د_ عبدالله تركماني
تشهد أغلب الدول العربية تضخماً واضحاً لأجهزة السلطة الأمنية وانحساراً لمؤسسات المجتمع المدني، فإلى أية درجةٍ يستطيع المرء أن يلقي بكل اللوم على الاستبداد السياسي لتفسير هذه الظاهرة؟ وإلى أية درجة يمكن الادعاء بعدم وجود مجال لعملٍ اجتماعي وثقافي؟
لقد ظهر اتجاهان كبيران في الدراسات السياسية العربية حول علاقة الدولة والمجتمع: أولهما، اتجاه يفسِّر ضعف وهشاشة الدولة الوطنية بعجز بنيوي ناجم عن انعدام مقوّمات التشكل السياسي في دولة وطنية. وثانيهما، اتجاه يفسِّر الوضع ذاته بالرجوع للبنى الاقتصادية والاجتماعية، محيلاً إلى التجربة الأوروبية الحديثة وما أكدته من ارتباط وثيق بين تشكُّل الدولة القومية والمنظومة الرأسمالية التي قوَّضت البنى العصبية والطائفية المعيقة لمركزية الدولة، كما كرَّست النمط الجديد من العقلانية السياسية التي هي منظور النظام الديمقراطي الراهن.
وفي الواقع ثمة عوامل ثلاثة تظل هي المحرك الأساسي للتوتر، وربما تقف وراء الانفجار في العالم العربي: أولها، تآكل صلاحية المشاريع الوطنية للدولة العربية، وذلك إما بفعل الفشل السياسي والفساد الاقتصادي والظلم الاجتماعي، أو لانعدام القدرة على تحقيق التماسك الداخلي. وثانيها، زيادة النزعة الإقصائية والاستئصالية لسلطة الدولة العربية، والتي تعبِّر عن نفسها يومياً في السلوك القمعي لأجهزتها ومؤسساتها الأمنية، ما يوّلد احتقاناً مجتمعياً يعزِّز نزعات التمرد ويدفع ببدائل التفتت الداخلي إلى الواجهة. وثالثها، وجود أدوار وقوى خارجية تسعى لاستثمار ما سبق من أجل تعزيز حضورها في العالم العربي.
وهكذا، فإنّ بعض أوجه الأزمة البنيوية العربية، باعتبار أنها أزمة تطال أسس النظام الرسمي العربي ومستقبله، تكمن في المخاطر التي تتعرض لها شرعية الدولة الوطنية في حالات ليست قليلة مما يهدِّد بتفكك الدولة. فأزمة الهوية أو الهويات المتصارعة القاتلة، ولو تحت عناوين مختلفة ضمن الدولة الواحدة وحولها وعبرها، تضع مستقبل بعض الدول على المحك وتعرّضها للتحوُّل إلى دول فاشلة. ومن أوجه هذه الأزمة أيضاً الخلافات المستفحلة، بمسببات عديدة وتعبيرات مختلفة، حول شرعية بعض النظم العربية، في ظل التحوُّلات التي شهدتها مجتمعات هذه الدول وازدياد المطالب بالمشاركة وتوسُّع القاعدة الشعبية لهذه المطالب، وعدم قدرة أو عدم رغبة هذه النظم أو خوفها من استيعاب هذا التغيير من خلال التجاوب معه، كما أظهره ربيع الثورات العربية بموجتيه في سنتي 2011 و2019,
وبذلك تُعتبر قضية السلطة وأشكالها أحد المعوّقات الهامة التي اعترضت التقدم العربي المعاصر، وهي قضية ذات جانبين: أولهما، يتعلق بتركيبة السلطة الموروثة، بقسم منها، عن عهود ما قبل الرأسمالية، والتي تجددت بصيغ مختلفة، حتى في ظل التغيُّرات والتحوُّلات التي شهدتها بعض الأقطار العربية. وثانيهما، أنّ القوى القومية التي وصلت إلى السلطة لم تتصدَّ، بالقدر الكافي وفي كل الظروف، لهذه القضية كمهمة أساسية مطروحة عليها، بالرغم من أهميتها على صعيد تحقيق مهمات الثورة الديمقراطية، بما فيها إنجاز مشاريع التنمية الشاملة، بل أنّ أغلبها قد خضع إلى الانقلابات العسكرية التي تحوَّلت إلى أعمال مغامرة مناقضة للتقدم ومجهضة للتطور.
لقد كانت فكرة ” المجتمع العسكري ” جزءاً متمماً لـ ” الدولة العسكرية/الأمنية “، ويمكن الاستدلال بمؤشرات واقعية عديدة على ” عسكرة المجتمع “. فقد نُقل شباب الأرياف إلى المدن، وتم تحويلهم إلى ” جيش عقائدي “، وأضفيت بذلك قيم البداوة على المدينة. وتجلى ذلك في نظام الحكم، وفي جهاز الدولة العسكري والمدني. وهنا ظهرت أزمات التنمية والتطور الاقتصادي والاجتماعي، خلال أكثر من أربعة عقود من تجربة السلطة القومية، حين صُرفت أموال ضخمة لتقوية الأجهزة الأمنية، ولإعطائها صلاحيات استثنائية طالت جميع الهيئات الرسمية والشعبية بدون حدود، بما همّش وأضعف دور المجتمع المدني.
