صالح ملص
منذ 11 عامًا، يبحث السوريون عن تمثيل سياسي قادر على ترجمة الاحتجاجات المدنية إلى مطالب سياسية واضحة ومتكاملة ومباشرة.
تزايدت هذه الحاجة التي تتناسب طردًا مع العنف المسلح، فبدت الحاجة أكثر من أي وقت مضى إلى وجود تشكيل سياسي يملك الحد الأدنى من الفهم القانوني للتأثير على القرارات ضمن المجتمع الدولي، من أجل مساءلة مرتكبي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في سوريا، الذين كانوا يعلمون بشأن تلك الجرائم وباستطاعتهم منع حدوثها ضمن نطاق سلطتهم ولم يفعلوا، أو الذين حرّضوا على ذلك أو قدموا تسهيلات للمرتكبين أو تواطؤوا على طمس الحقائق.
لكن التشكيلات السياسية التي برزت في سياق معارضة النظام السوري لم تملك إلا التعبئة وتجييش الجمهور وملامسة عواطفه، وتغيب عن بعضها الأنظمة الداخلية التي تعبر عن قوانين تُستوحى منها الحقوق والواجبات وآليات عمل هذه المؤسسات، لمحاسبة أي تقصير بموجب النظام الداخلي، الأمر الذي يجعل أي عمل سياسي خاضعًا للمزاج والعلاقات والمصالح الشخصية.
غياب فعالية تمثيل الشعب السوري سياسيًا وحقوقيًا من قبل التشكيلات السياسية المعارضة، بغياب العمل المؤسساتي وفقر الأداء السياسي التحالفي في المجتمع الدولي، أدى إلى خلق فجوة ثقة بين الشعب وتلك التشكيلات السياسية، التي من المفترض أنها تمثله، في الوقت الذي كانت تلك التشكيلات مسؤولة أمام أولئك الأفراد الذين خسروا حياتهم، والذين عاشوا مرارة اللجوء والتجارب المهينة.
كما أن الأشخاص والكيانات السياسية التي لم يكن لها أي دور مباشر في جرائم الحرب التي ارتُكبت في سوريا، لكنها أثرت بشكل سلبي بعدم مواجهة ذلك، خاطرت بحياة الأفراد وسلامة المصلحة العامة.
لهذا الفراغ السياسي العديد من الآثار والنتائج، تعد المساءلة السياسية أحد أهم آثاره، التي تعتبر بمنزلة فرصة لاحقة لمحاسبة المسؤولين السياسيين بشكل موثوق على جميع الإجراءات السياسية التي اتخذوها في القضايا العامة، وكان من شأنها تعقيد الملف السوري أكثر، وكان بإمكانهم تقديم البدائل السياسية المناسبة لتحقيق مطالب السوريين.
ما المساءلة السياسية
يعد استخدام هذا النوع من المساءلة ضمن التقييمات القانونية والسياسية في فترة معيّنة، يُتهم فيها السياسي بالتغاضي عن المصلحة العامة والنظام القانوني لتحقيق أهداف سياسية شخصية، يتم إجراؤها على أساس تقييم العمل السياسي ودوافعه.
وبحسب ما قاله الدبلوماسي السوري السابق داني البعاج لعنب بلدي، فإن المساءلة السياسية تخضع لسيادة القانون في أثناء وضع مبادئ سياسية وقانونية جديدة للدولة.
وهذا يعني أن تلك المبادئ تفرض على الفضاء السياسي في الدولة ألا تكون لأحد من السياسيين سلطة تعسفية على المجتمع أو المصلحة العامة، وأن جميع الأشخاص متساوون أمام القانون ويتشاركون المسؤولية المتساوية تجاهه، وأن سبل الانتصاف القضائية من المحاكم المستقلة بإمكانها أن تضمن حقوق الأفراد ضد تعدي الدولة، وفق البعاج، وبذلك يقدم هذا النوع من المساءلة إسهامًا إيجابيًا في بناء مجتمع جديد أساسه الديمقراطية.
كما تختلف المحاكمات السياسية عن الجنائية في الأسئلة التي تطرحها على المتهم، فمن الطبيعي أن تثير المحاكمات الجنائية دون أجندة سياسية أسئلة متعلقة بالمسؤولية الجنائية لتحديدها استنادًا إلى نظام ممنهج لتوثيق الأدلة من أجل بناء مسؤولية المتهم المباشرة تجاه جريمة معيّنة.
وعلى عكس ذلك، تستند المحاكمات السياسية إلى أجندة سياسية بالكامل، وتناسبها مع حكم القانون، ودورها في التعدي على حقوق الأفراد ومطالبهم المشروعة، وتأزيم القضايا العامة أكثر.
