د. سمير صالحة
تمكّنت أجهزة الاستخبارات التركية والإسرائيلية في الأشهر الثلاثة الأخيرة، من خلال عمليات تنسيق مشترك، من إحباط 4 محاولات اعتداء إيرانية على إسرائيليين يحملون الجنسية التركية أو سيّاح رفيعي المستوى، بينهم دبلوماسي متقاعد وزوجته في إسطنبول. ووصفت طهران ما يجري ويُقال بأنّه مزاعم “سخيفة” تهدف إلى المساس بالعلاقات التركية الإيرانية.
الكثير من الحقائق والأدلّة والثوابت تقول إنّ أجهزة الاستخبارات الإيرانية تحاول أن تبني “كوخاً” داخل حديقة المنزل التركي منذ سنوات طويلة بهدف:
– تجنيد عملاء أتراك للتجسّس على الداخل التركي.
– مطاردة كوادر المعارضة الإيرانية التي لجأت إلى تركيا في العقود الأخيرة، ورصد تحرّكاتها ونشاطاتها واغتيال قياداتها عندما تسنح الفرص.
– الترويج لأفكارها وعقائدها الدينية والسياسية في صفوف بعض الجماعات العرقية والمذهبية المقرّبة منها.
– استهداف مواطنين أجانب أو مؤسسات تركية في إطار اغتيالات أو هجمات ضدّ مَن تضعهم طهران على لوائحها.
– استخدام الأراضي التركية ساحة تصفية حسابات مع دول أخرى تتقدّمها إسرائيل.
– تنفيذ اغتيالات ضدّ مَن تضعهم طهران على لوائحها. إلى جانب محاولة الإساءة إلى سمعة تركيا في المنطقة وعرقلة الحوار والتقارب التركي الإسرائيلي.
قال رئيس الوزراء الإسرائيلي المستقيل نفتالي بينيت “إنّنا نتبنّى “مبدأ الأخطبوط” في المواجهة مع إيران. لكنّ التركيز ليس على الأذرع بل على استهداف الرأس مباشرة”، وذلك قبل أيام من وصول وزير الخارجية الإسرائيلي يائير لابيد إلى أنقرة في زيارة خاطفة التقى خلالها نظيره التركي مولود شاووش أوغلو لساعات فقط.
لكن ما هي أسباب ودوافع الزيارة التي قام بها لابيد لأنقرة في هذه الظروف الدقيقة سياسياً وحكومياً التي يعيشها الداخل الإسرائيلي، ووضعها على رأس أولويّاته وجدول أعماله؟ هل الهدف هو تسجيل اسمه كأوّل وزير خارجية إسرائيلي يزور أنقرة منذ 15 عاماً؟ ولماذا كشفت أنقرة النقاب بالأسماء والصور عن بعض مجموعات الخلايا الإيرانية التي كانت تعدّ لتنفيذ هجمات واعتداءات على أهداف إسرائيلية فوق أراضيها؟ ومن أزاح رئيس جهاز الاستخبارات الإيراني حسين طائب؟ وما هي حصّة أنقرة في ذلك؟ هل هو قرار سياسي أمني إيراني بحت بسبب فشله في إحباط هجمات إسرائيلية تمّت داخل إيران وخارجها؟ أم يدفع طائب ثمن محاولة اختراق الداخل التركي التي وصلت إلى طريق مسدود بعدما تمّ الكشف عن الكثير من تفاصيلها تركيّاً وإسرائيلياً في الأيام الأخيرة وتُوّجت بثمن أرادته أنقرة أقلّه هو عزل رأس الجهاز الاستخباراتي الإيراني؟ وهل تبقى إدارة الرئيس جو بايدن الذي يستعدّ لجولته الشرق أوسطية على مواقفها لناحية لعب الورقة الإيرانية، وهي فرصتها الأقوى اليوم، ضدّ حلفائها وشركائها في الإقليم؟
نتائج جهودٍ لعام كامل
يرتبط التقارب التركي الإسرائيلي الأخير بالجهود التي تُبذل على خط أنقرة – تل أبيب بعيداً عن الأضواء منذ عام تقريباً، بهدف إنجاز تطبيع العلاقات وإعادتها إلى ما كانت عليه قبل سنوات. فرص الوصول إلى هذا الهدف كثيرة، وأسبابها ودوافعها أكثر من ذلك بكثير:
– قبل ساعات من المؤتمر الصحافي المشترك بين الوزيرين نفّذت أجهزة الأمن التركية حملة اعتقالات ضدّ خلايا إيرانية ناشطة في إسطنبول. إنّها هدايا ثمينة يتمّ تبادلها بين البلدين وتُوِّجت بزيارة يائير لابيد الذي يستعدّ لتسلّم مهامّ رئاسة الوزراء في إسرائيل. المعنيّ الأوّل بهذه التطوّرات قد يكون إيران التي لا تتوقّف عن محاولات التأثير على سياسات تركيا الإقليمية، وفي مقدَّمها الانفتاح الأخير على بعض العواصم العربية وتل أبيب. لكنّ المعنيّ الآخر هو الرئيس الأميركي جو بايدن الذي يضع اللمسات الأخيرة على برنامج زيارته للمنطقة.
