معقل زهور عدي
حول منشأ القومية في أوربة:
يبدأ ساطع الحصري من بزوغ الفكرة القومية في القرن التاسع عشر في اوربة , هذا القرن الذي يعتبر بحق عصر القوميات , فالفكرة القومية عند الحصري ولدت في اوربة بدون جدال , لكن ولادتها في اوربة لاتعني أن أوربة قد اصطنعت تلك الرابطة بل كشفت عن وجودها المستقل والذي يمتد قبل القرن التاسع عشر بكثير , لكنها كانت رابطة شبه طبيعية تشبه رابطة العائلة والقبيلة , أي أنها لم تدخل حيز الوعي الانساني وبالتالي لم تنتقل نحو الفكر السياسي ومن ثم نحو الفعل الواعي في التاريخ .
ذلك أول خطأ يقع فيه نقاد ” القومية العربية ” في اتهامهم لها أنها ليست سوى نسخة عن ” القومية الأوربية ” التي انتهى عصرها والتي لا أساس لها في الواقع العربي .
كل مافي الأمر أن تلك الرابطة الاجتماعية الطبيعية التي وجدت عند مرحلة معينة من تطور المجتمع البشري في كل مكان , في أوربة كما في آسيا وأفريقيا .. كانت معروفة بصفتها ظاهرة طبيعية , فالعرب معروفون منذ ماقبل التاريخ باسمهم وبجزيرتهم ولغتهم وعالمهم الذي يشمل بلاد الشام والعراق واليمن ,وسائر الجزيرة العربية ( قبل أن تتسع العروبة نحو مصر وشمال أفريقيا والأندلس) وكذلك الترك والفرس والأحباش …الخ . لكن تلك الظاهرة لم تكن فاعلة في سياسات الدول إلى الحد الذي أصبحت فيه في اوربة القاعدة الاجتماعية القانونية لرسم حدود الدول اعتبارا من القرن التاسع عشر .
من حالة الهوية الطبيعية الخارجة عن الارادة الانسانية انتقلت القومية إلى حالة الوعي الانساني المرتبط مع الفعل السياسي في اوربة أولا قبل أي مكان آخر, وذلك أمر طبيعي تماما , فالحضارة الأوربية قد أصبحت حتى قبل ذلك التاريخ الحضارة الأكثر تقدما في تاريخ الانسانية , فضلا عن تبلور ملامحها العالمية التي لايمكن أن يجادل أي عاقل يعيش العصر في الانطلاق من انجازاتها الفكرية والعلمية .
هكذا يبدأ الحصري بحثه من مفهوم القومية الأوربي فيشير إلى أن حدود الدول في أوربة لم تكن ترسم وفق القوميات قبل القرن التاسع عشر , بالتالي فما فعلته القومية أنها أعادت رسم حدود الدول وفق المعطى القومي وليس وفق أي معطى آخر فلم يعد للدين والمذهب ماكان له من دور حين أقيمت الامبراطورية الرومانية المقدسة على أساس المسيحية فوق أراض ألمانية وفرنسية وايطالية ويونانية وغيرها قبل أن تنقسم إلى شرقية أرثذوكسية وغربية كاثوليكية , وأصبح من حق القوميات التي وجدت داخل الامبراطوريات بالقوة أن تطالب باستقلالها بدولة خاصة بها وأن تكون مطالبتها منسجمة مع المفاهيم السائدة في ذلك العصر .
في الحقيقة فإن ذلك مازال ساريا حتى الآن , وكل الدول التي خرجت من رحم الاتحاد السوفييتي المنهار رسمت حدودها على أساس قومي , كما أن جذر الصراع اليوم بين روسيا وأوكرانيا يمتد في العمق إلى أن روسيا لم تعترف بالقومية الاوكرانية اعترافا تاما بل بقيت تنظر لتلك القومية باعتبارها ليست سوى قومية روسية منشقة وأن تشكيلها في دولة كان خطأ البلاشفة الروس الذين أرادوا إظهار التزامهم بمبادئهم في حق الأمم في تقرير مصيرها كما نوه بذلك بوتين .
صحيح أن القرن التاسع عشر كان عصر القوميات , لكن مامعنى ذلك ؟ هل ذلك يعني أنه بانتهاء القرن التاسع عشر أصبحت قضية القوميات خارج التاريخ الأوربي بل التاريخ العالمي كما يظن البعض ؟
أم أنه يعني أن عصر اكتشاف الرابطة القومية وانتقالها لحيز الوعي السياسي , وتبلورها كأساس لتشكيل الدول , دون أن يعني ذلك أنه تم استهلاكها أوربيا مع انتهاء ذلك العصر بحيث أصبحت نظرية رجعية لافائدة منها ؟
هل أتمت أوربة تشكلها القومي مع انتهاء القرن التاسع عشر ؟
صحيح أن دولا مركزية في اوربة قد أعيد تشكلها بحروب داخلية كما في ألمانيا بسمارك , أو حروب خارجية ( حروب نابليون بونابرت ) لكن ذلك التشكل لم يكن قط نهائيا بل إن قوميات عديدة اضطرت للانتظار في أوربة حتى نهاية الحرب العالمية الأولى لتعبر عن نفسها بدول مستقلة , فالامبراطورية النمسااوية – المجرية ظلت قائمة حتى نهاية الحرب وحين خسرتها أمام الحلفاء عام 1918 خرج من أحشائها كدول قومية مستقلة كل من المجر , وتشيكوسلوفاكيا وسلوفينيا وكرواتيا .
بقي الخلاف بين فرنسا وألمانيا على مقاطعتي الالزاس واللورين حتى انتهاء الحرب العالمية الثانية 1945 حين استعادته فرنسا بعد هزيمة الألمان .
لايريد الليبراليون السوريون الذين ينظرون للقومية باعتبارأنها ماتت في اوربة مع القرن التاسع عشر النظر إلى الدول الحديثة التي ظهرت مع انهيار الاتحاد السوفييتي والمعسكر الشرقي والتي عكست حدودها حدود القوميات مع تعديلات طفيفة بسبب تداخل القوميات أحيانا.
ولقد جرى ذلك منذ فترة زمنية قصيرة فكيف يمكن القول إن فكرة القوميات قد انتهت مع نهاية القرن التاسع عشر؟