والأساس القانوني لهذه المساءلة هو إما بأثر رجعي، وإما يستند إلى قوانين أو مبادئ دولية عامة يتم تطبيقها ضد السياسيين المسؤولين عن غياب فعالية عملهم تجاه حل قضايا بلدهم، ولم ينتج عن سلوكهم السياسي أي منافع عملية وواقعية، ما يؤدي إلى تفاقم الأزمات أكثر.
خطوة مرتبطة بالانتقال السياسي
ترتبط المساءلة السياسية، بحسب ما أوضحه البعاج، بطبيعة الانتقال السياسي ونتائجه في سوريا، والنظم السياسية التي قد تنبثق عنه وإرسائها ووظائفها الأساسية.
في حال انتقلت سوريا إلى نظام حكم ديمقراطي يكون فيه السياسيون مسؤولين عن أفعالهم في الشأن العام من قبل المواطنين الذين يتفاعلون بشكل مباشر أو غير مباشر مع ممثليهم سياسيًا، يُتاح للأفراد اختيار شكل هذه المساءلة، وفق البعاج، عبر إقالة القاعدة السياسية للنظام ومعارضته، مثل السفراء والوزراء وممثلي النظام في المجتمع الدولي منذ عام 2011 حتى توقيت نجاح الانتقالي السياسي، أو تغريمهم أو حرمانهم من ممارسة حقوق معيّنة، أو إحالتهم للتقاعد أو محاكمتهم ضمن محاكم مسلكية.
ويجب، بحسب ما أوصى به البعاج، أن تشمل المساءلة السياسية قاعدة النظام من السياسيين والسياسيين المعارضين له أيضًا، لأن “المعارضين لم يسيؤوا فقط للسوريين، بل يتحمّلون جزءًا أساسيًا من استمرار المقتلة السورية، بسبب الأداء السياسي وتمسكهم بمواقف معيّنة، ووجودهم على رأس (الائتلاف) أو (هيئة التفاوض)”.
ويشمل هذا النوع من المساءلة، بالإضافة إلى المشتغلين السوريين في الفضاء السياسي، الأشخاص أو الكيانات الأجنبية التي أسهمت بشكل مباشر أو غير مباشر في تمويل فرق وفصائل في سوريا، لم تكن بقدر من التنظيم الهيكلي الواضح من أجل الاستفادة منها عسكريًا، ما أدى إلى حدوث عدة انتهاكات جسيمة ضد مجموعات من المدنيين.
لكن، إذا لم تتحقق أي خطوة في طريق الوصول للانتقال السياسي لبناء دولة ديمقراطية تعتمد على سيادة القانون في سوريا، فلن يتم بالإمكان مساءلة أي طرف سياسي من الأطراف المتنازعة على السلطة، بحسب البعاج، لأن الطرف الذي سيبقى هو الجهة التي ستضع معايير المساءلة وشروطها ومدى اختصاصها.
أما إذا كانت مرحلة الانتقال السياسي عملية تفاوضية بين جميع الأطراف، مستندة إلى تسوية سياسية بصيغة معيّنة، فإن احتمالية بناء مساءلة سياسية أمر ممكن لكن ستتعقّد آلية تطبيقها عمليًا.
ويعد قرار “عملية السلام في سوريا” الذي حمل رقم “2254”، شاملًا 16 مادة، المرجعية الأساسية سياسيًا لتشكيل هيئة حكم انتقالية جامعة.
بُني هذا القرار على المبادئ التي نصت عليها وثيقة “جنيف 1” التي أعلن عنها البيان الختامي الصادر عن اجتماع “مجموعة العمل من أجل سوريا” في 30 من حزيران عام 2012.
وكان بيان “جنيف 1” يتطلّب بداية أن يتم تمثيل الأطراف السورية على نحو ملائم، ويتطلّب كذلك بناء مستويات كافية من الثقة بأن تلك الأطراف لم يتم تهميشها أو تدميرها، وبالتالي ستعتمد حماية الحقوق والمصالح الأساسية على منظومة سياسية متفاوض عليها من أجل الوصول إلى الانتقال السياسي.
وعلى الرغم من تعرقل التسويات السياسية بين الأطراف الدولية الفاعلة في سوريا للوصول إلى الانتقال السياسي حتى الآن، ثمة حاجة إلى اتفاق سياسي في نهاية المطاف، يشكّل الخطوط العريضة لبناء معالم دستورية وتشريعية ممكنة لعملية الانتقال، وإلا فإن التوقف النهائي للعملية السياسية سيؤدي إلى دمار أكبر للبلد، ما يزيد من احتمالية انهيار تام للدولة السورية.
المصدر: عنب بلدي