عبد الناصر القادري
رحل المفكر السوري الفلسطيني يوسف سلامة، عن 78 عاماً، في نضال طويل مع الاستبداد والسلطوية، معطياً عمره للفلسفة وتوليد الأفكار، في غربتين؛ أولى عن وطنه الأم فلسطين، وثانية بعيداً عن وطنه الثاني سوريا الذي اختاره ونظّر لأجله وعمل باجتهاد ليكون حراً بمواطنيه السوريين من كل مشاربهم ومذاهبهم وأعراقهم وألوانهم.
ونعى السوريون اليوم واحداً من أبرز الفلاسفة والمفكرين السوريين الذين يعدون على أصابع اليد في منفاه الأخير بالسويد، متذكرين دماثة أخلاقه وكتاباته وأفكاره، مشيرين إلى سيرته العلمية المهمة في المجال الأكاديمي، ومؤكدين على مواقفه الأخلاقية من الثورة السورية والقضية الفلسطينية.
وقالت رابطة الكتّاب السوريين في بيان لها اليوم الثلاثاء، “عرفت أجيال من السوريين الراحل من خلال عمله في كلية الآداب قسم الفلسفة، حيث حضر مع مجموعة من الأساتذة في لحظات مهمة، واجهوا فيها التسلط الأسدي على الوسط الأكاديمي، والسعي الحثيث لتفريغ الجامعات السورية من النخبة التنويرية. وقد ظل الراحل، وبما عرف عنه من الصلابة في المواقف المترافقة مع الدماثة واللطف، على ما عهده عنه تلامذته من الدأب، أميناً على الغايات النبيلة للمهنة، والعمق الفكري للمادة الفلسفية”.
ومنذ انطلاق الثورة السورية، “كان موقف الراحل واضحاً، غير مهادن، في مواجهة عسف النظام وجوره وإجرامه، فكان أن اضطر إلى مغادرة البلاد مع ملايين السوريين إلى المنفى في السويد، لكن همته لم تفتر حيث تولى رئاسة تحرير مجلة قلمون الصادرة عن مركز حرمون للدراسات المعاصرة، فأنجز مع عشرات من الباحثين 26 عدداً رصيناً ركزت على هموم الشعب السوري وقضاياها الحارة، ويذكر جميع من ساهم في المجلة أن الفقيد كان على تواصل معهم بهمته المعهودة حتى قبيل فترة وجيزة من الأزمة الصحية التي عاشها في أيامه الأخيرة”.
من حيفا إلى دمشق
في قرية أم الزينات على السفح الجنوبي لجبل الكرمل في قضاء حيفا، ولد يوسف سلامة عام 1946، قبل عامين من النكبة الفلسطينية، خاض أبناء قرية يوسف سلامة معركة مع عصابات الهاجاناه الصهيونية المدعومة من قوات الانتداب البريطاني، إلا أن القرية قد حُوصرت من جميع الجهات وتركت مفتوحة من جهة الغرب ليُغادر منها أهل القرية، بمن فيهم يوسف سلامة وعائلته.
هجر يوسف سلامة قسراً إلى دمشق مثل عشرات آلاف العائلات الفلسطينية عام 1948، وفي الرابعة من عمره أصيب بمرض الرَّمَد الطبيعي، ما أفقده البصر بشكل شبه كلّي.
ورغم الوضع الصحي المزمن الذي أصاب يوسف سلامة، غير أن ذلك لم يحُل دون متابعة دراسته وتحصيله العلمي، اختار الفلسفة تخصصاً لمشواره الأكاديمي، فتخرج في جامعة دمشق عام 1967، ثم انتقل إلى العاصمة المصرية حيث حاز سنة 1975 درجة الماجستير من “جامعة القاهرة” عن أطروحته “المنطق عند إدموند هوسرل”، التي أشرف عليها المفكّر زكريا إبراهيم، ثم استحق من الجامعة نفسها عام 1985 درجة الدكتوراه عن أطروحته “السلب واليوتوبيا دراسة في هيغل وماركيوز”، التي أشرف عليها المفكّر المصري الراحل حسن حنفي.
