وائل السواح
في 14 أكتوبر/تشرين الأول 1962، قاد الطيار الأميركي، الرائد ريتشارد هيزر، طائرة تجسّس أميركية من طراز U-2 على ارتفاعات عالية فوق كوبا، ورصد ظاهرة غريبة. كان الاتحاد السوفييتي ينشر صواريخ باليستية نووية متوسّطة المدى في الجزيرة المحاذية لساحل فلوريدا. شكّلت المعلومة صدمة هائلة للرئيس الأميركي، جون كينيدي ومستشاريه، فمع نقل هذه الأسلحة الهجومية، رفعت موسكو، إلى حدّ كبير، الرهانَ في التنافس النووي بين القوى العظمى، وشكّلت تهديداً وجودياً للولايات المتحّدة.
في 22 أكتوبر/ تشرين الأول، وقف الرئيس كينيدي أمام الأميركيين يُخبرهم في خطاب تلفزيوني أن الزعيم السوفييتي وقتها نيكيتا خروتشوف قد نصب سرّاً منصات إطلاق صواريخ روسية سوفييتية في جزيرة كوبا، على بعد 90 ميلاً فقط من شواطئ الولايات المتحدة. وأعلن الرئيس أن إدارته لن تقبل ببقاء هذه الصواريخ، وأن إدارته لن تقبل بأي تسوية، ثمّ أمر بفرض “عزل” بحري على كوبا، يمنع عنها عملياً التواصل مع العالم الخارجي.
قبل ذلك بثلاث سنوات، في الأول من يناير/ كانون الثاني 1959، قاد شاب قومي كوبي، يدعى فيدل كاسترو، جيشه المؤلّف من وحدات ثورية إلى هافانا، وأطاح الجنرال باتيستا، المدعوم من الولايات المتحدة. شكّل انتصار الشاب الثوري المقرّب من الثائر الماركسي الكاريزماتي، أرنستو تشي غيفارا، صدمة لواشنطن، أقضّت مضجع القادة فيها. وعلى مدى العامين التاليين، سيحاول المسؤولون في وزارة الخارجية الأميركية ووكالة المخابرات المركزية إزالة كاسترو، تتوجّت بمحاولة لغزو كوبا في خليج الخنازير، في إبريل/ نيسان 1961، شارك فيها نحو 1400 كوبي ممن فرّوا من منازلهم عندما تولّى كاسترو السلطة، على أن العملية انتهت بفشل ذريع، واستسلم الغزاة بعد أقلّ من 24 ساعة من القتال. استغلّ الزعيم السوفييتي خروتشوف المحاولة الأميركية، فتوصّل مع كاسترو إلى اتفاق سرّي لنصب منصّات الصواريخ النووية.
شعر العالم برمّته لحظة أن الأرض تقف فعلاً على قرن الثور. واستمرّت الأزمة 13 يوماً، تناوبت فيها الدبلوماسية العلنية والسرّية للتوصّل إلى حلّ. والتقى وزير العدل وشقيق الرئيس، روبرت كينيدي، سرّاً السفير السوفييتي لدى الولايات المتحدة، أناتولي دوبرينين، في 27 أكتوبر/ تشرين الأول، وأشار إلى أن الولايات المتحدة مستعدّة لإزالة صواريخ جوبيتر التي كانت تثير القلق الشديد للسوفييت من تركيا. في صباح اليوم التالي، أصدر خروتشوف بياناً عاماً أعلن فيه أنه سيزيل الصواريخ السوفييتية من كوبا.
وتنفّس العالم الصعداء، في الولايات المتحدة وروسيا وأوروبا وفي كلّ بقاع المعمورة. كانت تلك لحظة استثنائية، وقف العالم فيها على شفا حربٍ عالميةٍ ثالثة ما كانت لتبقي أو تذر. ولم تتكرّر هذه اللحظة مطلقاً، حتى جاء الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وركب على الفرس روسينيتا، وصار يحارب طواحين الهواء، ولكن حربه على عكس سلفه الطيب دون كيخوته خلّفت دماراً وضحايا لا حدّ لها في كلّ مكان تدخّل فيه.
يتمتّع بوتين بدرجة عالية من أوهام العظمة، وصلت به إلى حدّ دفْعِهِ العالمَ نحو كارثة حقيقية. بدا في خطاباته الأسبوع الفائت وكأنه فاقدٌ عقلَه، حيث خاطب العالم في مناجاةٍ مديدةٍ مليئةٍ بالتاريخ المختلق والبارانويا التي تثير الشفقة. واتهم كذباً وبشكل عبثي الحكومة الأوكرانية المنتخبة ديمقراطياً بأنها فاشية وأنها ارتكبت “إبادة جماعية”، مستخدماً هذه الكذبة مبرّراً لأكبر هجوم عسكري في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية.
من منظور بوتين المشوّه، لهذا الهجوم ما يبرّره. لقد تجرّأ الأوكرانيون مرّتين منذ مطلع هذا القرن على الانتفاض وإطاحة القيادة التي أرادت أن تبقي أوكرانيا ما بعد الاتحاد السوفييتي تابعاً يدور في فلك موسكو، وآخر شيء يمكن بوتين أن يتقبّله، أن يدرك الروس أن مثل هذه البدعة التي قد تهدد قبضته على السلطة – يمكن أن تمر دون عقاب. في عام 2004، نزل ملايين الأوكرانيين إلى الشوارع، فيما سيعرف لاحقاً بالثورة البرتقالية، ومنعوا وصول صبيّ بوتين فيكتور يانوكوفيتش إلى الرئاسة، ولكن الأخير فاز عبر انتخابات مليئة بالغشّ والتزوير، وأصبح رئيساً في عام 2010، إلا أنه طُرد من منصبه في عام 2014 من خلال احتجاجات حاشدة ضدّه بسبب رفضه توقيع اتفاق لإقامة علاقات سياسية واقتصادية أوثق مع الاتحاد الأوروبي.
