إبراهيم الجبين
يا لها من لفتة مبهرة تلك التي عبّر عنها تردّد إحدى مؤسسات المعارضة السورية، في اجتماع عقد مؤخراً، بالذكر الصريح للاحتلال الإسرائيلي في أحد بياناتها الختامية عند الإشارة إلى ما يجري في غزة من أحداث دامية!.
نقاشات وجدالات طويلة، وتعنّت في الرأي، وجذب وشدّ، حول إلحاق صفة إسرائيلي بالكلمة “احتلال”، وكأن هذا سوف يعني شيئاً ذا قيمة لأحد.
غير أن هذا الخوف من ذكر كملة إسرائيلي عند إدانة ما ترتكبه قوات الاحتلال (الإسرائيلية) يعكس لائحة طويلة عريضة من المخاوف الجوانية التي تحيط بعقول من يقومون الآن برسم سياسات المعارضة السورية في منحناها التاريخي الدرامي الكئيب.
ماذا لو أدانت المعارضة السورية السلوك الإسرائيلي، وإسرائيل دولة تحتل قطعة من التراب السوري (الجولان) وتهجّر أهله من العام 1967 في القصة التي يعرفها القاصي والداني والتي قدّم الأسد الأب بموجبها ثمناً لحكمه الطويل بشكل مسبق، بالتنازل عن الجولان. فهل ترى المعارضة السورية اليوم أن التنازل عن إدانة إسرائيل صراحة سوف يعطي للإسرائيليين وداعميهم في الغرب أي رسالة!! إن كان الأمر كذلك فهي سذاجة سياسية غير مسبوقة، وبلاهة لغوية دبلوماسية لم يشهدها العالم من قبل.
تمسّك فريق من المعارضين بضرورة الاكتفاء بذكر “الاحتلال” وهذا الفريق ذاته هو من وقع اتفاقية تفاهم سياسي مع قوات احتلال تركية كردية أجنبية واجهتها “قسد” تحتل ثلاث محافظات سورية (الرقة ودير الزور والحسكة) فكان من الطبيعي أن لا يرغب بإثارة حفيظة محتل آخر بينه وبين حلفاء هذا الفريق في “قسد” تفاهمات واتفاقيات وسلوك مطابق ومصالح مشتركة.
من جانب آخر، رأى طرف آخر في هذا النقاش أنه يجب ذكر المحتل الإسرائيلي بالاسم، فالاحتلال لم يهبط من السماء ولا لبس في هويته، كما لا لبس في هوية ضحايا العربية، وكان تمسّكه بذلك المطلب طبيعياً، أو لعله أقل الطبيعي، فما مبرّر التهرّب من وصف الأشياء بصفاتها الحقيقية، وهل هكذا تمارس البراغماتية المراد منها عدم إغضاب الرعاة في الغرب؟
ما حدث في غزة، كان مهماً للغاية، لأنه كما كل ما يتعلق بالقضية الفلسطينية، قادر على الضغط على الجميع لإظهار مواقفهم الحقيقية بلا مواربة، والبعض خاف من التلوث بعلاقة حماس بإيران وحزب الله الإرهابي، لذلك اندفع باتجاه دعم إسرائيل، وكان من الهيّن الدفاع عن الضحية الفلسطينية وفرزها عن حماس، فلا أحد يملك مفاتيح وأقفالاً على عقول الناس. البعض الآخر فعل العكس، فخشي من الاتهام بأنه يدعم إسرائيل ويبرّر جرائمها إن هو لم يهتف لحماس. آخرون لم يجدوا أنفسهم مضطرين للانسجام مع حماس، كما لم يجدوا أن من حق أحد أن يفرض عليهم جرائم إسرائيل أو الاعتراف بها أو التوقف عن نقدها وتعرية وحشيتها.
وتثبت المعارضة السورية، كما يثبت نظام الأسد، مرة جديدة أنها غير مؤهلة ببنيتها الحالية وبالمستوى الفكري الذي تتمتع بها في الوقت الراهن، للتعامل مع أي موقف جاد، فمن يقلق من وصف الاحتلال في فلسطين بأنه إسرائيلي، إنما هو “موظّف صغير” في “بلدية السمع والطاعة”، لا قائداً للرأي ولا سفيراً أو ممثلاً سياسياً لقضية بحجم القضية السورية.
حتى تفهم كيف أن حماس لا تعبّر عن الشعب الفلسطيني، وفي نفس الوقت تدافع عن حق هذا الشعب في الوجود والاستمرار واسترداد حقوقه، عليك أن تحمل الكثير من المعرفة، والكثير مثلها من الحرية الفكرية، وكذلك استقلال القرار. وإن كان قرارك بكتابة بيان إدانة ليس بيدك، فكيف يمكن أن يكون بيدك قرار التفاوض مع نظام وحشي مدعوم من إسرائيل مثل نظام الأسد؟
وحتى تتمكن من إقناع خصومك وحلفائك وداعميك، بمواقفك، عليك أن تتقن قول “لا” في وقتها المناسب ومكانها المناسب. وإن كان قلبك سيخفق هلعاً ويدك سوف ترتجف من رد الفعل عليها، فدع عنك قصة العمل السياسي المعارض، الذكي منه والتقليدي، لأن من طبيعة عملك كمعارض أن ترفض أولاً ثم تنظر إلى شعبك ومصالحه، لا أن تكون مُليّناً دائماً لكل ما يتم طرحه؟
ليس تناول مثل هذه المسألة استهدافاً شخصياً لأحد، فالمؤسسات لا يمثلها قادتها فقط، إنما كافة المشاركين فيها والمنضوين تحتها بعقولهم وتاريخهم السياسي، ولا وقت فائضاً لدى أي سوري الآن لينصرف إلى شؤون غيره، مع أن هذا هو صلب الشأن العام، لا شأناً ذاتياً لمعارض في مؤسسته التي هي ملك السوريين جميعاً لا ملكه وحده.
مثل هذا الفعل فُحشُه البالغ يكمن في تفاهته وسطحية معالجته؛ وقد فاض الكيل وطفح، ويجب أن لا يتواصل التساهل مع هذا المستوى من العمل الذي لن يقود في النهاية إلا إلى تحويل الثورة السورية العظيمة وتضحيات شعبها إلى مجرد “مديرية صغيرة” في نظام الأسد (الجديد). فمن يدري لعلّ بلاغة هيئات المعارضة السورية تفاجئنا يوماً ما وتقول إنه لا يوجد (نظام للأسد) في سورية، إنما هو (نظام سوري)، كما لم تعترف بوجود احتلال (إسرائيلي) في فلسطين في بيانها المذكور! فمن الذي يحتل الأرض الفلسطينية إذاً، حسب المعارضة السورية إن لم تكن إسرائيل؟ ومن الذي دمّر سورية حسب هؤلاء إن لم يكن نظام بشار الأسد؟
المصدر: غلوبال جستس