عمر سمير
منذ اللحظة الأولى للعدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة، برز خطاب رفض التهجير للفلسطينيين من أراضيهم في مصر والأردن بشكل خاص. بماذا يختلف هذا الرفض عمّا تروّجه الولايات المتحدة أو حتى بعض البلدان الأوروبية من رفضها التهجير نفسه؟ حتى اللحظة، لا شيء من الفروق الجوهرية العملية بين هذه الخطابات الرافضة التهجير خطابياً. وما علينا فعله أن نتساءل عملياً: ماذا قدمت الدولتان المستهدفتان بالأساس بتحمّل عبء التهجير وتبعاته على أراضيهما وكينونتهما وأمنهما، لمنع مثل هذا التهجير؟
تحدّث الرئيس عبد الفتاح السيسي، بوضوح، عن مخاوف أمنية وعسكرية وسياسية من التهجير وتبعاته، في لقائه في القاهرة المستشار الألماني، أولاف شولتز، في مطلع الأسبوع الثاني من الحرب، لكنه قدّم طرحاً لا يرفض التهجير مبدأً، بل يرفضه إلى الأراضي المصرية، فتارة يقول إنه يمكنكم تهجيرهم إلى النقب، وفي لقاءات أخرى يقترح أوروبا، في طرح متهافت. ومن ناحية أخرى أن الإعلام المصري، وبعض ضيوفه من كبار الخبراء والمثقفين المقربين للسيسي، يرون في قبول التهجير فرصة عظيمة لحل المشكلات العويصة المتعلقة بالاقتصاد المثقل بالديون، وهو الطرح نفسه الذي تروّجه دوائر إسرائيلية وغربية، بربط المنح والمعونات والقروض للاقتصاد المصري المأزوم بالقبول بالتهجير، ويروّج بعض هذا الإعلام وضيوفه، لأن قبولاً بالتهجير يمكن أن يحدُث بشرط جدولة جزء من الديون، بالإضافة إلى اتفاق ملزم لملء سد النهضة الإثيوبي وتشغيله، باعتبار نفوذ إسرائيل هناك.
ولا يبدو الموقف الأردني أكثر تطوّراً إلا من الناحية الخطابية، فقد كانت التصريحات، سواء للملك أو رئيس الوزراء ووزير الخارجية، ترفض التهجير، وأصبحت أكثر رفضاً بمرور الوقت، إلى حد اعتبار الإصرار عليه بمثابة إعلان حرب. والسؤال هنا: إذا كانت كل المؤشّرات تدل على إصرار على تنفيذ مخطط التهجير، فماذا يعني هذا أكثر من إعلان حرب، وماذا هيأ الأردن من استعدادات لهذه الحرب المعلنة عليها من الكيان؟ فهل نعتبر أن سماحها ببعض التظاهرات الحاشدة المستمرّة أو حتى إنزالها الجوي بعض المساعدات لمستشفى عسكري تابع لها، بإذن وتنسيق تام مع الاحتلال، هو استعدادها للحرب، وردّها المناسب على إعلان تلك الحرب؟
صحيح أن الموقف الأردني متطوّر نسبياً عن نظيره المصري خطابياً، لكن كليهما عملياً شديدا الضعف والوهن في مواجهة مخطّط التهجير الذي يجري تنفيذه، والذي هو فعلياً بمثابة إعلان حرب، وحرب لن تنتهي آثارها إلى عقود إذا نُفِّذ، سواء بتنسيق مع النظامين أو رغماً عنهما. وصحيح أن مصر منخرطة بدور وظيفي أكثر محدودية وفعالية من أي وقت مضى بعملية التهدئة، وجهود وقف التصعيد أو الهدن المؤقتة وعمليات تبادل الأسرى بالتنسيق مع دورين، قطري وأميركي، لكن هذا لا يرقى حتى للأدوار التي كانت تُمارَس في الحروب الخاطفة السابقة، رغم أن الحرب هذه المرّة أكثر تعقيداً وتأثيراً في المنطقة برمّتها من أية حروب خاطفة سابقة، وربما تقارن فقط بالمحطّات الكبرى في الصراع العربي الإسرائيلي كمثل 1948 و1956 و1967 و1973.
لكن الفعلين، الأردني والمصري، يبقيان محدوديْن جداً، إذا كنا نتحدث عن مخطّط التهجير الذي يبدو متماسكاً وماضياً في طريقه بالتنفيذ، من دون فعل مضادّ قوي، فحتى بعدما بحثت عمّان والقاهرة عن إطار جماعي، مثل الإطار العربي والإسلامي في قمّة الرياض، كان موقفهما ضمن الأكثر غرابة برفض مواقف أكثر صرامة، مطالبة بوقف تصدير النفط والغاز إلى الدول الداعمة للكيان أو طرد سفرائه واستدعاء السفراء وقطع العلاقات بالكامل أو التهديد بذلك. وبعد الحصول على إطار جماعي هش، لكنه رافض التهجير ومطالب بإدخال المساعدات بكل الطرق الممكنة، لا تزال الدولتان تستأذنان الكيان في إدخال المساعدات إلى قطاع غزّة بعد فحصها وتدقيقها، لعدم ثقته بهما، على رغم ما بينهم من ثقة واتفاق على كراهية “حماس” والمقاومة، وربما على الخلاص منها.