1 – يقول وزير الخارجية التركي شاووش أوغلو إنّ بلاده ترفض تحويل أراضيها إلى ساحة مواجهة بين الدول والأجهزة الاستخباراتية. لكنّه لا يتردّد في فتح الطريق أمام نظيره الإسرائيلي يائير لابيد لتوجيه الاتّهامات المباشرة إلى إيران وتحميلها مسؤولية استهداف إسرائيليين عبر خلاياها الناشطة في تركيا. زيارة لابيد رسالة إسرائيلية تركية مشتركة لطهران مفادها أنّها لن تستطيع إيقاف أو عرقلة التقارب التركي الإسرائيلي في التعامل مع ملفّات ثنائية وإقليمية.
2 – العودة إلى التطبيع التركي الإسرائيلي تعني فتح الطريق أمام البلدين معاً للتحرّك بشكل أسهل في التعامل مع مصالحهما في المنطقة، وتسهيل بناء منظومة إقليمية جديدة بدأنا نرصد معالمها في قرار الدول الإقليمية المشاركة فيها من غير أن يكون هناك تأثير لقرار خارجي يملي عليها ما يريد.
3 – سيصل التقارب التركي الإسرائيلي حتماً إلى ملفّات التباعد الأمني والسياسي مع إيران وميليشياتها التي تنشط في أكثر من بقعة جغرافية وسياسية وأمنية على جبهات لبنان وسوريا والعراق وجنوب القوقاز تحديداً. حتماً تعني الرسائل واشنطن التي تحاول المناورة بالورقة الإيرانية مع حلفاء وشركاء لها بهدف انتزاع المزيد من التنازلات التي تُعيد أميركا إلى لعبة التوازنات الشرق أوسطية التي فقدتها في الأعوام الأخيرة.
أنقرة سلّمت طهران أدلّة :
وصفت طهران أنباء العثور على خلايا تجسّس واستهداف إسرائيليين في إسطنبول بأنّها ضجيج إعلامي لتضليل الرأي العام وتحريضه على إيران. لكنّ توقيت عزل حسين طائب يقول العكس، خصوصاً أنّ لابيد يتّهم علناً إيران باستهداف أرواح مواطنين إسرائيليين تمّ إنقاذهم بفضل التعاون الأمني والدبلوماسي بين إسرائيل وتركيا، ويعلن أنّ تركيا تعلم كيف ومتى تردّ على الإيرانيين بهذا الصدد. وهو يفعل ذلك مباشرة أمام العدسات وبحضور وزير الخارجية التركي مولود شاووش أوغلو من دون تردّد.
خلال أقلّ من أسبوع كان هناك أكثر من اتصال سياسي ودبلوماسي وأمنيّ بين المسؤولين الأتراك والإيرانيين لبحث هذه التطوّرات، وواكبها الكثير من الاتصالات السياسية والدبلوماسية الرفيعة، لكن من دون نتيجة. عندئذٍ قرّر وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان التوجّه إلى أنقرة في مطلع الأسبوع بشكل مفاجىء وفي زيارة تأتي بعد أيّام من شكر وزير الخارجية الإسرائيلي يائير لابيد تركيا على إحباط مؤامرات إيرانية لاغتيال إسرائيليين في إسطنبول. الاحتمال الأقرب هو أن تكون إزاحة طائب تمّت في إطار تسوية تركية إيرانية لامتصاص غضب أنقرة التي زوّدت طهران بالأدلّة الموثّقة على تورّط استخباراتها بهذه العمليّات الأمنية، وأنّ طهران تقدّم هديّة لأنقرة من خلال خطوة بهذه الأهمية من أجل تلطيف الأجواء ومنع انزلاق تركي كامل إلى توسيع رقعة الانفتاح والتعاون مع إسرائيل. أراد وزير الخارجية الإيراني عبد اللهيان مفاجأة أنقرة بهديّة أخرى تتعلّق بالملف السوري والتخلّي عن التشدّد الإيراني في رفض عملية عسكرية خامسة في شمال سوريا بقوله: “هذه المرّة نتفهّم جيّداً أسباب القلق الأمني التركي هناك، وربّما هذا ما يستوجب عملية خاصة محدودة تقوم بها القوات التركية”.