وفي هذا النمط قامت سلطة الدولة باستغلال مزدوج للمجتمع من حيث: كونها أكبر مستخدم وصاحب عمل، تحدِّد الأجور والأسعار وتقرِّرها الاحتكارات الحكومية. وكونها وسيطاً بين أفراد مجتمعها والشركات المتعددة الجنسيات والسوق الرأسمالية العالمية. وكون موظفيها الكبار، المدعومين من الأجهزة الأمنية والحزبية، يملكون سيطرة حقيقية على وسائل الإنتاج، وبالتالي إمكانية الاستيلاء على فائض وقت العمل ” القيمة الزائدة “، بما راكم – مع الزمن – رأسمالها الخاص، وتحوُّلها إلى أهم رموز بورجوازية الدولة التي تحكمت في القطاع الخاص.
وهكذا يبدو أنّ الدولة الحديثة، دولة الحق والقانون، لم تمتد جذورها إلى أغلب الأقطار العربية، إذ بقيت على الأغلب قمعية واستغلالية. ويبدو أنّ إحدى المشكلات الكبرى للدولة العربية، التي ظهرت بعد نيل الاستقلال الوطني، أنها لم ترتبط بفكرة الحرية وفكرة العقلانية، بل ارتبطت بفكرة التوازن بين البداوة والدولة، حين مثَّلت البداوة حرية الأصل السابقة للدولة، ومثَّلت العشيرة المحافظة على بعض حرية التصرف داخل الدولة. وازداد الأمر سوءاً حين بدا أنّ التربُّع في سدة الحكم والسلطة لم يُخرج أكثر الفئات الحاكمة من فئويتها، بل فاقم هذه الفئوية وغذَّاها بالموارد التي وضعها الحكم المركزي بين يديها. وهكذا تحوَّلت مرافق السلطة إلى أدوات تدعم مصالح الفئة الحاكمة، ونُظِّمَتِ الحياة السياسية بصورة حالت دون الطعن في مدى شرعية ذلك.
ففي حين أنّ المجتمع الحديث يتميَّز بتعدد العلاقات والمراتب الاجتماعية، التي تعبِّر عن نفسها في صورة مؤسسات، ثم تأتي الدولة فتتوج هذه المؤسسات وتستعيدها في إطار وحدة عامة شاملة، فإنّ الدولة العربية ” الحديثة ” استبعدت جزءاً هاماً من التجربة الاجتماعية، ليس عن طريق تحويره وتطويره إلى صورة أرقى منه، وإنما عن طريق عزله ومنعه قسراً. وبهذا فإنّ سلطة الدولة العربية ليست منسلخة عن المجتمع فحسب، بل هي عازلة له ومتسلِّطة عليه. فهي تحتل مراكز الإشراف التي تقع على تقاطع العلاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الداخلية، أي أنها تسيطر على القطاعات الحديثة التي استجدَّت مع التغلغل الرأسمالي.
ولذلك، فإنّ العالم العربي بقي متأخراً، فلم يستطع السيطرة على موارده ومصيره، وبقيت الفجوة الحضارية التي تفصل بينه وبين المجتمعات المتقدمة واسعة.
ولعلَّ مسألة الديمقراطية هي من أهم الدروس التي يمكن أن يستخلصها المؤرخ للعالم العربي المعاصر، فقد أدى إضعاف دور المواطن وتقليص المشاركة الحقيقية في العملية الإنمائية إلى ضعف الإنجازات التنموية الحقيقية، إذ إنّ التقدم الاقتصادي والاجتماعي والثقافي لا يمكن تحقيقه واستمراره في ظل غياب الإصلاح السياسي، والاستناد إلى قاعدة ديمقراطية أوسع، وتمتُّع فعَّال بالحريات السياسية والفكرية، والدور الفاعل للمجتمع المدني.
وهكذا، لن يستطيع العرب الخروج من تخلُّفهم الحاضر دون إيجاد نظام سياسي كفء، يتناسب مع متطلبات العصر ومعايير الشرعة العالمية لحقوق الإنسان، تستطيع فيه جميع مكوِّنات المجتمع المشاركة والتفاعل من أجل حلول أفضل لمشكلاته. نظام ديمقراطي يتوازن فيه الحاكم والمحكوم، ويتمُّ تداول السلطة فيه بطريقة حضارية وتتطور فيه القوانين والأداء بشكل حضاري دون اللجوء إلى قعقعة السلاح والمهاترات الكلامية.