باتريك لورانس
ترجمة: علاء الدين أبو زينة
قبل سنوات عديدة، في زمان ومكان آخرَين، كان لي صديق ألماني ينحدر من هامبورغ. كان كريستوف من النوع المثقف المهذب والمتحضر، وقد تعلَّقت أعمال فنية مثيرة للإعجاب على جدران شقته. وأتذكر كم كان مغرمًا بشكل مفرط بمجموعته من تلك الغلايين الأنيقة والمرغوبة لتدخين التبع، التي صنعها بيترسون من دبلن.
كان قد مر عام أو نحو ذلك على صداقتنا عندما بدأ كريستوف يتحدث عن الحرب، والرايخ، ومعسكرات الاعتقال، وعبء الشعور بالذنب الذي كان جزءًا مما يعنيه أن تكون ألمانيا في العالم كما كان حالها بعد العام 1945.
وأنت تسمع من حين لآخر هذا النوع من الأشياء من الألمان، أو على الأقل فعلتُ أنا على مر السنين. وأنا أشعر دائمًا بالحرج والخجل عندما يتحدث صديق أو أحد المعارف الألمان بهذه الطريقة عن عبء… ماذا أسميه؟… كون المرء ألمانيا. يبدو الأمر كما لو أنهم يتغاضون عن السياسة والتاريخ لصالح المغالطة الخبيثة في ما تسمى حجة الشخصية الوطنية: لقد فعل الألمان ما فعلوه في ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين لأن هذا هو من هُم الألمان وهذا هو ما يفعله الألمان. وكان كريستوف في منتصف الأربعينيات من العمر -ولد، إذن، في ستينيات القرن العشرين- وهناك كان يحمل الثقل النفسي المؤلم للذنب الذي لا مفر منه.
كنت مغرمًا بما يكفي بكريستوف لمواجهته في النهاية بشأن هذا، مهما كان خطر المغامرة بالحرج. ومع مرور الوقت، وبعد أن فكرت في الحزن الذي شعرتُ به وأنا أستمع إلى جَلد صديقي لنفسه، أدت محادثتنا إلى تمييز لم أنسَه منذ ذلك الحين.
“كريستوف”، قلت له وهو ينفث الدخان من أحد غلايين بيترسون ذات مساء، “هناك ذنب وهناك مسؤولية. أولئك الذين خدموا الرايخ، حتى أولئك الذين لم يفعلوا ولكنهم أداروا وجوههم -كانوا مذنبين. وإذا كانوا ما يزالون على قيد الحياة، فإنهم ما يزالون مذنبين. أنتَ لست كذلك. كيف يمكن أن تكون؟ إنك ’مذنب‘ بلا شيء. إن الماضي يلقي علينا جميعًا مسؤوليات من نوع أو آخر. إنه يتركك مع مسؤولية معينة، نعم، ويجب أن تعرفَها وتحترمها. أما أن تكون مذنبًا وأن تكون مسؤولاً فأمران مختلفان تمامًا”.
وقد فكرت مرات عديدة، منذ سلسلة الأحداث التي بدأت في 7 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، في تلك الحوارات التي خضتها منذ فترة طويلة مع كريستوف -رجل ضمير ولكن، يجب أن نقول، ضمير مضلَّل. كيف كان رد فعلنا نح في الغرب على الفظائع الإسرائيلية اليومية في غزة؟ وما الذي حدد ردود الفعل هذه؟ يجب علينا جميعًا في عالم الأطلسي -الأميركيون والفرنسيون والبريطانيون والإيطاليون والبلجيكيون وغيرهم- أن نفكر في هذه الأسئلة. ولكي نفعل، من الضروري أن نفكر في مسألة الذنب والمسؤولية. وليس غريبًا أن يكون رد فعل ألمانيا على بربرية إسرائيل هو الذي يحثنا على إجراء هذا الفحص الذاتي وأن نعطيه الأولوية المطلقة على بقية الأشياء.
لطالما كان دعم “جمهورية ألمانيا الاتحادية” لـ”الدولة اليهودية” واضحًا لا لبس فيه، ويرتقي إلى حد “الدعم غير المشروط” الذي تقدمه واشنطن، وهي العبارة التي فضلتها هيلاري كلينتون خلال سنوات عملها كوزيرة للخارجية. ويعود هذا الموقف إلى كونراد أديناور، أول مستشار لألمانيا الغربية، الذي أذن بتقديم تعويضات عن الحرب والمساعدات الاقتصادية التي كانت الحاجة تمس إليها بعد أربع سنوات من تأسيس إسرائيل في العام 1948. ولم تنظر ألمانيا إلى الوراء أبدًا. وصف رودولف دريسلر، وهو عضو في البوندستاغ منذ فترة طويلة، تفاني ألمانيا في القضية الإسرائيلية بأنه “سبب دولة”، والتزام أساسي، أثناء عمله كسفير لبرلين في تل أبيب من العام 2000 إلى العام 2005. وهو موقف غير قابل للتفاوض.
يشكل موقف ألمانيا من أزمة غزة جزءا عضويا من هذا التاريخ بالكامل. لن تفكر بأنه سيكون من الممكن لبرلين أن تقف إلى جانب إسرائيل بشكل أكثر راديكالية مما فعلت، لكن المستشار أولاف شولتس تمكن من أن يفعل. مباشرة بعد أحداث 7 تشرين الأول (أكتوبر)، أضاءت برلين بوابة براندنبورغ (1) باللونين الأزرق والأبيض اللذين يمثلان العلم الإسرائيلي. وهل تذكرون موكب القادة الغربيين الذين سافروا إلى تل أبيب بعد 7 تشرين الأول (أكتوبر) لوضع ختم موافقتهم مع بدء الأعمال الوحشية في غزة؟ كان شولتس من بين الأوائل. وقال المستشار في ذلك الوقت: “في هذه اللحظة، هناك مكان واحد فقط لألمانيا: إلى جانب إسرائيل”.
نشر موقع “الجزيرة” مقالاً ممتازًا عن السياسة الألمانية والمناخ السياسي في الجمهورية الاتحادية بعد شهرين من أحداث 7 تشرين الأول (أكتوبر). ومن بين أمور أخرى كثيرة، أشار المقال إلى أن ولاية “ساكسونيا أنهالت”، وهي ولاية محافظة اجتماعيا وسياسيا تقع جنوب هامبورغ، تطلب الآن من المهاجرين الوافدين التعهد بالولاء “لحق إسرائيل في الوجود” في طلباتهم للحصول على الجنسية. لا تعهد، لا جنسية.
يبدو أن ثمة القليل من المتسع للفروق بين الزُّمر السياسية في برلين عندما يتعلق الأمر بالقادمين الجدد إلى “ساكسونيا-أنهالت”. وقد ألمحت أنالينا بيربوك، وزيرة الخارجية -الأقل تأهيلاً من بين الذين اختيروا لهذا الدور الآن في أوروبا- بحذر في كانون الأول (ديسمبر) إلى أن إسرائيل قد تفكر في إلحاق معاناة أقل بالفلسطينيين في غزة. وبعد عشرة أيام، أعاد شولتس التأكيد على دعم ألمانيا الدبلوماسي للدولة الصهيونية بعبارات أصبحت رتيبة بحلول هذا الوقت. وقال بيان حكومي: “ألمانيا تقف بحزم إلى جانب إسرائيل”. وفي ذلك الوقت كان 17.000 من سكان غزة قد قُتلوا.
وسط هذه الإعلانات والاعترافات المستمرة بالولاء والإخلاص، ثمة شيء مثير للاهتمام. استطلاع للرأي أجري في تشرين الثاني (نوفمبر)، عندما كان عدد القتلى في غزة أكثر بقليل من ثلث الـ29.000 شخص الذين تم تسجيل مقتلهم أثناء كتابة هذه السطور، وافق أقل من ثلث الذين شملهم الاستطلاع من الألمان على دعم حكومة شولتس الثابت للدولة الصهيونية. وفي قراءتي، قد يعكس هذا تغيرًا في الوعي بين الأجيال من الألمان: لم يبق سوى عدد قليل جدًا ممن يتذكرون الرايخ والمحرقة، وقوة الذكريات المستنفدة آخذة في الانخفاض بشكل طبيعي.
