حسن النيفي
نفّذ سكان مدينة منبج إضراباً عاماً في اليومين الخامس والسادس من الشهر الجاري، تجسّدَ بإغلاقٍ شبه كامل لجميع المحلّات التجارية وامتناع أصحابها عن ممارسة أعمالهم وذلك على الرغم من الضغوطات التي حاولت سلطات قسد ممارستها على التجار وأصحاب الفعاليات الاقتصادية والمهنية لثنْيهم عن قرار الإضراب.
وقد يبدو للوهلة الأولى أن الإضرابات جاءت تعبيراً عن احتجاج سكان المدينة على الأوضاع المعيشية المتردية فضلاً عن انعدام فرص العمل وحالة انسداد الأفق أمام الأهالي عن أي فرصة تتيح لهم توفير الحد الأدنى من مستلزمات المعيشة التي باتت طموحات السكان وتطلعاتهم لا تتجاوزها، ربما بدا ذكر هذه الدوافع أمراً صحيحاً باعتباره واقعاً عيانياً، ولكن في الوقت ذاته يبدو اختزال الأزمة بمظاهرها المباشرة فيه الكثير من تقزيم المشكلة وإخفاء جذورها الحقيقية، ذلك أن ما تشهده مدينة منبج من إضرابات لم تكن الأولى ولن تكون الأخيرة، فمنذ أن أحكمت سلطة قسد قبضتها على منبج في شهر آب من العام 2016، على إثر طرد تنظيم داعش بدعم عسكري وإشراف كامل من التحالف الدولي بقيادة واشنطن، لم تهدأ حركة الاحتجاجات السكانية التي وصلت في بعض الأحيان إلى درجة التصادم المباشر مع سلطات قسد كما في صيف 2020، ولكن غالباً ما كانت تنتهي تلك الاحتجاجات السلمية إمّا بالالتفاف عليها أو احتوائها أو قمعها، لتظل نارها تسعر في الخفاء ومن ثم تعود إلى الاشتعال كلما سنحت الفرصة.
بالنظر إلى سلطات الأمر الواقع الأربع التي تتقاسم النفوذ وكالةً أو أصالةً على الجغرافيا السورية، يمكن التأكيد على أن قسد هي الأوفر حظّاً بالنسبة إلى حيازة الموارد الاقتصادية والوفرة المادية وكذلك حيازة القوة العسكرية، ذلك أن الدعم الذي قدّمته الولايات المتحدة الأميركية لسلطات قسد، يكاد يفوق مجمل الدعم الذي تتلقاه سلطات الأمر الواقع الأخرى على الجغرافية السورية، ففضلاً عن السلاح المتطور الذي يتدفق عليهم بسخاء، وكذلك التمويل الهائل لجميع مشاريعهم ذات الصلة بالبنية التحتية والخدمية، فإنهم من جهة أخرى يُحكمون قبضتهم على جميع الآبار النفطية السورية التي تضخ إيراداتها في خزان الإدارة الذاتية، أضف إلى ذلك، عشرات المنظمات ذات التمويل الأوروبي والأميركي التي تضخ أموالاً طائلة تحت غطاء مشاريع خدمية وثقافية وسواها.
ولكن على الرغم من كل هذا الدعم الهائل لم يتمكن حزب الاتحاد الديمقراطي (pyd) من تأمين حالة من الاستقرار الأمني والاقتصادي والاجتماعي في أماكن سيطرته، فهل السبب يكمن في سوء الإدارة، أم في سوء الترشيد والاستهلاك، أم هو خلل في التخطيط الاقتصادي؟ يبدو أن الجواب على ما سبق يختزله السلوك الذاتي لسلطة قسد نفسها، ذلك السلوك الذي يدلّ على افتقاد قسد إلى أي رابط من روابط الانتماء إلى هذا البلد، فأبناء مدينة منبج – وفقاً لمنظور قسد – يجب أن يكونوا وقوداً للحرب لا أكثر عبر عمليات التجنيد الإجباري، ومجمل المرافق الاقتصادية في البلد يجب أن تكون بقبضة أعضاء نافذين في حزب الاتحاد الديمقراطي، ولا يُسمح لأبناء المدينة سوى اقتناء (بسطات الخضار) أو العمل المياوم في حفر الأنفاق، بما في ذلك الكوادر العاملة من موظفين وعمال وجنود لا ينتمون إلى (السلطة الخفية) وأعني الحاشية المقرّبة من حزب الاتحاد الديمقراطي.
ما يعنينا من ذلك هو تصور قسد الذي يختزل مدينة منبج بـ (بقرة حلوب) عليها أن تدرّ على مالكها أضعاف ما يُطعمها، ولكن يبدو أن من يدّعي ملكيتها لم يعد قانعاً بامتصاص خيراتها فحسب، بل يريد أن يستثمر المدينة استثماراً مطلقاً – بشرياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً – وحين يصبح مردود الاستثمار غير مقنع فلا حرج إن قامت قسد بزيادة سطوة الضرائب كوسيلة احتيالية لسلب الأموال ومضاعفة معاناة المواطنين، ربما لا يتخيل عاقل أن تكون أزمة الوقود في بداية هذا الشتاء هي الأشدّ تفاقماً في مناطق سيطرة قسد وهي التي تسيطر سيطرة مطلقة على آبار النفط السورية، وكذلك ربما من طرائف الخيال أن تكون ضريبة ترخيص البناء هي ثلاثة آلاف دولار لكل مئة متر مربع من الأرض، أي كلفة الترخيص أغلى من سعر الأرض، وذلك من دون أي خدمة تقدمها السلطة لصاحب الترخيص، وربما أيضاً من النادر أن يُطلب من كل محل صرافة في المدينة أن يدفع للسلطة مبلغاً قدره (75000) دولار مقابل الحصول على الرخصة، وكذلك على صائغ الذهب أن يدفع مبلغ (600) دولار مقابل كل كيلو غرام من الذهب يقوم بعرضه في محلّه، أضف إلى ذلك مجمل أشكال الضغوط التي تُمارس على المزارعين من خلال منعهم من تصدير منتجاتهم إلى خارج المدينة واحتكار المواد الزراعية وتجارة الأعلاف وسوى ذلك.
وبالمجمل فإن مدينة منبج التي تُعدّ من أهم الحواضر الاقتصادية في ريف حلب نظراً لتنوع وغنى الحركة التجارية فيها وتعدد الموارد ووفرة المنتجات الزراعية والحيوانية، فضلاً عن موقعها الاستراتيجي كحلقة تواصل بين غرب الفرات وشرقه، إلّا أنها اليوم تبدو شديدة البؤس، ليس من الناحية الاقتصادية والمعيشية فحسب، بل من الناحية الاجتماعية والنفسية نتيجة الشعور الشديد باليتم والإذلال من سطوة الظلم والسياسات القهرية التي تُمارسُ بحق سكانها.
لعله من غير المُستبعد أن تتمكّن سلطة قسد من احتواء الإضرابات أو إنهائها بطريقة ما، ولكن من المؤكّد أنها ستنطلق من جديد كلّما طفح كيل المعاناة لدى السكان الذين تتضاعف معاناتهم بندرة الخيارات التي تنحصر في أمرين: إما التصالح على مضض مع معاناتهم بالمزيد من الحرمان والإحساس بالبؤس، وإما الفزع الناتج من تهديدات قسد بتسليم منبج لقوات الأسد كلّما علتْ نبرة الاحتجاجات.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا