رشيد الحاج صالح
بات من الواضح أن انتفاضة العشائر في دير الزور ليست مجرد غيمة صيف وذلك بعد بناء إبراهيم الهفل “ديوان الحرب” لقبائل وادي الفرات، وشن قواته، بداية هذا الأسبوع، عدة هجمات على نقاط عديدة كانت قسد تسيطر عليها واستيلائهم على بعضها. طبعا يصعب توقع كيف ستنتهي هذه المواجهات فقد عودتنا المنطقة أن الصراعات التي تفتح يصعب إغلاقها، وسط حالة من توازن القوى المحلية، ووسط تعدد الداعمين، وكثافة وجودهم العسكري في الجزيرة السورية.
الصراع هذه المرة في المنطقة الشرقية من الجزيرة السورية. أما موضوع الخلاف فهو شكوة أهل المنطقة من أن قسد (قوات سورية الديمقراطية) تتجاهلهم في ثلاثة أمور على الأقل: المشاركة في السلطة، وتوزيع موارد النفط، وتواضع الخدمات. ويقول أهل المنطقة إنه طفح بهم الكيل، لا سيما وأنه ليس هناك أكراد في منطقة دير الزور فماذا يفعل حزب البي واي دي الكردي (قائد قسد) عندنا، بعد تراجع نفوذ داعش بشكل شبه كلي؟
ما يمكن ملاحظته أن الصراعات ازدادت شدة على هذه المنطقة بسبب موقعها الجغرافي، وهو موقع كان النظام الأسدي يتجاهله (تعد الجزيرة أكبر جزء من سوريا غير المفيدة بالنسبة للنظام)، على مدى أكثر من نصف قرن، بعد أن عاشت الجزيرة السورية عدة قرون بوصفها منطقة قليلة السكان بسبب المذابح التي ارتكبها المغول بحقهم، وخوف أهلها من سكن المدن بعد ذلك.
اليوم تتجدد الصراعات على منطقة الجزيرة، فأميركا تريد إغلاق الحدود السورية العراقية من هذه المنطقة لسد الطريق على التوسع الإيراني، كما أن المنطقة تحتوي على ثروة معقولة من النفط يستطيع أي طرف من خلالها أن “يتدبر أموره”، مثلما أن لتركيا والعراق وإيران مصالح حيوية. حيث تعتبرها إيران الممر الأساسي الذي يوصلها إلى سوريا المتوسط بعد أن فرضت نفوذا لا يستهان به على السلطة العراقية. أما تركيا فهي تريد مواجه قسد في أي مكان توجد فيه.
أكثر طرف لا يؤمن بعرب الجزيرة هو حزب البي واي دي نفسه، فهو يلح على اتهامهم بأنهم يناصرون (داعش) على الرغم من أن داعش قتلت أكثر ما قتلت عرب الجزيرة السورية. كما أنه يتهم حراك العشائر الأخير بأنه بالتنسيق مع النظام الأسدي، متناسيا أنه أقرب طرف للنظام الأسدي ويتعبره ملاذهم الأخير إذا ما ضاقت به السبل، كما أن قادته (ليسوا سوريين) لا يكفون عن التصريح بذلك. بل إن تعاونهم وتنسيقهم مع النظام أمر واقع في منطقة عين عيسى شمالي الرقة وفي مناطق في الحسكة. وهم يتطلعون إلى أن يقبل النظام بضم ميلشياتهم إلى الجيش السوري سيئ الصيت، الجيش الذي نفذ أكبر جريمة وقعت بحق السوريين في تاريخهم الحديث.
لم يكن لأهل منطقة الجزيرة دور ذكر في حسابات حافظ الأسد، فقط كان يكتفي بمراقبة منطقة دير الزور لأن ولاء غالبية البعثيين فيها كان للقيادة القديمة لحزب البعث (ميشيل عفلق، نديم البيطار، أمين الحافظ..)، تلك القيادة التي نكل بها واغتال بعضها وطردهم من سوريا). مثلما كان يكره أهل الجزيرة لقناعته بأنهم كانوا متعاطفين مع صدام حسين أيام الحرب العراقية الإيرانية. وعندما اندلعت الثورة السورية كان هناك شبه إجماع من قبل كل من المعارضة الفاسدة المسلوبة الإرادة ومن النظام الأسدي أن الجزيرة السورية عموما ليست مهمة في الحسابات السياسية في مرحلة ما بعد الثورة وأن الأمور ستحسم في دمشق وليس في منطقة الجزيرة. ولعل هذا ما يفسر سهولة السيطرة على هذه المنطقة من قبل كتائب الجيش الحر آنذاك ثم من قبل هيئة التحرير الإسلامية ثم تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) ثم قسد. اليوم تتقاسم المنطقة قوات قسد والجيش الوطني وقوات النظام، كما يوجد فيها التحالف الدولي وروسيا بالإضافة لميليشيات مدعومة من إيران.