عمل أستاذاً للفلسفة الغربية والإسلامية في جامعة الزاوية ــ ليبيا 1993 ــ 1996، وأستاذاً وباحثاً في المعهد الفرنسي لدراسات الشرق الأدنى، 2000 ــ 2012.
وفي عام 2004 عمل باحثاً زائراً في جامعة واترلو في كندا، ونال عام 2007 وسام السعفة الأكاديمية من مرتبة فارس من الحكومة الفرنسية.
وشغل منصب نائب رئيس الجمعية الفلسفية العربية في عمّان، من 1998 حتى 2011، ونائب رئيس الاتحاد الفلسفي العربي في طرابلس اللبنانية.
وعمل أستاذ الفلسفة والدراسات العليا والبحث العلمي في الأكاديمية العربية في الدنمارك منذ العام 2015.
الهم العربي والاستبداد
محملاً بالهم العربي وانتصار القضية الفلسطينية عاد الدكتور يوسف سلامة إلى دمشق، وبدأ التدريس بجامعة دمشق من عام 1987 مستمراً في ذلك حتى عام 2013.
كان ليوسف سلامة حضور استثنائي في جامعة دمشق، حيث اقتصرت مقاعد التدريس على مجموعة من الماركسيين والقوميين المؤدلجين بشكل نهائي، في الوقت الذي جاء يوسف سلامة متجاوزاً عقدة الأيديولوجيا، بمواقف قوية وأفكار متجددة وتنويرية، في الوقت الذي كان من الصعب أن يتخذ أي شخص موقفاً سياسياً في دولة أمنية بوليسية يقودها حافظ الأسد ومن بعده نجله بشار، ويعتقل المرء على أفكاره قبل أفعاله.
فهو من الأكاديميين القلة الذين أيدوا منتديات وصالونات دمشق السياسية التي كان ينظمها المعارضون السياسيون في سوريا.
وكان عضواً في منتدى الدكتور جمال الأتاسي للحوار الديمقراطي ــ ربيع دمشق 2000. وكان أول من دَعَا إلى تعديل المادة الثامنة من الدستور السوري.
حضر يوسف سلامة محاضرات برهان غليون ورياض سيف وغيرهم من الأكاديميين والناشطين السوريين الذين عملوا على تحريك المياه الراكدة في السياسة السورية قبيل اندلاع الثورة عام 2011، وإن لم يوقع على البيانات النهائية التي كانت تخرج مثل إعلان دمشق أو إعلان دمشق – بيروت وغيره.
لم يكن سلامة ناشراً كبيراً مع قلة مؤلفاته، إلا أنه اعتمد أسلوب الفلاسفة القدماء في الحوارات القائمة على الجدل والنقاش والرأي أكثر من الكتابة، ولذلك كان مقلاً في التأليف والنشر، وبلا شك ساهم المرض أيضاً في ذلك، وإن امتلك موهبة نادرة في السرد واستحضار الحجة ودقة البصيرة.
ومن أهم مؤلفاته: “الإسلام والتفكير الطوباوي، هل الإسلام يوتوبيا؟” (1991)، و”مفهوم السلب عند هيغل” (2001)، و”فينومينولوجيا المنطق عند إدموند هوسرل” (2002)، و”من السلب إلى اليوتوبيا.. دراسة في هيغل وماركيوز” (2008)، كما شارك مع مجموعة من الباحثين في إصدار كتاب “العلمانية العربية” (2009)، ودراسات وأبحاث ومقالات أخرى باللغتين العربية والإنكليزية.
غادر سلامة بلده سوريا الذي يعرف نفسه فيه عام 2013 إلى منفاه الأخير، السويد، بلد يحترم حقوق الإنسان وليس فيه العسف والاعتقال والقتل، ولكن أيضاً ليس فيه مخيم اليرموك وحارات دمشق التي اعتاد أن يتحسسها يوسف سلامة في حياته وفلسفته.
