حسن النيفي
في خطوة عدّها كثيرون إنجازاً مهمّاً لنظام الأسد في سياق التطبيع الذي شرعت به المملكة العربية السعودية ودول عربية أخرى تجاه دمشق، أعادت الرياض ملفّ إدارة الحج إلى حكومة دمشق بعد أن كان بيد الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية طيلة عشر سنوات مضت، ويُعدّ هذا الإجراء هو الخطوة الرسمية الثانية التي جرت بعد إعادة فتح السفارة السعودية بدمشق في شهر أيار من العام الفائت.
ولا شك أن هكذا حدث قد يعيد من جديد الحديث عن مآلات التطبيع العربي، والسعودي على وجه الخصوص مع نظام دمشق، وذلك في ظل تنامي الحديث في سياقات موازية عن خيبة أمل عربية من أي مصداقية لنظام الأسد تؤكّد جدّيته بالتعاطي مع الوعود التي كان قد وافق عليها إبان إعادته إلى مقعده في الجامعة العربية ومن ثم حضوره لقمة جدّة في شهر أيار من العام 2023. إذ على الرغم من الارتدادات التي أوحت بها تصريحات اللجنة المنبثقة عن الجامعة العربية والمكلفة بمتابعة المصالحة مع الأسد، والتي لم تخف تذمّرها بل وخيبتها من تنصّل رأس النظام من جميع وعوده فيما يخص استعداده للتعاطي بجدّية مع مسألة عودة اللاجئين السوريين والعمل على الحد من تصدير الكبتاغون ومسائل أمنية أخرى، إلّا أن هذا التذمّر الرسمي العربي من سلوك نظام دمشق لم يكن حائلاً دون استيفاء خطوات التطبيع على المستوى الرسمي، الأمر الذي يعيد من جديد طرح السؤال الذي يعلو كثيراً لكن على الغالب يبقى دون إجابات شافية من الجهات الرسمية، والسعودية منها على وجه الخصوص: ما الذي تريده السعودية من نظام الأسد؟ وما الفائدة التي ستجنيها – سواء على المستوى الاقتصادي أو السياسي أو الأمني – من نظام متهالك لا يملك أدنى درجات الكفاية لتلبية حاجات مواطنيه الأساسية، كما أنه يفقد السيطرة على ثلثي الجغرافيا السورية، فضلاً عن العقوبات التي تضرب حول خناقه طوقاً ضاغطاً عليه باستمرار؟
ربما لا يتردد البعض في تفسير الخطوات التطبيعية السعودية مع نظام دمشق على أنها استراتيجية جديدة تتماهى إلى درجة ما، مع النهج التركي القائم على ( تصفير المشاكل) الذي يتيح لأصحاب القرار مجالاً أكثر تحرّراً لتحقيق المصالح، ولا ضير من أن تكون النزعة البراغماتية في الخطاب السياسي هي الطاغية طالما أن الحصيلة النهائية للسياسات الدولية هي تحقيق المصالح، ولكن ربما غاب عن أصحاب هذا الرأي أن منهج ( تصفير المشاكل) لا يمكن أن يتأتى إلّا للدول القادرة على حيازة منظومتها الأمنية المستقلة، فضلاً عن امتلاكها القدرة العسكرية والاقتصادية ذات التأثير الإقليمي والدولي، ولئن استطاعت أنقرة خلال العقد الفائت أن تكون لاعباً إقليمياً مؤثراً بفضل قدراتها العسكرية والاقتصادية وعوامل الجغرافيا، فإن ما يشغل الرياض في الوقت الراهن هو البحث عن موقف متوازن ضمن منافسات الدول الكبرى وصراعاتها المستقبلية المتوقّعة، وربما هذا ما يجعل السعودية تسعى لفتح آفاق جديدة مع الصين مثلاً، كما تحرص على استمرار موقف متوازن حيال روسيا وذلك في تمايز ولو بنسبة قليلة عن موقفها التقليدي المتماهي مع الموقف الأميركي، إلّا أن ما