بالنسبة لأبناء العشائر اعتادوا ألا يثقوا بشيوخهم ولا ينتظرون من هم أي دور سياسي وطني له ثقله، فالمشيخة الجزراوية ومكانتها، ومنذ الاستقلال، في انحدار مستمر، والكل يعرف ذلك ويأخذه في حساباته، ولعل هذا ما يفسر سهولة بيعهم الولاءات للأقوى بحجة أن ليس في الإمكان أفضل مما كان. بعض شيوخ العشائر اكتفى بأخذ دور المحايد بحجة تجنيب نفسه وأبناء عشيرته الدخول في صراعات طاحنة غير واضحة النهاية (الشيخ حميدي دهام الجربا)، وبعضهم بايع أربع سلطات أمر واقع خلال العشر سنوات الماضية.
المعضلة السياسية التي تعيشها المنطقة أنه لا يوجد أي طرف يؤمن بهم ويريد الانخراط في لعبة تبادل المصالح مع أبنائها، (من قبيل: قسد مع أميركا، وروسيا مع النظام، وتركيا مع الجيش الوطني) الكل يريد أن يتعامل معهم، هذا إذا قبل بهم، من موقع التابع وليس من موقع الشريك. المشاركة الجديّة الوحيدة للعشائر كانت أيام الجيش الحر (2011- 2012) حيث طغت كلمة أبناء العشائر على كلمة شيوخهم. غير أن الجيش الحر تراجع دوره بسبب الدعم العسكري الكبير الذي تلقته الأطراف المحلية الأخرى.
النقطة الأولى التي على إبراهيم الهفل (شيخ طموح وجسور ويريد خوض المعركة حتى الأخير مع قسد) أن يأخذها بعين الاعتبار أن عليه أن يتحول إلى حالة وطنية في المنطقة، يمثل كل الفئات المتذمرة والمظلومة من سلطة قسد الفاسدة، لأن مكانة شيوخ العشائر السياسية ذهبت أدراج الرياح منذ زمن، وقد ولى الزمن الذي يقود فيه الشيوخ الثورات أيام ثورات السوريين ضد فرنسا، وأن شيوخ اليوم هم ظاهرة سياسية مصنوعة لا أكثر. العشيرة اليوم هي حالة اجتماعية يعتز بها أبناء العشائر ويقدرها حق تقدير ولكنهم لا يعتقدون بدور سياسي فاعل لها. وهذا لا يقلل من قيمة العشائر لدى أبنائها ولكنه أيضا يتعامل مع العشيرة بوصفه مكونا ثقافيا للمجتمع السوري وليس بوصفها مكونا سياسيا، وكلنا كان يشاهد المكانة المتواضعة لشيوخ العشائر في مؤسسات الدولة في دمشق حتى وإن كانوا أعضاء مجلس شعب مستقلين.
النقطة الثانية أن الحراك السلمي أجدى بكثير من الحراك المسلح بالنسبة للوضع السوري الحالي. وهو خيار لجأت إليه السويداء منذ أكثر من شهر وهو مستمر حتى الآن. كما أنه الخيار الأساسي للثورة السورية عند انطلاقتها. الخيار العسكري يحتاج إلى داعم كبير يقدم الدعم العسكري واللوجستي والمادي حتى النهاية، وهذا غير متوافر. كما يمكن للمرء أن يستحضر إلى الذاكرة الصراعات العسكرية في منطقة الجزيرة خلال أكثر من عشر سنوات دون أي جدوى تذكر. أما الخيار السلمي/ السياسي فيخرجنا من حالة العشائرية ويدخلنا عالم السياسة من أوسع أبوابها، السياسية بوصفها تحصيل لحقوق الناس والاعتراف بوجودهم واحترام كرامتهم.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا