توفي الوكيل المتقاعد من الدفاع المدني الأردني، أحمد عاهد المحاميد، قبل أيام، فاكتشف ذووه أنّه كان قد حصل قبل وفاته بأسابيع على قرض الإسكان العسكري الذي يُمنح للمتقاعدين تقديراً لهم على سنوات خدمتهم في السلك العسكري، وقيمته 15 ألف دينار أردني (نحو 21 ألف دولار)، فتبرّع به كاملاً لأهل قطاع غزّة من دون أن يُعلِم بذلك أحداً.
ومثل موقف المحاميد النبيل ثمّة مواقف لا تحصى تجلّت في امتداد العالم العربي، قام بها أفراد كلّ بحسب استطاعته، للتعبير، لا عن دعم غزّة، فتلك كلمة قاصرة عن وصف الحقيقة، بل للقول إنّ غزّة تخوض معركة العصر نيابة عن الأمّةِ، أو إن الأمّةَ كلّها تخوض معركتها من بوابة غزّة. وهو ما كثّفه بائع الخضار المصري، عم ربيع، حين راح يرمي حبّات البرتقال من عربته الجوالة على شاحنات المساعدات المُتَّجهة من القاهرة إلى غزّة في فبراير/ شباط الماضي، وهو يصيح “سلّمولي على الحبايب”.
سيقول قائل: ماذا إذن عن ذلك النكوص كلّه الذي نشهده واضحاً جليّاً في البلاد العربية عن التعاطي مع الحرب على غزّة باعتبارها شأناً يمسّ كلّ عربي؟ وعن تلك الأصوات العربية العالية القائلة إنّ القضية الفلسطينية شأن فلسطيني خاصّ ولا رابط بينها وبين باقي العرب؟ ثمّ عن أولئك الناعقين إنّ الفلسطينيين يتحمّلون عبء المقتلة التي يتعرّضون لها، بدعوى أنّ إسرائيل لم تبدأ واقعة 7 أكتوبر (2023)؟ وسوى ذاك بعض العرب الذين يقولون إن الفلسطينيين باعوا أرضهم قبل 1948 فباتت حقاًّ للمهاجرين اليهود، ومن يقولون إنّ أرض فلسطين حقّ تاريخي لبني إسرائيل؟
يجيبنا القرآن الكريم ببساطة في مفتتح سوره وآياته، دليلاً على عظم الأمر وأهميته، فيقول في الآية الثامنة من سورة البقرة: “وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ”. وهذه ليست إجابة دينية، ولا ترد هنا باعتبارها عِظَةً إسلامية، بل مسألة تاريخية، فالقرآن إنّما يشير هنا إلى قضية ترافقت وبدايات دعوة الإسلام، فنراه يحمل على الذين ظاهرهم الإسلام وباطنهم الكفر، منذ آياته الأولى، معتبراً أنهم “يخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا”. ومثل أولئك في كلّ ثورة عبر التاريخ، ثمّة من ظاهرهم الانتماء لها وباطنهم التربّص بها.
وما الانتماء إلى “الأمّةِ” عن هذا ببعيد، فثمّة من ظاهرهم الانتماء للعروبة والإيمان بقضاياها، وباطنهم كراهية فكرة الأمّة العربية” والكفر بها لصالح القطريات الصغيرة التي يحققون من خلالها مصالحهم الشخصية، ويُعبرّون بفضلها عن عنصرياتهم، ويحتمون بها من وجود أمّة متعاضدة تدافع عن حقوقها ووجودها ولا تقبل الظلم والضيم. فليس مستغرباً أن تظهر حقيقتهم من فلتات ألسنتهم، ومن مواقفهم المخزية ضدّ حرب الإبادة التي يتعرّض لها الفلسطينيون في غزّة بعد تواصل تعرّضهم لحرب التشريد وسرقة الأرض ومصادرة المستقبل والحياة الطبيعية. تقول الحكمة المتداولة إنّ الزمن لا يُغيّر أحداً، بل يهيئ المواقف التي تظهره على حقيقته، وتكشف ما خفي في نفسه.
بينما تخوض الأمّة معركتها، إذن، ثمّة من يضع العصيّ في دواليبها، وثمّة من يرقص ويغني ويحتفل وكأن الأمر لا يستحق الصمت في أقلّ تقدير، احتراماً للأرواح التي أُزهِقت والدماء التي أُريقت. يُودّ هؤلاء القول إنّ الأمر لا يعنيهم، وإنّهم ليسوا جزءاً من المعركة، غير أنّ هذا الحال ليس مُستغرَباً هو الآخر، فحين تخوض الأمّة معركتها الحقيقية يكون طبيعيّاً أن ينبري خصومها لمواجهتها، لكنّهم سيظهرون في مراحل تبدأ بالخصوم المعروفين، ثمّ حلفائهم، فأنصارهم، حتّى يضطرّ الخصوم غير الظاهرين للكشف عن أنفسهم. كلّما طالت المعركة تبينت حقيقة القوم أكثر.
لكن، ما يجب أن نثق به أنّ هؤلاء ليسوا أغلبية الأمّة التي تؤمن بذاتها ومستقبلها وتعرف قضاياها. الأمّة هي أولئك الناس الذين يتابعون الأخبار بقلق، ويشاركون أهل غزّة مُصابَهم، ويحاولون دعمهم ما استطاعوا، سواء بمقاطعة البضائع التي اتفقوا أنّ أصحابها يدعمون الدولة الصهيونية، أو بإعلان مواقفهم المناصرة لغزّة كلّما تمكنوا من ذلك، كما فعلت مثلاً فتاة مغربية لبست كوفية فلسطينية يوم تكريمها ضمن الطلبة المتفوقين، مطلع الشهر الحالي (يوليو/ تمّوز) في إحدى جامعات الدار البيضاء، فلاقت تقريعاً من عميد كلية رفض تسليمها الشهادة بدعوى أنّها “تمارس السياسة”، قبل أن تستجيب إدارة الكلية لاستهجان الحاضرين وتُسلّمها شهادتها بالتزامن مع انسحاب ذلك العميد من الحفل.
هذه المواقف من الأمّة، تختلف عن تلك التي يتّخذها الشرفاء حول العالم الداعمون للحقوق الفلسطينية، الرافضون لتدمير غزّة وإبادة أهلها، الساخطون على عنصرية إسرائيل وهمجيتها بعد عقود طويلة من مناصرتها. الفارق أنّ هؤلاء الشرفاء يدعمون قضية إنسانية وحقوقاً طبيعية، أمّا الأمّة وأبناؤها فالأمر أمرهم والمعركة معركتهم. الحرب على غزّة تمسّ مستقبلهم، والقضية الفلسطينية جزء من قضية التحرّر والانعتاق من الإمبريالية والاستبداد التي خاضوها في مراحل، كان آخرها ثورات الربيع العربي، ومقدّمة لتحقيق حلم الخروج من التأخّر الحضاري التاريخي والالتحاق بركب الأمم الناهضة. هذا كلّه ما يجعل الأمّةَ أمّةً حقَاً؛ الهمّ الواحد والحلم الواحد، فلا تبتئسوا من أقوال الناعقين لأنّهم لم يكونوا منّا يوماً، ولن يكونوا.
المصدر: العربي الجديد