واستمراراً في التنظير لأفكاره الفلسلفية والاجتماعية، ترأس تحرير مجلّة “قلمون” الفصلية للأبحاث والدراسات، التي تصدر عن “مركز حرمون للدراسات المعاصرة” في إسطنبول حتى رحيله، وكان يعدّ ملف العدد المقبل الذي يصدر خلال الشهر الجاري عن الآثار السورية.
الإيمان بالثورة السورية
انحاز سلامة للثورة السورية والثورات العربية الأخرى منذ لحظتها الأولى، وكان يرى بها الأمل المشرق للسوريين وجيرانهم العرب، في ظل انحياز كثير من المثقفين العرب بمختلف أيديولوجياتهم للنظام السوري بحجة موقفه من القضية الفلسطينية وإلحاق الثورة بنظريات المؤامرة الكونية التي روج لها إعلام النظام ومؤسساته.
كان سلامة مؤمناً بفكرة الثورة السورية قبل اندلاعها، رغم التشوّهات التي اعترتها والانزلاقات التي تعرّضت لها على طول أيامها. وعن ذلك قال يوسف سلامة في حوار مطول مع المركز الكردي السويدي للدراسات: “من الوقائع الصارخة في أحداث الثورات العربية انحسار دور النخب في هذه الأحداث إلى حدّ بعيد جداً. ولم يكن الأمر موضع اختيار، لا للثوار الشباب، ولا لأفراد النخب، بأن يكون الأمر على هذا النحو أو غيره. لقد كان من المفيد، بالتأكيد، أن تكون النخب حاضرة في هذه الأحداث من غير أن تكون قائدة وموجّهة لما حدث. كان يمكن للأمر أن يكون مفيداً من حيث إن النخب تمتلك معرفة وخبرة قد لايمتلكها الشباب”.
وأضاف أن “الشباب في المقابل يمتلكون شجاعة ومخيلة وتطلعات تتجاوز على الأغلب القيمة التي يمكن أن تقدمها النخب المتضاربة في أفكارها والمختلفة في رؤاها؛ خاصة أن النخب لا تنتمي كلها إلى العصر، فبعضها تقليدي تراثي، وبعضها تقليدي ماركسي. وقلّ أن تجد من بين أفراد النخبة من يستطيع أن يقول شيئاً يتجاوز هاتين الرؤيتين إلا في حدود ضيّقة. باختصار؛ النخب عتيقة التفكير، وتطلّعات الشباب لا يمكنها أن تسترشد بما لدى النخب من أفكار هي الأقرب إلى الحكم التي يغلب عليها الانتساب إلى عوالم قد بادت معظم عناصرها. لذا، موقفي هنا، موقف وصفيّ لما هو قائم، وهو في نظري، موقف أكثر جدوى في الوصف شبه الدقيق لما هو قائم”.
سؤال الاستبداد وموقف المثقف
وتابع أنه من المفيد القول: إن “النظم الاستبدادية، كما أنها حاولت ضبط الشباب وشلهم والهيمنة عليهم واستيعابهم في الأطر الأيديولوجية الزائفة التي تمّ إنتاجها في صورة منظمات حزبية أو شبابية أو طلابية أو نسائية، كذلك هو الأمر بالنسبة إلى النخب. فالنظم احتجزت الكثير منهم في سجونها عشرات السنين، ونكّلت وهجّرت الكثير ممن لم يمتثل للعبة السلطة. والأخطر من ذلك أنها استولدت نخب زائفة، واستزرعت ضروباً من الفطور الضارة نشرتها في كل مؤسسات الدولة والمجتمع، ابتداءً من الجامعات وانتهاءً بالمدارس الابتدائية. كما أنها خلقت نخباً دينيّة جيّشتهم لإظهار الجانب الإسلامي (الزائف) الذي يختفي وراءه هذا الزعيم أو ذاك”.
انتقد سلامة المثقفين السوريين الذين أيدوا الثورة في بدايتها ثم انقلبوا ضدها بسبب التشوهات والانزلاقات التي عاشتها قائلاً: “خيبة الأمل موقف إنساني، يمكن تفهمه” مبيناً أن: “البنية المسيطرة على المثقف هي في الغالب بنية طوباوية. وتزداد هذه الطوباية قوة كلّما تخلّى المثقف عن ملكاته النقدية” وأن “التاريخ هزائم وانتصارات، وأول من ينبغي عليه أن يفهم ذلك هو المثقف”.
