د-زكريا ملاحفجي
يتسابق العالم اليوم في تطوير أدوات الحكم وأساليب التنمية، والطريقة الأرشد والأكمل لنظام الحكم ويتحدث عن الحكم الرشيد، ذاك المفهوم الحديث الذي ذاع صيته وانتشر إلى حد أصبح محوراً أساسياً في كافة النقاشات على المستوى الدولي في مجال الحكم والتنمية، ولأنه يرتبط بالموارد العامة في أي دولة وكيفية الاستفادة منها، وعلاقة ذلك بقضية التنمية، فلن تنهض دولة إلا إذا امتلكت حكومتها وقيادتها ثلاثة أمور (الرؤية والرغبة والقدرة)، ولن تتمكن من تحقيق تطلعات شعوبها إلا إذا طبقت مبادئ الحكم الرشيد، والمتابع لواقعنا اليوم يجد أننا أحوج ما نكون بحاجة إلى الحكم الرشيد بظل ما نعيشه من تخبط وضياع وتبديد للموارد الطبيعية والبشرية ينجم عنه فقر وتعثر وسخط، واحتجاجات، وعدم استقرار، رغم أننا نستعمل هذه المفردات دون مضمونها لنوهم الناس بذلك، وما كان للشعوب أن تحتج وتشهد احتجاجات لو أنها شهدت ذلك عملياُ وليس قولياً، فالشعوب تركز دوماً على مطالب رئيسة هامة تمثلت في حقها في (العيش والحرية والكرامة الانسانية والعدالة الاجتماعية)، وهذه الأركان الأربعة جاءت صراحة ضمن مضمون واضح للأمم المتحدة طالبت به كافة الدول في كافة أنحاء العالم بالسعي لتحقيقه وتطبيقه حتى تصبح هذه الدول دولاً متطورة بكل معني الكلمة وهو ما أطلقت عليه بالحكم الرشيد
ولكن ما هو الحكم الرشيد الذي تراه الأمم المتحدة؟
وإن العديد من المنظمات الدولية اليوم تحاول تجاوز منظومة الديمقراطية المجردة إلى فكرة الحكم الرشيدGood Governance
فإذا عدنا إلى أبسط تعريف للديمقراطية كما هو شائع بأنها حكم الشعب نفسه بنفسه ولنفسه، أما الحكم الرشيد فالمنطلق الباعث له التنمية التي عرّفها البرنامج الإنمائي للأمم المتحدة، أنها تنمية الناس من أجل الناس بواسطة الناس، وتنمية الناس معناها الاستثمار في قدرات البشر في جميع المجالات، حتى يكون بمقدورهم العمل على نحو منتج وخلاق، والتنمية من أجل الناس معناها كفالة توزيع ثمار التنمية المتحققة توزيعاً عادلاً على أوسع نطاق، أما التنمية بوساطة الناس، فهي تعني إعطاء كل شخص فرصة المشاركة فيها، وبصورة أخرى فإن الحكم الرشيد جاء ليضفي على الحكم الديمقراطي منطلق دولة القانون وبعداً عقلانياً إنسانياً يحقق الهدف من فكرة الحكم المتمثلة بتوفير المناخ للتنمية الإنسانية من خلالهم ولأجلهم.
ولابد من التفرقة بين مصطلحين مختلفين هما، أسلوب الحكم والحكم الرشـيد، حيث إنّ أسلوب الحكم يعني مجموعة من القواعد والمؤسسات والعمليات التي تمـارس مـن خلالها السلطة في الدولة، وهي إذن تتصل بالسياسة والأبعاد السياسية بالمعنى الشـامل، أمـا الحكم الرشيد فإنه يتعلق بدراسة العناصر التي تجعل تلـك الآليـات والقواعـد المؤسسـية والعمليات تتسم بالفعالية، كحكم القانون، رشادة عملية صنع القرار، الشفافية، المسـاءلة، المشاركة، التمكين، حقوق الإنسان.
ويعرف البنك الدولي مفهوم الحكم الرشيد بأنها “الطريقة التي تباشر بها السلطة في إدارة موارد الدولة الاقتصادية والاجتماعية بهدف تحقيق التنمية ويبدو جلياً أن هذا المفهوم يتسع لأجهزة الحكومة كما يضم غيرها من المؤسسات المحلية ومؤسسات المجتمع المدني.
ويمكن القول بأن الحكم الرشيد هو الحكم الذي يتسم من بين جملة أمور أخرى بالمشاركة والشفافية والمساءلة، ويكون فعالاً ومنصفاً ويُعزز سيادة القانون، ويكفل وضع الأسبقيات السياسية والاجتماعية والاقتصادية على أساس توافق آراء واسعة النطاق في المجتمع، تسمع فيه أصوات الفئات الأكثر ضعفا وفقراً في صنع القرارات المرتبطة بتوزيع موارد التنمية
فالحكم الرشيد كما تراه الامم المتحدة هو ما توافرت فيه الشروط التالية:
1- حكم القانون يتعين أن تتسم الأطر القانونية بالعدالة وأن تطبق دون تحيز، وينطبق ذلك بصفة خاصة على القوانين الحامية لحقوق الإنسان
2- الشفافية تستند الشفافية على التدفق الحر للمعلومات، وعلى أن تنفتح المؤسسات والعمليات المجتمعية مباشرة للمهتمين بها، وأن تتوفر المعلومات الكافية لتفهمها ومراقبتها
3- المسؤولية أي أن تتضافر كل جهود الدولة لخدمة مواطنيها وتوفير الحياة الرغدة لهم بقدر المستطاع
4- بناء التوافق: يعمل الحكم الصالح على التوفيق بين المصالح المختلفة للتوصل إلى توافق واسع على ما يشكل أفضل مصلحة للجماعة
5- المساواة تتوفر للنساء والرجال الفرص كافة لتحسين رفاهيتهم وحمايتهم
6- الفعالية والكفاءة تنتج المؤسسات والعمليات نتائج تشبع الاحتياجات مع تحقيق أفضل استخدام للموارد البشرية والمالية
7- المساءلة: يتعين أن يكون متخذو القرار في الحكومة، والقطاع الخاص، والمجتمع المدني خاضعين للمساءلة
8- الرؤية الاستراتيجية يمتلك القادة والجمهور منظورا واسعاً للحكم الرشيد والتنمية الإنسانية ومتطلباتها، مع تفهم السياق التاريخي والثقافي والاجتماعي المركب لهذا المنظور
وبعبارة أخرى يمكن تلخيص الحكم الرشيد بأنه:
تنمية مستدامة = سيادة قانون = إدارة قوية = شرعية = فعالية تطبيق القانون = مجتمع قابل للتغيير والتطور= مشاركة فاعلة
فنحن أحوج ما نكون لاسيما بواقعنا السوري المتعثر جداً، إلى ترسيخ حالة الحكم الرشيد وأساسياته في هذا الواقع ولو بشكل محلي للمنطقة المتاحة، لاسيما تعيش هذه المنطقة تعثر على كل الأصعدة، رغم انزياح هيمنة السلطة السياسية عليها لكن بقيت حالة التعثر والضياع الإداري وغياب الرشد في الحكم وإدارة شؤون الناس.
فالحديث عن الحكم الرشيد ليس على سبيل التنظير وإنما على سبيل التطبيق والسعي الحثيث الجاد لتخفيف وطأة الظروف التي يعيشها الناس، بظل واقع صعب ومتعثر ومستقبل مهدد بجوانب كثيرة فكيف سنذهب للمستقبل بأكثر من مليون طفل متسرب من التعليم في المنطقة!
فأي حكم رشيد ممكن نتحدث عنه دون تطبيق حقيقي وجاد، وأي مستقبل ينتظرنا.
المصدر: الوعي السوري