د- عبدالله تركماني
وهكذا، تمرُّ التنشئة السياسية عبر قنوات ثلاث أساسية، تتعاضد فيما بينها وتتكامل أهدافها، وهي:
(1) – الأسرة، باعتبارها المجال الأول حيث تتحدّد ملامح شخصية الفرد. إذ يبدأ الفرد في اكتساب القيم والرموز عبر التوجّهات، المباشرة وغير المباشرة، التي تحكم وجوده داخل الأسرة، والتي تنظّم علاقاته وتفاعلاته مع أفراد العائلة وتقاليدها وأعرافها. وبحكم أهمية السنوات الأولى في تكوين شخصية الفرد فإنّ ما يكتسبه في مؤسسة الأسرة سيمتدُّ أثره، إيجاباً أو سلباً، على تفكيره وسلوكه فيما بعد طفولته الأولى، حينما ينضمُّ إلى نسيج مؤسسات أخرى غير الأسرة. ولعلَّ ذلك ما يجعل من التربية داخل الأسرة أحد أسس كل تنشئة، فدور الأسرة في الإسهام بالتنشئة السياسية دور أساسي، بحيث يصعب – مبدئياً – إقامة نظام ديمقراطي انطلاقاً من تربية أسرية غير ديمقراطية. ولكنّ هذا لا يعني أنّ التربية الأسرية تتسم بالجمود ولا تتطوّر، وقد بيّنت التجربة أنه بالإمكان تغيير مجموع الأوضاع الاجتماعية بفعل تغيير الثقافة السياسية من قبل السلطة السياسية نفسها.
(2) – المدرسة، باعتبارها أداة لتحرير العقل من كل أشكال الضيق والانغلاق والتحجّر. فإذا أدركنا أنّ الطفل هو الثروة الأساسية والحقيقية للوطن، ومن ثم فإنّ تنمية قدراته الخلاقة وإمكانياته المبدعة هي الهدف الأسمى لأية عملية تنشئة صحيحة، تطلّب ذلك العمل على تطوير فكره وإنضاج عقله، وتكوين شخصيته منذ الصغر، وبالتالي إعداده ليكون المواطن الصالح للحياة المستقبلية. ويشترط ذلك أن تنطوي برامج التعليم على ثلاثة أهداف كبرى: التمرّس بالفكر العلمي، والتعبير عن الذات، والاعتراف بالآخر ” الانفتاح على ثقافات ومجتمعات بعيدة عن ثقافته ومجتمعه، سواء من حيث المكان أو الزمان “.
وقد لا نكون بحاجة إلى تبيان العلاقة بين التربية والثقافة، فالعلاقة بينهما باتت واضحة معروفة، وتضرب بجذورها في أعماق الفكر الاجتماعي والإنساني، وتُعَدُّ من حقائق العلم في هذا الميدان، فالثقافة بالنسبة للتربية الإطار العام المحدّد لحركتها وتوجّهاتها، وعلى ضوئها تصوغ فلسفتها، وتستمدُّ غاياتها وأهدافها، والتربية بالنسبة للثقافة: إحدى عناصرها ومكوّناتها، ومقوّماتها، والشرط الضروري لحفظها واستمراريتها ونقلها للأجيال، والعامل الفاعل في تجديدها وتطويرها، وانتقاء عناصرها ذات الفائدة في بناء المجتمع، ونهوضه وتقدّمه، والحفاظ على تماسكه ووحدته، وهويته وذاته الوطنية. فالتربية وإن كانت إحدى عناصر الثقافة إلا أنها بمثابة القلب منها، الذي تتحرّك حوله مختلف العناصر والمنظومات الأخرى، مما يؤكّد أنّ العلاقة بين التربية والثقافة علاقة تفاعل، وتأثير متبادل، بالدرجة التي لا يمكن تصوّر وجود إحداهما دون وجود الأخرى. وقد ازدادت العلاقة وثوقاً، تلاحماً وترابطاً، في ظل التغيّرات والتطوّرات الحادثة ذات التأثير العميق علي مختلف جوانب الحياة الإنسانية.
وتُعَدُّ التربية أحد العناصر المهمة القادرة على توفير هذه الظروف من خلال العمل على تنمية قيم واتجاهات التفاعل والمشاركة والإخاء بين الأمم والشعوب، وتحقيق التفاهم والسلام الدولي، وذلك من خلال (7):
- العمل على تنمية ثقافة الديمقراطية داخل المدرسة، تعميقاً لقيم التسامح والاحترام المتبادل، والتعبير عن الرأي والحوار المثمر وتشجيع التلاميذ على المشاركة في عمليات صنع القرار.
- تنمية قيم المواطنة لدى الشباب، لضمان مشاركتهم الفعّالة في الحياة السياسية، وتحقيق الأهداف المنشودة، والقدرة على نقدها وتقويمها.
(3) – البيئة الاجتماعية والسياسية، حيث تنشط التنظيمات المدنية، ومختلف الهيئات العامّة، التي تعاضد المدرسة والأسرة في تبليغ المعارف، وتركيز السلوكات، وتنمية المواقف، والتدرّب على الممارسة والبناء ضمن الحياة الاجتماعية. فوسائل الإعلام تشكّل بالنسبة إلى الشباب مصدر تلقّي معلومات ونماذج من السلوك والقيم، وبذلك تساهم في تشكيل أذهان الأطفال والشباب وتطلّعاتهم وأنماط سلوكهم، سواء تخصّهم كأفراد أو في علاقتهم مع الآخرين. مما يلزم باستحضارها كمصدر رئيسي للتنشئة المواطنية، بصورة تنسجم مع باقي مصادر هذه التنشئة.
وفي هذا الأطار تبرز أهمية منظمات المجتمع المدني التطوّعية في تدعيم التنشئة السياسية وترقية الحياة إلى مستوى أفضل ، انطلاقا من الإحساس بعمق الانتماء الوطني ومسؤولية المشاركة المجتمعية . مما يعطي هذه المنظمات وجهة تمكّنها من القيام بدور هيئات تنمية تتوسط العلاقة بين السلطة والأفراد، حامية بذلك سلطة الدولة من اندفاع الأفراد والأفراد من تسلّط السلطة ، وهو ما يساعـد – في آخر الأمر – على تحقيق الاعتدال والاتزان في الحياة الاجتماعية والسياسيـة .
وهكذا، فإنّ الإنسان في الدولة العصرية يولد مواطناً ويتفهّم مواطنيته شيئاً فشيئاً، ويستوعب مضامينها ومستلزماتها بالتدريج، بواسطة حياته في الأسرة وفي المدرسة وفي محيطه الاجتماعي، إلى أن يصبح شخصاً مستقلاً، مسؤولاً تمام المسؤولية عن نفسه. إذن، في هذه الأوساط الثلاثة الأساسية تُنحت شخصية الفرد، ويتحدّد مصير المجتمع الذي لا يمكن أن يستقيم ما لم تضطلع هذه الأوساط بدورها في نشر المعرفة بين الناس وتبصير الناشئة بحقائق الأمور، وتربيتها على ما يوجّه الاجتماع الإنساني من احترام للذات البشرية وحقوقها الأساسية، تأصيلاً لحياة مدنية تنبذ العنف، وتقاوم كل أشكال التفرقة والتمييز.
إنّ إعادة اكتشاف الديموقراطية اليوم يعيدنا أولاً إلى إعادة اكتشاف مفهوم المواطن من خلال استحضار مجموعة من الأبعاد التي يحيل إليها هذا المفهـــوم (8):
- – البعد الإنساني: فالمواطن ليس فرداً فحسب، إنه المواطن – الإنسـان، فالمفهوم الحقوقي يحيلنا بالضرورة إلى مفهوم أوسع: مفهوم حقوق الإنسان المفهوم القابل دائماً للتجريد والتعميم، وبالتالي للتطوير كلما برزت عقبة في وجه المساواة والعدالة في مجتمع من المجتمعات. هذا البعد الإنساني، يتطلّب نظرة ثقافية وتربوية تقوم بشكل أساسي على التسامح وتعلّم قبول الآخر والتعامل معه بذهنية أخوّة المواطنة وأخوّة الإنسانية معاً. ولكي ندخل هذا الخلق في مسلكيات المواطن، تبرز أهمية شروط التنشئة الوطنية الإنسانية التي تفترض استيعاب المناهج النقدية في الدراسات الإنسانية: نقد العنصرية والتمييز على اختلاف أشكاله، ونقد العقلية الخرافية، والتعريف بأسباب المسلكيات اللاعقلانية… الخ.
- – البعد التنموي البشري: الذي يحيل بدوره إلى حلقات مترابطة في معاني المفهوم الجديد للتنمية وشروطه:
- تنمية وعي المواطن السياسي كإنسان مسؤول للمشاركة في الحياة السياسيـة.
- تنمية حسِّ النقد والبحث عن الحقيقة ليكون الخيار والرأي عقلانيان.
- اعتبار مستوى التعليم ومستوى الصحة ومستوى الوعي البيئي ومستوى المشاركة معايير أساسية في درجات التنمية.
كل هذه الأمور شكّلت رافعات جديدة للوعي بأهمية المواطن إنساناً فاعلاً في السياسة والثقافة والتنمية معاً.
- – البعد العالمي للمواطنة: ليس المقصود بالبعد العالمي للمواطنة القول بالمواطنية العالمية، وكأنها استجابة للنزوع الذي تنحو نحوه العولمة الاقتصادية والسياسية والإعلامية اليوم، ولا الاعتقاد بالفكرة الداعية إلى توحيد العالم في ظل حكومة عالمية. فثمّة من يدعو اليوم إلى إعادة تأسيس مجال المواطنة وثقافتها بعد أن شابها، في مرحلة ازدهار دور الدولة الوطنية، مشاعر خاصة، أحياناً شوفينية وعنصرية كان لها دورها التسعيري في حربين عالميتين. بل أنّ هذه المشاعر الشوفينية والعنصرية عادت فتفاقمت بعد أن حوّلت العولمة الاقتصادية والإعلامية المواطن إلى مستهلك شره، وحوّلت المنطق السياسي إلى منطق سـوق، فاستنفرت الهويات الذاتية في مواجهة الهويات المغايرة حتى في الوطن الواحد ولدى المواطنية الواحدة بذريعة البحث عمّن يحمل مسؤولية الأزمات الاجتماعية والضائقة الاقتصادية.
وفي هذا السياق يدعو المفكر السياسي الفرنسي آلان تورين، بعد أن يعاين الحالات المستنفرة في المجتمع الفرنسي في مجال العلاقة بين أصول المواطنين الفرنسيين، أي بين من هم من أصل محلي وبين من هم من أصل مهاجر، إلى إعادة تركيب العالم على قاعدة الاندماج الوطني، ولكنه الاندماج المنفتح على التعارف والاغتناء بالثقافات المتنوعة وبالتواريخ المختلفة، وبالإثنيات المنتشرة في العالم وداخل الوطن الواحد.
إنها حركة تعمل على إعادة تركيب العالم بمواطنة في مجتمع ديموقراطي يسعى إلى المزيد من تنوّعه، لا إلى المزيد من شموليته ووحدته، وكما كان الأمر في مرحلة بناء الدولة القومية أو في مرحلة حركات التحرر الوطني. هذا جانب من جوانب البعد العالمي لمواطنة أضحى عليها أن تستوعب اختلافاً قريباً أو بعيداً عنها، ولكن محيطاً بها بصورة دائمة، لا بفعل انعدام المسافات فحسب، بل بسبب حضور هذا الاختلاف في العيش والحياة اليومية.
IV – دلالات التنشئة السياسية ودورها في التنمية المجتمعية في العالم العربي
لقد وضعت تقارير التنمية الإنسانية العربية قادة العالم العربي أمام مسؤولياتهم في مواجهة تحدّيات عصر العولمة والثورات المتسارعة في جميع المجالات. إذ تواجه الدول العربية تحدّيات كبيرة في مجال تعزيز الحريات الشخصية، ومشاركة القاعدة العريضة للمواطنين في القضايا السياسية والاقتصادية. ويتعيّن عليها تحسين أدائها بشكل ملحّ لتوفير خيارات اجتماعية وفرص اقتصادية أفضل للأجيال الحاضرة من المواطنين العرب وللأجيال القادمة من الشباب العربي بما يضمن الاستقرار الاجتماعي والنفسي، لهم ولأسرهم، وأن تقوم بخطوات مدروسة ومبرمجة بشكل جيد للانضمام إلى مجتمع المعلومات والاقتصاد العالمي القائم على المعرفة، وذلك من موقع الشريك الكامل في توطين تكنولوجيا المعرفة وثورة المعلومات والاتصالات وتطويرها وليس فقط من موقع الاقتباس السهل عن تجارب الآخرين واستخدام التكنولوجيا الجاهزة.