وأكّد الفليسوف السوري كذلك “أنا مع فكرة الثورة ومع مطالباتها العادلة. أما الانحرافات فهي أمور طبيعية، ما دام التاريخ لم يمت بعد. ولذا أقول: لو شهد روسو عصر الإرهاب في الثورة الفرنسية، ما غيّر رأيه ولا فلسفته التي كانت إحدى مقدمات الثورة. ومطلوب من كل المثقفين السوريين أن يدافعوا عن فكرة الثورة، وأن يعملوا ما استطاعوا، بأن يقرّبوا الفعل الثوري من الفكرة الحقيقة للثورة”.
الجامعة السورية
عاصر سلامة فترة الاستقلال وبناء الدولة السورية بعد جلاء الاستعمار الفرنسي عن سوريا، ومخاض الديمقراطية في العقد الأول من الاستقلال (1948 -1958)، ثم عاش فترة الوحدة بين سوريا ومصر (1958 – 1961)، وشهد الانقلابات العسكرية بقيادة حزب البعث العربي الاشتراكي عام 1963، والخلافات الداخلية التي أنهى فصولها انقلاب حافظ الأسد عام 1970، مؤسساً لحقبة الحديد والنار و”الجمهورية الملكية” التي استلم حكمها نجله بشار الأسد عام 2000.
كل تلك المجريات أثرت على تفكير يوسف سلامة خصوصاً المتعلق بنكسة عام 1967 والتي خسر فيها العرب أجزاءً أكبر من أراضي فلسطين العربية ومرتفعات الجولان في سوريا وسيناء في مصر، مؤكداً أن تلك الخسارة أثبتت مأزق الفكر القومي العربي .
وأكّد سلامة في حديثه لتلفزيون سوريا في برنامج المنعطف عام 2020، “أنا فلسطيني ولكنني أقدم نفسي على أنني فلسطيني سوري وعشت كل حياتي في سوريا”.
وتابع سلامة “أتحدّث بصراحة بالغة. وكل ما يحرّكني هو مصلحة سوريا، سوريا الممتدة من درعا إلى القامشلي وديريك والدرباسية والحدود العراقية. هذا معناه أنني لا أفهم سوريا بالمعنى الذي قصده أنطون سعادة. وبالتالي، علينا أن نتمتّع بوجدان نقي وعقل صاف لنتدبّر أمور هذا الوطن. أنا أدعو اليوم إلى فكرة جديدة هي فكرة (الجامعة السورية). وهي فكرة تتجاوز أفكارنا التقليدية عن الأكثريات والأقليات. فبمقتضى هذه الفكرة كلنا أكثريات. ما أعنيه بذلك أن نتفق على أننا جميعاً سوريون. وبعد ذلك، يمكن للمرء أن يكون ما يريد، سورياً كردياً سورياً عربياً سورياً أشورياً وهلمّ جراً”.
ويرى الفيلسوف السوري أن “الجامعة السورية فكرة أولية تسمح لنا بالتخلّص من فكرة الأقليات والأكثريات، وتمنح حقوقاً متساوية للجميع، وتحقيقها مشروط بأمرين، الأول؛ تخطّي فكرة المظلوميات. لأن السوريين جميعاً مظلومون. والثانية؛ وضع دستور يتوافق عليه الجميع، ويسمح للجميع بأن يحكموا أنفسهم بأنفسهم، مع المحافظة على وحدة الدولة السورية الواحدة”.
وأكّد على أن “ذلك اقتراح مطروح للنقاش، ويحتاج إلى قدر هائل من النوايا الطيبة والحسنة من الجميع. وليس عندي ما يدعوني إلى الشك بتوافر هذا القدر من النوايا. غير أن النوايا وحدها قد لا تكفي. فالانفتاح والعقلانية أمران مطلوبان من الجميع”.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا