في تحسين مستوى الحياة.
وفي سياق تطور المجتمعات، يحدث أن يحصل تراجع أو تقدم في جانب من جوانب التنمية، فقد يتباطأ النمو الاقتصادي في بلدان حققت مستويات عالية من التنمية السياسية، كما في دول الغرب، في حين قد تتسارع وتيرته في ظل حكم مستبد سياسيًا، كما في الصين الحالية. ويحدث أن تنجح التنمية الديمقراطية المتوازنة في رفع بلدٍ إلى مستويات عالية في سلم الحضارة خلال فترة زمنية قصيرة، كما في كوريا الجنوبية، في حين تعجز بلدان أخرى، ولو امتلكت عمقًا حضاريًا، عن النهوض من كبوتها، كما في منطقة الشرق الأوسط، ومصر على وجه الخصوص.
بالمقارنة بين الصين ومصر، حيث يمتلك الشعبان حضارة عريقة، ولو مع فترات من الانقطاع التاريخي، نجد أن التنمية الاقتصادية نجحت في الصين على حساب التنمية السياسية منذ ثمانينيات القرن الماضي، ولو على حساب سحق تظاهرات الحرية في ساحة تيانانمين عام 1989، بعد أن استشعر نظام الحزب الواحد أن الحرية السياسية ستشكل عقبة أمام المشروع الاقتصادي الطموح لحكومة دينغ سياو بينغ منذ عام 1978، والذي توقع واضعوه أنه سيحتاج إلى نصف قرن لتحقيق التفوق الصيني، وقد اقتربت الصين من هذا الهدف بالفعل. خلال عملية التنمية الاقتصادية هذه، تحول الحزب الشيوعي الحاكم، بعشرات ملايينه، إلى جهاز لإدارة ما أُطلق عليها “اشتراكية السوق”، وتم تحييد العقيدة الشيوعية ووضعها على الرف ليعلوها الصدأ التاريخي، كمآل أكيد مهما طال الزمن.
في المقابل، فشلت تجربة محمد علي النخبوية في مصر القرن التاسع عشر في إحداث ديناميات داخلية قادرة على مواجهة الضغوط الخارجية. ولم تقترب مصر الحالية من نسبة النمو الاقتصادي التي بلغتها الصين بعدُ، إذا افترضنا أنها تحاول سلوك سبيل التنمية ذاته، بعد أن “ودَّعت” الديمقراطية في ساحة رابعة العدوية عام 2013، بغض النظر عن مثالب ديمقراطية الإخوان المسلمين وفوات مشروعهم.
كما فشلت محاولة تقليد النموذج الصيني بعد العام 2000 في سوريا؛ بسبب استشراء الفساد وانخراط النخب المتسلطة فيه، قبل أن ينفجر المجتمع السوري في سياق انفجارات الربيع العربي. ولم تتمخض أحداث العِقد الأخير عن بديل ديمقراطي يمكنه أن يتصدى لمسألة التنمية الديمقراطية في البلدان التي اجتاحتها الاحتجاجات، ومنها سوريا، ووقعت هذه البلدان فريسة للتدخلات الخارجية بسهولة.
قبل ذلك، وفي سياق الحرب على الإرهاب بعد أحداث أيلول/ سبتمبر 2001، أمل الأميركيون بإحداث صدمة تفضي إلى تحريك الركود السائد في مجتمعات الشرق الإسلامية، من خلال ما اصطُلح على نعته بالفوضى الخلاقة، كإشارة انطلاق جديدة للتاريخ. لكن ما حصل هو ارتدادات نحو الماضي واستحضار لصراعاته.
ففي العراق، عمل الفعل الخارجي على كسر النواة الأمنية الصلبة للنظام، فكان أن طفت مشكلات المجتمع المكبوتة على السطح. وإذا كان العراق ما يزال يراوح في مكانه أو يتقدم ببطء في مجال التنمية الديمقراطية، فإن المآل الأفغاني بعد انسحاب القوات الأميركية مؤخرًا من هذا البلد يعدُّ فشلًا مدويًا للسياسات الأميركية منذ 2001 وبكل المقاييس، فهل يعود ذلك إلى تغيير في طبيعة الدور الأميركي بعد الحرب العالمية الثانية أم لعلة في مجتمعاتنا ذاتها؟
الأرجح أن فشل التنمية المتوازنة يعود للسببين معًا. فمن جهة لم يعد دافع تحجيم المد الشيوعي بالنسبة للغرب ملحًّا، كما كان في زمن الحرب الباردة؛ ومن جهة ثانية، تراجعت بلداننا عن طروحات التنوير التي سميت بالنهضة العربية أوائل القرن العشرين، وما زلنا نراوح مكاننا ونستهلك منجزات الحضارة من دون تقديم مساهمات ذات قيمة.
وعلى الرغم من أهمية العامل الخارجي في كبح تطور بلداننا في بعض الفترات التاريخية، فإنه لا يمكن أن يثبط ديناميات التطور الداخلية إن وُجدت، ومسؤولية ذلك تعود إلى السلطات الحاكمة والمجتمع التقليدي، وبنسبة غير متساوية يتشاركها الطرفان حسب قوة تأثيرهما. وفي محاولتها عدم الاصطدام مع المجتمع التقليدي (الديني غالبًا)، تأخذ النخب الحاكمة من الحداثة ما هو ضروري لتسيير الأعمال وتأمين مصالحها، فيما تترك المجتمع التقليدي يتخبط في متاهاته التاريخية وتسايره في ذلك. هذا يختلف عن مسألة الحفاظ على التقاليد، ويصل الأمر إلى نوعٍ من إدارة الركود الاجتماعي. على العموم يحدث تواطؤ خفي بين السلطة والمجتمع التقليدي على “ممانعة” التنمية الديمقراطية، التي مآلها أن تتجاوزهما في نهاية المطاف.
مع ذلك، لا بد أن يصل الاحتقان والركود في أي مجتمع إلى انفجاره وتحطيم قيوده، لكن، وبغياب النخب القادرة على الاستفادة من حالة الفوضى الثورية لتحقيق نقلة نوعية باتجاه عملية التنمية الديمقراطية، تتم إعادة إنتاج حالة التوازن السابقة بين السلطة والمجتمع التقليدي، وقد يتحول الأمر إلى مزيد من الفوضى والدمار والفشل. في الحالة الثانية، يمكن لعملية الضبط الخارجي المترافقة بدعم مشاريع تنموية أن تساعد في الخروج من هذه الدائرة المعيبة، وهو الدور المفترض أن يقوم به مجلس الأمن شبه الغائب حاليًا؛ بسبب تحكم عدة دول فيه وإمكانية تعطيل قراراته بالفيتو.
للتغلب على هذه المعضلة، قد يكون الحل في تشكيل ائتلاف للدول الديمقراطية بوسعه إدارة الأزمات الدولية بصورة أفضل، وذلك من ضمن عملية إدارة الصراع مع معسكر الدول الاستبدادية، على رأسها روسيا والصين وتوابعهما، وبالتالي حرمان هاتين الدولتين من التلطّي وراء حق الفيتو، لكن مع مزيد من الحكمة السياسية من أجل الحفاظ على السلم العالمي، قبل أن نغرق جميعًا في مستنقعات الاستبداد والإرهاب.
إمكانية نجاح ذلك تعود إلى أن معسكر الدول الديمقراطية بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، إن أثبتت من جديد جدارتها لقيادة العالم الحر، هو الأكثر قوة وحضورًا على مستوى العالم في الوقت الحاضر.
وسوريا إحدى أهم الدول التي تحتاج لمثل هذه الآلية للخروج من أزمتها المستعصية، عوضًا عن تقاسم أراضيها بين عدة دول محتلة أو شبه محتلة، وذلك من أجل المساعدة في إعادة هيكلة الدولة واستعادتها للسيادة والأمن، ما يمهد لانطلاقة تنموية شاملة، بعد أن وصلت الحال إلى هذا المستوى غير المسبوق من الدمار والفشل وانعدام السيادة.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا