د_ عبد الله تركماني
ترتبت على وحشية النظام، وسلبية المجتمع الدولي، والتدخلات الخارجية، عدة ظواهر:
1 – تمزُّق مجتمع السوريين وتفكُّك دولتهم، بعد تحوُّل سورية إلى ساحة مفتوحة للصراعات الدولية والإقليمية على المشرق العربي، بمعزل عن مصالح السوريين. وبعد تصدُّر الجماعات المسلحة المتطرفة والتكفيرية، التي تتغطى بالإسلام، والتي يصعب التمييز بين كونها معطى داخلياً، وبين كونها معطى خارجياً، أو كنتاج للتدخلات المخابراتية، الدولية والإقليمية والعربية المتضاربة.
إذ إنّ كل يوم إضافي، في هذا الخراب، يعني مزيداً من الأسوار بين مكوِّنات مجتمع السوريين، ومزيداً من الفجوات بينهم، فمفهوم الشعب، الذي بدا لنا بسيطاً وواضحاً إلى حد البداهة، ليس في حقيقة الأمر كذلك، في مجتمع معقَّد التكوين مثل المجتمع السوري. فمع انفجار الحراك الشعبي في مارس/آذار 2011 نشَّط النظام الاستبدادي أدوات دعايته لتوتير المناخ الاجتماعي، وتحفيز الهواجس والمخاوف الطائفية، وخطط، في إطار الدفاع عن سلطته، لدفع الأوضاع إلى مسارات حرب أهلية، لاعتبارات عديدة، أهمها: تحشيد المكوِّنات الأقلوية حوله، وربط مصيرها بمصيره، وتخويف المجتمع السوري من الثورة، وتخويف المجتمع الدولي من نتائج انتصار الثورة، وأثر ذلك على السوريين من أبناء الأقليات الدينية، وفي هذا السياق، فضح حراك السويداء السلمي المطالب بالحرية والكرامة للشعب السوري من خلال عملية الانتقال السياسي، ذو الأكثرية الدرزية، منذ ثمانية أشهر ادعاءات النظام.
وقد أضاف ظهور الحركات الإسلامية المتطرفة بُعداً متفجراً على تمزُّق مجتمع السوريين، حيث أثارت البرامج والمشاريع السياسية لهذه الحركات، من ” الولاء والبراء ” إلى إقامة دولة الخلافة الإسلامية، وسياستها المحكومة بمعايير متشددة، بما في ذلك قتل المرتد ورجم الزاني وقطع يد السارق … إلخ، أثارت هواجس ومخاوف الكثيرين.
- – تبدُّلات الديمغرافيا السورية وخيار التقسيم
يسعى النظام إلى الضغط على جميع سكان المناطق المناهضة له بشتى الوسائل، من الترهيب إلى التجويع، دافعاً بهم إلى مغادرة مناطقهم، بهدف إخلاء المنطقة التي يصرُّ على الاحتفاظ بها من ضمن ما يسمى ” سورية المفيدة ” من أية مجموعات معارضة له، على غرار ما فعله في الزبداني، من خلال سعيه لاستبدال سكان المنطقة بأهل قريتي ” الفوعة ” و ” كفريا ” الشيعيتن في ريف إدلب. وكذلك تفريغ غلاف دمشق من سكانه السوريين، كما حصل في جنوب المدينة وريفها الغربي، وإحلال أهالي الميليشيات الإيرانية القادمين من العراق ولبنان وأفغانستان وباكستان مكانهم، ومنع سكانها السوريين والفلسطينيين من العودة إليها، مما يعكس أهدافه في تغيير خرائط ديمغرافية في عدد من المناطق السورية.
إنّ التحركات السكانية واسعة النطاق لم تكن مجرد نتيجة ثانوية أسفرت عنها الحرب الأهلية، بل تمثل استراتيجيات تطهير عرقي واعية تنفذها أطراف عديدة. فقد تقاطعت وتضاربت مصالح دول إقليمية وقوى دولية، وتعارضت والتقت، فإيران تسعى إلى الحفاظ على النظام، بهدف الحفاظ على مناطق نفوذها وامتداده إلى البحر المتوسط، عبر حزب الله، أداتها في لبنان الذي تدعمه لوجستياً عن طريق الأراضي السورية، وأيُّ سقوط للنظام هو سقوط للمصالح الإيرانية هناك.
