حسام جزماتي
قبل أن تكبر الاحتجاجات ضد قائد “هيئة تحرير الشام” وجهازه الأمني، عمل الرصّاد الذين ينتسبون إلى الأخير على مراقبة التظاهرات التي كانت قليلة، وتحديد نسب المشاركين فيها من “حزب التحرير” الإسلامي، وعناصر الفصائل، والأطفال الذين شكّلوا، وفق تقديرات المخبرين الملتحين، من 10-20% من الهاتفين في الشوارع، تدفعهم الرغبة في استكشاف نشاط جديد والبحث عن الحيوية خارج البيت، أو جاؤوا برفقة آبائهم.
وكانت هذه إحدى حجج “الإعلام الرديف”، المؤيد لأبي محمد الجولاني، على عشوائية الحراك وغوغائيته وقلة تأثيره في نظرهم، قبل أن يتسع الخرق وتضطر قيادة “الهيئة” إلى الاستعانة بجناحها العسكري ليقطع الطرق بين مدينة إدلب وأريافها، ونشر الدوريات داخل المدن منعاً لتجمّع تظاهرات مركزية تهز نهائياً صورة سيطرة الجماعة على المناطق التي تسيطر عليها.
في الواقع ينتمي أكثر المحتجين إلى عقد الثلاثينيات من العمر، بحسب ما تدل مئات المقاطع المصوّرة التي بثوها، وهم يرجعون، بالتالي، إلى جيل عاصر الثورة وهو في مطلع عشرينياته تقريباً، يحتفظ بذكريات القمع الذي مارسه النظام قبل انسحاب قواته، ومن هنا تطابقت في أذهانهم تلك الصور مع قريناتها المستجدة من أفعال المنتسبين إلى “الهيئة”، ووجدوا أنه من بدهيّات الأشياء أن يشملوا اللاحقين بوصف السابقين المعروف “شبّيحة”، بالنظر إلى اشتراك الجهتين في قمع المحتجين السلميين بطرق متفلتة من الضوابط.
في الضفة الأخرى يثير هذا اللفظ درجات عالية من الاستفزاز عند من يوسمون به اليوم. ويقع على أسماعهم باستهجان بما أنهم يعتقدون أنه خاص برجال بشار الأسد ومن والاه، وذلك باعتبار أن أكثرية أفراد الجناح العسكري، على مستوى القواعد، هم في النصف الأول من عشرينياتهم، ولا يتذكرون بصورة جيدة أعوام الثورة الأولى عندما كانوا أطفالاً، فقد نشؤوا وتشكّل وعيهم وخبراتهم في مناطق محرّرة يقودها الجولاني منذ سنوات كافية ليترسخ وجوده عندهم.
وفضلاً عن هذه الأجيال الثلاثة؛ الأطفال اللاهون الذين يتعلمون أبجدية الاعتراض، والثوار والجهاديون الذين قسا عودهم وجددوا نشاطهم، والأغرار من جنود “الهيئة”؛ زجّت الأخيرة بجيل رابع أعطاه إعلامها الرسمي أهمية بالغة مؤخراً، إذ يسميهم “الوجهاء” أو “الأعيان” ويصورهم في تجمعات تظهر رغبتهم في الحفاظ على الوضع القائم. يؤيدون “المطالب المحقة” لكنهم يثقون بمسيرة “الإصلاحات” التي وعدت بها “القيادة”، ويبدون قلقهم من “الفتنة” التي يوقظها الثائرون وستؤدي غالباً إلى “الفوضى” وإسالة الدماء.
ينتمي هؤلاء إلى عمر الخمسين وما حولها غالباً. يرتدون بدلات رسمية شائخة تحزم كروشهم ويطلقون لحى خالطها الشيب. يجمعهم الجولاني كلما احتاج إلى أن يُظهر الانفتاح والاهتمام لآراء الناس، فيُسمعونه ما يطيب له أو ما لا يزعجه جدياً على الأقل، لا يكذبون بالضرورة في ذلك لأنهم أبناء الاستقرار أو قل آباؤه بالأحرى، فهم من أصحاب المكانة الاجتماعية أو العشائرية أو المشيخية أو المالية أو التعليمية، ممن يميل تلقائياً إلى تدعيم أركان أي بنية بطريركية قوية.
ولهذا لم يكن مستهجناً، بينهم، أن أحدهم شجّع الجولاني، القاعد في صدر المجلس، على قمع المتظاهرين قياساً على ضرب المرأة الناشز بعد وعظها وهجرانها في المضاجع، وهو استدلال أثار كثيراً من الاستنكار والسخرية خارج ذلك المحفل.
لا يقدّم هؤلاء السند الرمزي لقائد “الهيئة” وجهازه الأمني فحسب، بل يمدّون فوقهما غطاء من الشرعية حين تنسب الجماعة إليهم أنهم طلبوا منها التدخل لحماية مناطقهم من القلاقل التي يثيرها متظاهرون “غرباء”، ولذلك عمدت إلى قطع الطرقات ومنع تنقل الجموع بين المدن والبلدات، وأكثر من الأجيال المشار إليها أعلاه يتحمّل هذا الجيل “المعتّق” مسؤولية كاملة عما يمارسه من مواقف وبيانات.
ربما يرسم ما سبق صورة نمطية للثورة والثورة المضادة، التي تتكون من طبقة ناضجة عمرياً تنتمي إلى السلطة أو تشاركها أو تجاورها أو تسكت عنها، ومن شريحة من مقاتلين فتيان عليهم السمع والطاعة ولهم الاعتداد بسطوة السلاح، وسيكون نموذجياً لو اجتمع فيهم ضعف التعليم، إثر تعثره الكبير في سوريا، والحاجة إلى الراتب في بيئة صارت تعدّ القتال إحدى المهن القائمة بعد ارتفاع معدلات البطالة.
غير أن هذين الركنين البشريين ليسا صالحين للاستعمال لوقت طويل جداً في الظروف الراهنة لإدلب، ولذلك يسابق الجولاني الزمن. فمن جهة يتعرض “الوجهاء” لضغط اجتماعي من محيطهم وبعض أقرانهم، فليس كل الشيّاب متواطئين، ومن جهة أخرى تخترق أصوات شرعيّي الحراك أسوار مقار “الهيئة” منبّهة الجنود إلى حرمة دم الإخوة، لا سيما أن من يواجهونهم هم من أبناء العمومة أو البلدة، ويوماً بعد يوم تتراكم علامات تراجع بعضهم عن تغطية الجريمة، وتلكؤ آخرين عن المشاركة في تنفيذها بأيديهم.
لم تصل أعداد المتظاهرين إلى المستوى العارم الذي لا رجعة عنه بعد، لكن مطالبهم فعلت، وبات يمكن القول إن تحجيم الجهاز الأمني، وشفافية إجراءات الاعتقال وخضوعها للقوانين، وتشكيل مجلس شورى حقيقي يطوّق الحكم الفردي؛ باتت من المطالب المجمع عليها في عموم المنطقة، ولا يفعل كثير من المتمهلين سوى الصبر على تنفيذها كما وعدت قيادة “الهيئة” التي صارت متهمة بالتلاعب لدى الأغلبية، ولا تملك إلا هامش مناورة يضيق يوماً إثر يوم، ووسائل قمعية يزداد انكشافها وحرج استخدامها باطراد.
المصدر: تلفزيون سوريا