أين وكيف تحاول إيران أن تخرج من ورطتها؟
عبر توجيه الرسائل الانفتاحية اللينة باتّجاه العواصم التي تحتاج إليها مثل أنقرة وبغداد وبيروت. هديّة طائب لأنقرة مثلاً، وبعدها إعلان رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي بعد اجتماعه بالرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي الاتفاق على “السعي من أجل التهدئة في المنطقة وتحقيق الاستقرار في الشرق الأوسط” هو ورقة إيرانية لبغداد كي تقوّي موقفها في حوارها مع بقيّة الدول، ثمّ عرض خدمات تسهيل ترسيم الحدود البحرية اللبنانية مع دول الجوار من أجل الجلوس إقليمياً إلى طاولة من هذا النوع عبر حليفها اللبناني حزب الله وشريكها السوري بشار الأسد في دمشق.
لا بدّ من الإجابة على التساؤلات التالية: ما هي العلاقة بين قرار قيادات حماس الانفتاح على النظام في دمشق بتنسيق إيراني وبين ما نُشِر حول تحوُّل تركي في السياسات والمواقف حيال حركة حماس فوق الأراضي التركية؟ وما هو الرابط بين التقارب التركي الإسرائيلي وبين قرار طهران قبول الوساطة القطرية وإرسال كبير مفاوضيها في الملف النووي إلى الدوحة لإجراء محادثات غير مباشرة مع وفد أميركي برعاية منسّق الاتحاد الأوروبي؟ وهل هناك علاقة بين كلّ هذه التطوّرات وبين ما قاله رئيس الوزراء الإسرائيلي بينيت من أنّ بايدن أبلغه بقرار إبقاء الحرس الثوري الإيراني على قائمة الإرهاب، لكنّه طلب منه عدم نشر القرار، إذ تخشى الولايات المتحدة أن يعقّد ذلك الجهود لاستعادة الصفقة النووية عند تسريبه؟ وذلك لأنّ الإجابات تسهّل لنا الكثير في رسم معالم المرحلة المقبلة من حيث علاقات الدول الفاعلة في الإقليم مع طهران.
عزلة طهران في المنطقة :
خيارات واشنطن شبه محدودة، والثمن الواجب على إيران أن تتحمّله والذي ينتظره بايدن هي مطالب وشروط ظهرت إلى العلن بعد توحّد مصالح دول المنطقة في مواجهة طهران، وأبرزها:
– إلزام إيران تحت إشراف دولي بمنع زيادة معدّلات التخصيب النووي على النسب المتّفق عليها.
– إبقاء الحرس الثوري الإيراني على لوائح الإرهاب.
– إنهاء دور الميليشيات المحسوبة على إيران في لبنان وسوريا والعراق واليمن.
– تجميد طهران لخطط تطوير صواريخها الباليستية.
بدأت القيادات الأميركية منذ الآن درس حسابات خط الرجعة في علاقاتها مع الإقليم. تواجه هذه القيادات خيارات محدودة جداً: إمّا قبول ارتدادات اندلاع أزمة إقليمية أكبر مع إيران، أو الانسحاب الأميركي من المشهد في الشرق الأوسط لمصلحة روسيا والصين، وهو ما لن تفعله واشنطن حتماً.
تستمدّ إيران قوّتها في المنطقة من الميليشيات المقرّبة منها التي زرعتها في العديد من الأماكن، ثمّ من الدعم والتنسيق الروسي والصيني الاستراتيجي السياسي والعسكري والاقتصادي، ومن الموقف الأميركي المفكّك والمتضارب. سيكون الشقّ الأوّل في المواجهة مسؤولية دول المنطقة، والشقّان الثاني والثالث من نصيب الإدارة الأميركية إذا ما كانت جادّة فعلاً في قطع أذرع الأخطبوط، والإجابة عن ذلك هي عند بايدن القادم قريباً. المنطقة مقبلة على جملة من المتغيّرات السياسية والأمنية، وهدف البعض هو تسهيل بروز تفاهمات عربية إسرائيلية في مواجهة التمدّد والنفوذ الإيرانيَّيْن في الإقليم. كيف ستتصرّف تركيا؟
*كاتب وأكاديمي تركي.
المصدر: اساس ميديا