وحديث المساعدات الإنسانية والطبية وضرورة إدخالها بالقدر الكافي والمناسب للاحتياجات في غزّة هنا هو الدليل العملي الوحيد على مناهضة التهجير، إذ لا يمكن وقف التهجير، بينما كل المستشفيات في شمال غزّة، وغالبية مستشفيات جنوبها، خرجت عن الخدمة، ولا يمكنك القول إنك ضد التهجير، بينما تنفذ وصايا إسرائيل بإنشاء المستشفيات الميدانية وإرسال سفن المساعدات إلى خارج غزّة في العريش وغيرها، فما الذي يمنع تنسيقاً دولياً متوافقاً مع القرارات الدولية من إدخال المساعدات والمستشفيات الميدانية إلى غزّة نفسها برّاً وبحراً وجواً؟ وهل إسرائيل أقوى من المجتمع الدولي نفسه وكل الدول العربية والإسلامية مجتمعة حتى نظل نحصل على الإذن منها لإدخال المساعدات الإنسانية؟ لا بل حتى 3 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، وبعد 55 يوماً على اندلاع الحرب، وأسابيع على القرارات الإقليمية والدولية بإدخال المساعدات واستقبال المرضى، لم يخرج من غزّة سوى 400 جريح من بين أكثر من أربعين ألفاً، أي أقل من 1٪ وفق وزارة الصحة في غزّة، فهل هذه سياساتٌ تصبّ في تثبيت الفلسطينيين على أراضيهم؟
إننا نجد هنا تقصيراً شديداً تجاه قضيّة حيوية، هي المصريون الفلسطينيون، الذين، إن صحّ ما ذكره البرلماني السابق، سمير غطاس، في لقائه مع المذيع عمرو أديب، أن المصريين في فلسطين يحتاجون إذناً من سلطة الاحتلال لعبور معبر رفح والوصول إلى مصر بعد عملية طويلة ومعقدة تمرّ بالسفارة المصرية في رام الله، ثم الجهات الأمنية الإسرائيلية، رجوعاً إلى إدارة المعبر، إن صحّ هذا فإنه سابقة تاريخية، إذ لا يحتاج المصري أو أي مواطن في العالم إلى إذن من بلد آخر لكي يصل إلى بلده الأم، ونحن نتحدّث عن أعداد قد تصل إلى 40 ألف مصري فلسطيني، فهل إلى هذا الحد عجزت مصر التي لهثت قيادتها وراء إنجاز صفقة إخراج مزدوجي الجنسية عن أن تُخرج أبناءها؟ ليست المصيبة هنا، بل أيضاً أطلقوا عشرات الهاشتاغات الموجهة بالذباب الإلكتروني بعناوين مثل “مصر تفرض كلمتها وإرادتها”، وغيرها من شعارات جوفاء يكذّبها الواقع المؤلم يومياً، بينما يُنفَّذ مخطّط التهجير بتدمير أكثر من نصف الوحدات السكنية في قطاع غزّة، وتحويل أكثر من ثلاثة أرباع سكانه إلى نازحين، وتدمير أغلب المدارس والمستشفيات وكثير من مراكز الإيواء وفصل شماله عن جنوبه، وتحويله إلى مكان غير قابل للحياة عملياً. ويزداد الوضع في الضفة الغربية سوءاً، بتزايد هجمات المستوطنين وسقوط مئات الشهداء واعتقال وتهجير الآلاف هناك منذ بدء العدوان.
في سياق كهذا، ورغم أن الوضع الاقتصادي للأردن ومصر مأزوم، إلا أن إجراءات أكثر عملية مطلوبة بقوة منهما بالذات، لأن هذه المعضلات الاقتصادية ليست أكثر وجودية من التهجير وتصفية القضية على حسابهما، ولأن قبول اللاجئين لم يحلّ المعضلات الاقتصادية للبنان والأردن، بل ولا حتى تركيا، وليس أقلّ هذه الإجراءات إدخال المساعدات بكل الطرق استنادا للقرارات الدولية، ومن دون إذن الاحتلال أو التنسيق معه، وقطع العلاقات السياسية، والتهديد بقطع العلاقات الاقتصادية بالكامل مع الكيان، والدفع باتجاه موقف عربي وإسلامي ودولي أكثر تشدّداً وفعالية تجاه إسرائيل، لكي تشعر بالخطر ما لم يوقف هذه الحرب، بل وربما تهديد الدول الداعمة للاحتلال بمراجعة علاقتهما معها، والنظام الدولي بتوازناته في اللحظة الحالية يلعب لصالح القضية والمنطقة لمن يفهم توازناته وتناقضاته، ويستطيع النفاذ من ثغراته لخدمة أمنه القومي وقضايا أمته.
المصدر: العربي الجديد