في حالة الدول المستقرة كليا، يؤدي ترنح إحدى المؤسسات الرئيسية التي تشكل عصب الحياة للمواطنين إلى نتائج سلبية للغاية على الحكومات والشعوب معا، إلا أن تلك التداعيات لا يمكن مقارنتها بمخلفات الحروب وآثارها التي تدمر شعبا بأكمله بحاضره ومستقبله، كما في الحالة السورية، التي كان يعاني شعبها قبل الثورة من انهيار المؤسسات الرسمية للدولة، وانتشار الفساد والمحسوبيات وغياب العدالة الاجتماعية والقانون، وبعد انتفاضة السوريين للمطالبة بحياة أفضل على كافة الأصعدة، رد النظام بتدمير الشعب نفسه، مقابل الحفاظ على السلطة، فكانت النتائج كارثية على السوريين داخل البلاد في مدن وبلدات النزوح وفي اللجوء أيضا.
فالأعمال اليومية والمهن على مختلف أنواعها وأشكالها تشكل عصب الحياة لأي إنسان في هذا العالم، لكنها في الشمال السوري أصبحت من المستحيلات ومن الحاجيات المفقودة بنسبة عظمى جراء تداعيات الحرب التي يشنها النظام على السوريين الذي ثاروا ضد حكمه منذ ربيع 2011.
مخيمات النزوح
فالتهجير القسري والتغيير الديموغرافي في الخريطة السورية والنسيج الاجتماعي، بدأت ملامحه تظهر اليوم نتائج مأساوية أكثر على الأبواب في حال استمرار الأوضاع على ما هي عليه منذ سنوات.
فالمناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة السورية في الشمال الغربي من البلاد، تعاني من كثافة سكانية مرتفعة للغاية مقارنة بالمساحة الجغرافية المتوفرة، وهو ما أدى إلى ازدحام السوريين ضمن مخيمات النزوح وسط بيئة حياة لا تتناسب مع الاستقرار المعيشي والاقتصادي وحتى التعليمي، وسط غياب أي تأثير حقيقي وفعال للمعارضة السورية في إيجاد الحلول المحلية، وغياب الحلول الدولية للقضية السورية، وهو ما يجعل المواطن السوري الحلقة الأضعف والأكثر دفعا للنتائج الكارثية التي آلت إليها الأوضاع.
وقد أدى غياب الاستراتيجيات وضعف الحلول، أدى في الشمال الغربي من سوريا، إلى ارتفاع نسبة البطالة إلى مستويات قياسية وصلت وفق «منسقو استجابة سوريا» إلى 85 في المئة بشكل وسطي ضمن المجتمع المحلي، ما جعلها أحد أبرز القضايا الملحة التي تحتاج إلى حلول جذرية وخاصةً مع الآثار السلبية لها من العديد من الجوانب أبرزها هجرة الشباب وارتفاع معدلات الجريمة وزيادة مستويات الفقر بين المدنيين في المنطقة.
ومعدلات البطالة، انقسمت وفق ذات المصدر إلى:
أولا: السكان المحليون
65 في المئة من السكان المحليين الذكور.
92 في المئة من السكان المحليين الإناث
ثانيا: السكان النازحون والمهجرون قسرياً:
87 في المئة من السكان النازحين الذكور
96 في المئة من السكان النازحين الإناث.
أبرز أسباب البطالة
ارتفاع نسبة البطالة في الشمال الغربي من سوريا، يساويه في المسار والنتائج ارتفاع نسب الفقر والاحتياجات بين السكان والنازحين إلى تلك المناطق، ولعل من أبرز أسباب البطالة وفق مدير فريق منسقو الاستجابة، الدكتور محمد حلاج يعود إلى: «عدم توفر فرص العمل، عدم وجود الخبرة الكافية وضعف التدريب والكفاءات الوطنية وعدم توافر الخبرات العملية لمعظم الخريجين وعدم وجود متابعة ودعم من مكان تخرجهم».