كيف يمكننا أن نقرأ الدعم الكامل الذي لا يحتاج إلى نقاش لإسرائيل حتى في الوقت الذي ترتكب فيه إسرائيل إبادة جماعية ضد سكان يبلغ عددهم 2.3 مليون نسمة، إلى جانب الدعم المنهار على ما يبدو لهذا الموقف بين المواطنين الألمان؟ لا أعتقد أننا يمكن أن نفهم هذا من دون الاشتباك مع أسئلة الذنب والمسؤولية.
* * *
صحيح بما يكفي ومعروف تمامًا أن إصلاح صورة ألمانيا – كأمة، وكمجتمع- كان مشروعا وطنيا منذ السنوات الأولى لإعادة تأهيلها بعد الحرب. وقد حاول الألمان أن يفعلوا الشيء نفسه كشعب. ثمة إذن خطة في سياسة برلين تجاه إسرائيل، ولكن ما يزال هناك وعي بالذنب في الخارج بين الألمان ورغبة طبيعية -وإن كانت لا شعورية- في التكفير عنها. وغالبًا ما يكون هذا واضحًا لا تخطئه العين عندما تكون بين الألمان. هذا ما سمعته في أحاديثي مع كريستوف وعلى مر السنين مع آخرين.
يقتبس مقال “الجزيرة” المذكور أعلاه من باحث يدعى دانيال مارويكي، الذي يوضح كتابه، “ألمانيا وإسرائيل: تبييض صفحة وبناء الدولة” (هيرست، 2020)، هذا الفرز بمهارة وعناية. كان مصطلح مارويكي وهو يتناول النفسية الألمانية الجماعية هو “الأخلاق”. وقال عندما أجرت قناة “الجزيرة” مقابلة معه: “عندما يتحدث السياسيون الألمان اليوم عن إسرائيل، فإن هذا يكون من وجهة نظر أخلاقية”. وفي إشارة إلى الدعم الألماني الرسمي لإسرائيل، يضيف مارويكي: “يعتقد جميع السياسيين الألمان البارزين أن هذا هو الشيء الصحيح أخلاقيًا الذي يجب القيام به بسبب الماضي الألماني”.
فكِّروا في هذا. القيادة الألمانية -ونسبة معينة من الألمان، حتى لو ضعُف حماسهم لدولة الفصل العنصري- يفهمون الآن أن الدعم غير النقدي لنظام يصبح مشروعه للإبادة الجماعية والتطهير العرقي أكثر شبها بمشروع الرايخ بمرور كل يوم هو “الشيء الصحيح أخلاقيًا الذي يجب القيام به”، حسب تلخيص مارويكي المفيد. إعلان الموافقة بتقديم دعم مادي وسياسي ودبلوماسي لدولة عنصرية وعنيفة بشكل محموم تستخدم قوة إبادة ضد شعب آخر -هذا هو التزام ألمانيا بعد 79 عامًا من انهيار النازيين. قل لي إذا كان يمكنك التفكير في شيء أقرب من هذا إلى الجنون الجماعي!
ثمة شيئان يمكن قولهما عن هذا الوضع المنافي للعقل. أولاً، هذا هو المكان الذي يقود إليه بسهولة التصرف بدافع الذنب عندما يكون افتراض الذنب غير عقلاني -عندما يكون خاطئًا، بكلمة واحدة. ثانيًا، وفي صلة مع هذه النقطة الأولى، أن القبول بالذنب كعبء على كاهل المرء بهذه الطريقة يمكن أن يكون غير مسؤول بشكل قاطع ومدمِّر لأنه يقود المرء، أو أمة بأكملها، إلى السير في طريق خاطئ.