- – كارثة اللجوء السوري
لا يقتصر النزيف البشري السوري على المناطق الخاضعة للمعارضة، بل يشمل المدن والتجمعات السكانية الكبرى التي ما زالت تحت سيطرة قوات النظام والمليشيات الموالية له. إذ تشير المعطيات المتعلقة بهجرة السوريين إلى أنّ الحاضنة الشعبية والمجتمعات الحاضنة للنظام هي بدورها تنزف، إذ أنّ نحو 50% من المهاجرين ليسوا من جمهور الثورة ولا من المجتمعات الحاضنة لها، بل إنّ نسبة كبيرة من هؤلاء ينتمون إلى المكوِّنات الأقلوية على تنوُّعها، اندفعوا نحو الهجرة، بعدما مسَّتهم الأوضاع الاقتصادية المتردية في البلاد، وطمعاً بحياة أفضل، وشعوراً من قبل بعضهم بعدم الاطمئنان إلى مآل الحرب الأهلية، ومن بين هؤلاء مقاتلون سابقون أيضاً من الشبيحة والمليشيات الموالية للنظام.
4 – ابتذال مفهوم سيادة الدولة السورية
لم يُبتذَلْ مفهوم سيادة الدولة بقدر ابتذاله، أو استخدامه، في القضية السورية، في بلاد ابتُذِل فيها كل شيء، فالدولة قُضِمت، وأضحت مجرد نظام أو سلطة. إذ إنّ فكرة السيادة هنا تفتقر إلى الركنين اللازمين، من زاوية الفكر القانوني الدولي: أولهما، التزام الحاكم بالدستور، أي بالعقد الاجتماعي. وثانيهما، وجود مواطنين بمعنى الكلمة يتمتعون بالحقوق والواجبات المتساوية. الأمر الذي يطرح التساؤل حول مضمون كلمة وطنية هنا، المقترنة بالسيادة، إلا إذا كان القصد منها الدلالة على الحاكم، الذي اختزل المواطنين والوطن بشخصه، بل استدعى الاحتلالين الإيراني والروسي.
ويأتي ضمن المخاطر، أيضاً، ضعف قدرة السوريين على توليد آلية مناسبة لإنتاج طبقة سياسية، أو مرجعية سياسية، تتولى إدارة أية عملية سياسية انتقالية في البلد. والمشكلة أننا نتحدث عن ذلك بعد مرور ثلاثة عشر عاماً على الثورة، في حين أنّ هذه مازالت تعاني الافتقاد لأطر ذات مشروعية، ومرجعيات قيادية.
ومن بين العوامل الذاتية، ضربٌ من اللاعقلانية، أصاب ممثلي الثورة، أو لعله غلب على جزء غير يسير منهم، تجلى في الرغبوية والإرادوية والنزعات التبريرية. أدى ذلك إلى انتشار واسع لتحليلات تبسيطية سطحية، ورواج الكثير من المعطيات الكاذبة، التي تقود الناس إلى استنتاجات مزيفة لا تعِد إلا بالأوهام.
وفي هذا السياق يبدو وجود مشروعين معلنين ومتناقضين للثورة على النظام: أولهما، مشروع الثورة المدنية الذي سعى النظام، بكل قوته، إلى تدمير أسسه، وتشريد حاضنته الشعبية وحوامله من النخب المدينية ونخب الطبقة الوسطى، تنفيذاً لخطته في تصوير الثورة على أنها حركة تمرد طائفية، لعزلها ونزع الشرعية عنها. وثانيهما، مشروع الحركة الجهادية الذي تعزَّز، مع مرور الوقت، وتوافد المجاهدين الأجانب وتوسُّع انتشار الثورة داخل الأرياف والمدن الصغيرة، وتلقِّيها المزيد من المعونات والدعم من المحيط العربي والإسلامي.