بالإضافة إلى توظيف وعمل بعض الشباب في أعمال وأشغال مؤقتة ولا تحتاج لخبرات وأجور متدنية جداً لا تكفي لتحقيق أي هدف من أهدافه ولا تزيد من خبراته، فتظل مشكلة البطالة قائمة، علاوة عن ذلك تنتشر أزمات استغلال الشباب وتشغيلهم عمالة مؤقتة بدون عقود ولمدة قصيرة ومتقطعة، لا يستطيع من خلالها الشباب تحقيق أي تقدم في حياتهم المادية والعملية.
من جانبه، ربط مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان فضل عبد الغني بين البطالة والأعداد الكبيرة للسوريين النازحين في الشمال السوري، معتبرا أن سياسات التهجير القسري أدت إلى تدهور الأوضاع الاقتصادية، فالنزوح أدى إلى إخراج المهجرين من سوق العمل وحرمهم من الاستقرار المعيشي، فتلك السياسات أدت إلى وضعهم في بقعة جغرافية صغيرة، ما يؤدي إلى كثافة سكانية أولاً، وارتفاع نسبة البطالة ثانياً، جراء ضعف فرص العمل.
عبد الغني خلال تصريحات أدلى بها لـ «القدس العربي» اعتبر البطالة فرعا من انتهاكات التشريد القسري للسوريين، فنحن اليوم نتحدث عن 7 ملايين سوري نازح، كما أن سياسة التهجير حولت السوريين من أشخاص يمتلكون القدرة على الإنتاج والعمل إلى أشخاص يعيشون على المساعدات، وعند البحث عن عمل تكون الفرص محدودة للغاية.
يذكر أن التقارير الأممية الصادرة عن عمليات التمويل الإنساني في سوريا حتى تاريخ 30 تشرين الأول/أكتوبر أظهرت العجز الهائل في عمليات الاستجابة الإنسانية لسوريا حيث تجاوز العجز المسجل 72.7 في المئة وهو ما يخالف التقارير السابقة التي تحدثت عن استجابة إنسانية تجاوزت عتبة 70 في المئة من مجمل العمليات الإنسانية في سوريا.
الباحث لدى المؤسسة السورية للدراسات وأبحاث الرأي العام رشيد الحوراني رأى من جانبه، في غياب الاستقرار الحقيقي أو النسبي في المنطقة بسبب القصف المستمر وحالات النزوح المتكررة للقوى البشرية في المنطقة هي من أبرز العوامل التي أدت إلى ارتفاع نسبة البطالة.
فيما يأتي عدم توفر الموارد الاقتصادية المستدامة كالزراعة في المرتبة الثانية، وفق ما قاله لـ «القدس العربي» ويأتي في المرتبة الثالثة سبب عدم وجود منظمات تقوم بدعم مشاريع التنمية، ولو كانت صغيرة فالمنظمات أغلبها ذات مشاريع ذات طابع إسعافي.
معتبرا أن المؤسسات العاملة في الشمال السوري، تتحمل فيما بينها مسؤولية ذلك، حيث كان بمقدورها التنسيق فيما بينها، ووضع خطة تكاملية كالمجالس المحلية مثلا، هذه الخطة تقوم في قسم منها على إنشاء مشاريع استثمارية يعود ريعها لمشاريع خدمية تقوم بها تلك المجالس، ومن جهة ثانية توفر فرص عمل لأبناء المنطقة.
البطالة تهدد الأسرة
البطالة، تحمل في آثارها تداعيات على الأسرة السورية النازحة التي تحاول القبول بأي عمل كان لتأمين أدنى المقومات، فالبطالة وفق مدير الشبكة السوري لحقوق الإنسان فضل عبد الغني، لا تكون بعدم توفر العمل فحسب، بل أيضا تشمل ممارسة الأشخاص لمهن وأعمال ليست من اختصاصهم، فهذه الأعمال هي شكل من أشكال البطالة.