لقد أخطأتُ في العدّ: ثمة شيء ثالث يمكن قوله عن أمة تفهم الذنب -خطأ- على أنه حالة موروثة لا يمكنها الهروب منها ويجب أن تتصرف بشأنها إلى أجل غير مسمى -أكثر أو أقل. إن مثل هذه الأمة تكون عالقة في الماضي -أو كانت عالقة جدًا فيه، أو تركت نفسها لتُجعل عالقة فيه، أو جعلت نفسها عالقة فيه عن قصد. وهذا يفتح لنا إدراكًا يجب ألا نفوته. لقد استثمر الإسرائيليون الشعور بالذنب بين أولئك الذين يسعون إلى لحصول على الدعم منهم منذ فترة طويلة وباجتهاد كبير في ما يمكننا أن نعتبره أساسيا لسياساتهم الخارجية. والمشروع، الذي يتكثف بينما تتلاشى الذاكرة الجماعية، هو حصر مؤيدي إسرائيل في الماضي من أجل تطويق الحاضر -حاضر إجرام إسرائيل وقسوتها المرَضية. وهناك طريقة أخرى لتوضيح ذلك: إن الهدف الإسرائيلي هو منع الآخرين من التصرف بمسؤولية في مواجهة سلوكها.
الذنب، الذنب، الذنب، الذكريات المطارَدة، التذكير المستمر بالماضي في الكتب والأفلام والمتاحف والنصُب التذكارية: ليس ثمة حاجة إلى إنكار أهوال القرن الماضي، وثمة كل حاجة إلى الهروب من هذه العقدة المشوهة. إن الأعمال الوحشية التي تتكشف يوميًا في غزة تجعل هذه المسألة ملحة. وعندما نفهم أخيرًا الشعور بالذنب ومكانه الصحيح في حياتنا، وبينما نفكر في الأمور، ثمة شيئان يكونان ممكنين على الفور. نحن قادرون على العيش في الحاضر، وليس في الماضي، وليس كسجناء للتاريخ؛ ونحن قادرون على الرد بمسؤولية على الأحداث عند حدوثها في هذا الحاضر الذي أصبح متاحًا فجأة.
في حالة ألمانيا، سوف تنقلب سياسة برلين تجاه إسرائيل رأسًا على عقب بنفس سلاسة الساعة الرملية. لن يكون هناك دعم أو تغاض عن سلوك إسرائيل الإجرامي، أو الاقتراح بخجل على الإسرائيليين تخفيف ما يفعلون، أو الإذعان له بصمت. كان قادة ألمانيا ليقفوا ويقولون: “أولئك الذين جاؤوا قبلنا فعلوا ما تفعلونه ذات مرة -لأولئك الذين جاؤوا قبلكم. إننا ندين جرائمكم. يجب أن نفعل، هذه مسؤوليتنا، تمامًا كما أدنا الجرائم التي تشوه ماضينا”.
ثمة كل أنواع الاعتبارات الجيوسياسية التي تجعل هذا الانقلاب في الموقف غير مرجح -إن لم يكن مستحيلاً- في الوقت الحالي. من المعقول تمامًا أن تكون القيادة السياسية في برلين متواطئة بينما تتلاعب إسرائيل بالحساسيات الضعيفة للألمان من أجل الحفاظ على الدعم الشعبي لنظام الفصل العنصري. ولكن في عالم أفضل، سيكون ما تخيلته للتو هو رد ألمانيا المصحَّح على إسرائيل والوحش البشع الذي صنعته من نفسها. وفي عالم أفضل من هذا العالم، ستقود ألمانيا الطريق. وفي هذا سنجد عدالة شعرية رائعة: إن ما يجب على ألمانيا أن تفعله هو ما يجب أن تفعله بقية الغرب.
سوف يعني هذا التصرف بدافع المسؤولية ضد خطأ أو خديعة الذنب. سوف يتم نزع سلاح الدولة الأكثر خزيًا في العالم، وربما تشرع البشرية في استعادة نفسها.
*باتريك لورانس Patrick Lawrence: مراسل صحفي في الخارج لسنوات عديدة، بشكل رئيسي لصحيفة “إنترناشيونال هيرالد تريبيون”، وناقد إعلامي وكاتب مقالات ومؤلف ومحاضر. كتابه الجديد، “الصحفيون وظلالهم” صدر الآن عن “كلاريتي برس”.
*نشر هذا المقال تحت عنوان: Guilt and Responsibility: The Case of Germany and Israel
**بوابة براندنبورغ Brandenburg Gate: هي معلم مشهور في برلين، ألمانيا. وهي نصب تذكاري كلاسيكي يعود للقرن الثامن عشر وأصبح رمزا للمدينة والوحدة الألمانية.
المصدر: الغد الأردنية/(شير بوست)