هو من أولويات السياسة السعودية في الوقت الراهن هو أمنها الوطني الذي ما تزال تراه مكشوفاً أمام أهم مصادر الخطر في المنطقة، ونعني الخطر الإيراني الذي ازداد عنجهيةً وانفلاتاً منذ أن شرعت إدارة أوباما باتباع سياسة الاحتواء والحوار مع إيران واستبعاد منهج التصادم والحرب المباشرة، ولهذا ربما لا تجد الرياض أي جدوى من استمرار القطيعة مع طهران، في ظل المهادنة الأميركية، ومن خلفها الأوروبية، للنظام الإيراني الذي لم يعد نفوذه واستطالاته العدوانية على جواره موضع استنكار غربي كما كان من قبل، الأمر الذي جعل التقارب السعودي مع إيران ليس مجرّد رغبة في تجاوز القطيعة التي استمرت سبع سنوات فحسب، بل حاجة أمنية تستدعي تجاوز أي اعتبارات أخرى، وبالفعل كان التفاهم السعودي الإيراني برعاية صينية في آذار من العام الفائت فاتحة طور جديد في السياسة السعودية، وكان التقارب مع نظام الأسد والتعهّد بإعادته للجامعة العربية عربوناً لهذا الطور الجديد من التفاهمات مع إيران، وبهذا تكون المبادرة السعودية تجاه الأسد هي جزء من استحقاق ليس مقصوداً بذاته بقدر ما هو ملحق أو مُتمّم لتفاهمات أوسع وأشمل. إذ لعله من الصحيح أن السعودية لا ترجو أي فائدة من نظام الأسد، وليس لها أي مصالح حيوية مع دمشق تجبرها على هذا التقارب المجاني مع نظام بات مصدراً للشرور في المنطقة، إلّا أنه على الرغم من ذلك يبقى نظام الأسد بوابة عبور لمن أراد الوصول إلى طهران، ولعل زيارة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي إلى دمشق قبل انعقاد قمة جدة بأيام قليلة تؤكد أن مطالبة العرب لرأس النظام بالابتعاد عن إيران كشرط جوهري لعودته إلى الجامعة العربية ما هي إلا ضرب من الوهم والسذاجة.
لعله من الصحيح أن إعادة ملف إدارة الحج إلى نظام الأسد ليس له أي تأثير سلبي على مصالح السعودية، كما أنه لن يضيف أي جديد سوى أنه استحقاق سعودي توجبه التفاهمات مع إيران، فيما يمكن أن يحمل في طياته نصراً رمزياً لنظام دمشق، ولكن بالمقابل ما الذي سيخسره الائتلاف بصفته الكيان السياسي السيادي المعارض الذي تولّى إدارة ملف الحج طيلة عشر سنوات؟ ربما يستدعي هذا السؤال أسئلة أخرى لا تقل أهمية عن السؤال الأول: لقد حظي الائتلاف في العام 2012 بمقعد الدولة السورية في الجامعة العربية، كما حظي باعتراف سياسي من جانب أكثر من مئة دولة (أصدقاء سوريا)، فما النفع الذي جناه السوريون سواءٌ المقيمون في مناطق سيطرة المعارضة أو في دول اللجوء من ذلك؟ وهل استطاع الائتلاف أو الحكومة المنبثقة عنه منذ العام 2012 وحتى الوقت الراهن تأمين وثيقة واحدة لمواطن سوري في أي مكان من العالم؟ باستثناء دفعة وثائق السفر المزوّرة التي باعها الائتلاف لمواطنين سوريين وقد تسببت باعتقال الكثير منهم في المطارات وجعلتهم محطّ شبهة أمام الأجهزة والإدارات الأمنية في الدول الأخرى، فما الذي ستضيفه عودة ملف الحج لنظام الأسد إلى معاناة السوريين في ظل مأساتهم التي تتعاظم يوماً بعد يوم بدءًا من الحصول على لقمة العيش ووصولاً إلى السجن والسحل والترحيل القسري؟
المصدر: موقع تلفزيون سوريا