رغب بوتين بشدّة في أن تراه الأجيال القادمة إحدى الشخصيات البارزة في التاريخ الروسي، جنباً إلى جنب مع إيفان الرهيب وبطرس الأكبر وكاترين العظمى، بل ولينين وستالين. وليشبه أسلافه هؤلاء، لا بدّ أن ُيظهِر نزعة إمبراطورية توسّعية. وبالفعل، سمعناه في عام 2005 يقول إن “زوال الاتحاد السوفييتي كان أعظم كارثة جيوسياسية في القرن”. وهو لذلك يريد أن يُذكَر باعتباره بوتين العظيم، الذي عكس “الكارثة” وأعاد الإمبراطورية الروسية، قيصرية أو سوفييتية، لا يهمّ، إلى غابر مجدها، ونحن نذكر كيف اكتسحت قوّاته جورجيا في عام 2008، ثمّ أوكرانيا أول مرّة في 2014، حيث قضمت منها جزيرة القرم. والحال أن بوتين كان يرى في أوكرانيا جوهرة التاج الإمبراطوري التي انتُزعت منه ظلماً، ولا بدّ من إعادتها.
ثمّة بين خروتشوف وبوتين شبه في الشكل والطباع، فكلاهما أصلع وقصير القامة، وكلاهما شديد الذكاء عصبيّ المزاج، ونتذكر جميعاً صورة بوتين عاري الصدر، وصورة خروتشوف وهو يلوّح بحذائه في الأمم المتّحدة. ولكنهما يختلفان في أمور كثيرة أيضاً، فخروتشوف لم يكن يأبه لشكله، وكان يتدحرج بكرشه الضخم دحرجة في المعامل والسهول وقاعات المؤتمرات، مرتدياً بدلاتٍ فاتحة اللون واسعة عليه، كأنه استعارها من صديق أضخم منه. بوتين، في المقابل، يحافظ على لياقة جسمه ويرتدي أفخر الثياب وينتعل حذاءً بكعب عالٍ مخفيّ، ولا يظهر إلا في قَصره، وغالباً ما يجلس متنائياً عن صحبه من ضيوفه أو المسؤولين في حكومته.
ولكن الخلاف ليس في الشكل فحسب. يسجَّل لخروتشوف أنه أنهى العهد الستاليني بجبروته وغولاكه. في 14 فبراير/ شباط، استمع 1500 مندوب والعديد من الزوار المدعوين إلى خطاب رائع من نيكيتا خروتشوف، السكرتير الأول الجديد للحزب، ندّد فيه بستالين وعبادة الشخص التي رعاها والجرائم التي ارتكبها، بما في ذلك إعدام أعضاء موالين للحزب وتعذيبهم وسجنهم بتهم باطلة. وألقى باللوم على ستالين في أخطاء السياسة الخارجية، وفشل الزراعة السوفييتية، وإصدار الأوامر بالإرهاب الجماعي، والأخطاء التي أدّت إلى خسائر مروّعة في الأرواح في الحرب العالمية الثانية والاحتلال الألماني لمناطق شاسعة من الأراضي السوفييتية. أصغى الجمهور إليه في صمت شبه مطبق، لم يقطعه سوى همهمة مندهشة. ولم يجرؤ المندوبون حتى على نظر بعضهم إلى بعض، وهم يسمعون سكرتير الحزب يكوّم اتهاماتٍ مروّعة لـ “أبي روسيا” أربع ساعات متواصلة. وفي النهاية، لم يكن هناك أي تصفيق وترك الجمهور في حالة صدمة.
بوتين، في المقابل، أعاد روسيا إلى حظيرة الدول القمعية بامتياز، وهو سمّم خصمه الرئيسي، أليكسي نافالني، وحين رفض الأخير أن يموت أو يبقى المنفى، اعتقله وأودعه السجن. وأرسل قواته لدعم نظام بشّار الأسد، أسوأ نظام دكتاتوري في القرن الواحد والعشرين، وساهم في قصف المستشفيات والمدارس والبنى التحتية والأسواق الشعبية. واستخدم حقّ النقض في مجلس الأمن 16 مرّة دفاعاً عن رجله في دمشق. واحتلّ جورجيا وقضم جزيرة القرم، وشنّ هجومه المجنون على أوكرانيا، ثم اعتقل آلاف الروس الذين تظاهروا في موسكو وبطرسبورغ ضدّ الحرب، وهدّد السويد وفنلندا، ولا يكترث بتدمير الاقتصاد الروسي وإعادة الروس إلى طوابير الزبدة.
لا وجه للمقارنة، إذاً، بين الرجلين. الأول أنقذ العالم في 1962 من حرب عالمية مدمّرة؛ الثاني يدفع العالم حثيثاً نحو مثل تلك الحرب. وقديما قال المتنبي: “وبضدّها تتبيّن الأشياء”.
المصدر: العربي الجديد