بالإضافة إلى عمالة الأطفال، وما لها من تداعيات جراء الابتعاد عن التعليم لصالح البحث عن وظائف ومهن، خاصة في حالة فقدان الأب أو مقتله أو اعتقاله، فالطفل هنا يتحول إلى معيل للأسرة، بما فيها الدخول فيما يسمى أسوأ أشكال عمالة الأطفال، بهدف البحث عن دخل.
ورأى المتحدث أن البطالة تحمل في جعبتها نتائج مكلفة للأسرة، إذ تتحول البطالة إلى عامل مساهم في تفكك الأسرة، كما أن تفكك الأسرة يؤدي كذلك إلى البطالة، فكل من البطالة والأسرة لهما نتائج تأثيرية متبادلة.
القصف يفاقم الأزمات
ساهمت الهجمات التي تشنها العديد من الأطراف على الشمال السوري في تعقيد الحياة أكثر، إذ تم استهداف 74 منشأة وبنى تحتية في المنطقة منذ مطلع العام الحالي 2022.
ووفق فريق منسقو الاستجابة تنقسم المنشآت المستهدفة إلى 64 مركز إيواء ومخيم يستفيد منهم أكثر من 32 ألف نسمة، و7 منشآت تعليمية يرتادها أكثر من 5800 طفل. و5 مراكز ومنشآت طبية يستفيد منها أكثر من 135 نسمة، و16 مركز خدمة متنوع، تعود بالخدمات لأكثر من 745 ألف نسمة في الشمال السوري.
حيث تتربع قوات سوريا الديمقراطية على قائمة الجهات العسكرية التي استهدف شمالي البلاد بـ 30 هجوما، و19 هجوما نفذه جيش النظام السوري، و10 هجمات شنها الجيش الروسي الداعم للنظام السوري.
الباحث لدى المؤسسة السورية للدراسات وأبحاث الرأي العام رشيد الحوراني، اعتبر من جانبه، بإنه لا يمكن إطلاق الأحكام على المعارضة السورية والتسليم بفشلها في إدارة الشمال السوري، رادا ذلك إلى عدم توفر الظروف المناسبة التي من خلالها يمكن الحكم عليها بالفشل الكامل أو الفشل النسبي، والأفضل القول إن فشلها نسبي لأنها تقوم على مشاريع وتوظيف خبرات متنوعة.
هل يمكن مواجهة البطالة؟
مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان فضل عبد الغني، رأى أن الحلول لمواجهة البطالة ممكنة، ويمكن أن تكون على مستويين قريب ومتوسط وآخر بعيد، الأول من خلال خلق مشاريع محلية وقيام رجال الأعمال السوريين بالاستثمار في الداخل السوري في مشاريع متعددة تساهم في توظيف أكبر قدر ممكن من السوريين.
أما على المستوى البعيد، فاعتبر أن الأزمة أكثر عمقا وتشابكا، خاصة أن الغالبية العظمى في كل المناطق السوري تحت خط الفقر، ويعانون من أوضاع اقتصادية ومعيشية كارثية، نتيجة الأوضاع التي تمر بها البلاد، وهي مشاكل بحاجة إلى الحل السياسي، وانتقال سياسي من أجل معالجة العديد من القضايا، وعلى رأسها حل مشكلة المعتقلين والبطالة والتعليم.
في حين أن الدكتور محمد حلاج، مدير فريق منسقو الاستجابة، طرح بعض الحلول والمقترحات لمواجهة أزمة البطالة في الشمال السوري، ومنها: ربط التعليم والتدريب باحتياجات السوق، وتوفر البدائل والعمل على إقامة المشروعات كي تتسع لأكبر قدر من الأيدي العاملة، توفير فرص عمل جديدة للشباب والدعم المادي للمشروعات الصغيرة.
بالإضافة إلى ضرورة الاهتمام بالصناعات الصغيرة والحرف اليدوية والتي من شأنها استقطاب عدد كبير من اليد العاملة إذا ما توفر الدعم اللازم لها.
المصدر: القدس العربي