إن السمة الغالبة على مشهد الواقع العربي الراهن هي هيمنة العوامل السلبية الكثيرة داخل جميع المؤسسات العربية بشكل معوّق لبناء التنمية الإنسانية. وقد شدّدت التقارير على ثلاثة منها هي: نواقص الحرية، وتمكين المرأة، والقدرات الإنسانية المعرّفة أعلاه. فالتحدّي الذي يواجه العرب في مجال بناء التنمية الإنسانية ما زال كبيرا للغاية. لذلك، وحرصاً على بناء مستقبل أفضل للأجيال القادمة من العرب، لا بدَّ من الإسراع بتنفيذ التوصيات الواردة في مجمل التقارير.
ولعلَّ أبرز المهمّات العاجلة للبدء بالإصلاح الشامل: احترام الحقوق والحريات الأساسية للإنسان العربي باعتباره حجر الزاوية في بناء الحكم الصالح والقادر على إنجاز التنمية البشرية المستدامة، وتمكين المرأة العربية من بناء قدراتها الذاتية والمشاركة على قدم المساواة مع الرجل في جميع مجالات العلم والعمل والإبداع، واكتساب المعرفة وتوظيف القدرات البشرية العربية بكفاءة في النشاطات الاجتماعية لتحقيق الرفاه الإنساني في المنطقة العربية.
فعندما تحدّث رفاعة رافع الطهطاوي وبقية النهضويين العرب والمسلمين عن وطنية ووطن وأبناء الوطن في غضون القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشريـن، فإنما كانوا ينقلون مفهوم الدولة/الأمة ومفهوم المواطن عضواً في هيئة اجتماعية سياسية هي هيئة المدينة، لتحلَّ محلَّ ثقافة الدولة السلطانية وفقهها وصوفية أوليائها، كما كانوا يستجيبون لحاجات في التطوير الاقتصادي والتحديث الإداري والتنظيمي كان يحفّز إليه الاطّلاع على التجارب الأوروبية، وصولاً إلى تبنّي مفهوم الدستور والمواطنة.
إنّ الطهطاوي، والنهضويين العرب الآخرين، في استخداماتهم الأولية لمصطلح الوطن والوطني والوطنية كانوا يحمّلون المفردات العربية، ذات المعاني التراثية القديمة، دلالات جديدة معاصرة اكتشفها الوعي التاريخي المقـارن للتواريخ المختلفة والثقافات المتنوعة، ويعيدون إنتاجها في استجابة لعملية التثاقف الجارية آنذاك، وبذلك اقتربوا من المفهوم الحقوقي الذي يحدّد وضعية الفرد المقيم على أرض يسودها مجتمع ودولة لناحية الحقوق والواجبات في صيغة الوطني وابن الوطن.
واليوم، هل نحن أمام مأزق يعني أنّ الأمر يتعلّق بثقافة سياسية شعبوية لا تمهّد ولا تساعد على عملية التحوّل الديموقراطي ولا على استيعاب الشروط الاجتماعية والقانونية التي تفترضها صيغة المواطنة؟ أم أنّ ثمة أمراً متعلّقاً بخصوصية دينية، يراها البعض في الاختلاف البنيوي بين الإسلام والديموقراطيـة؟ وأنّ المشكلة هي ممانعة الثقافة السياسية المحلية للتحوّل الديموقراطي وبالتالي لتكوين المواطن؟
لقد كان يقال باستمرار أنّ العالم بدأ يتجه نحو الدخول في ” الثورة الديموقراطيـة ” بحسب تعبير هوبز باوم، وكانت تطرح إشكاليات من نوع: ما سبب ممانعة العرب على الدخول في هذه الثورة، وتعدّدت الإجابات بدءاً من الطرح الأنثروبولوجي الذي لا يرى قدرة للمجتمعات العربية على القبول بالخيار الديموقراطي. أما الإجابة الثانية فقد كانت ترى في الاستبداد السياسي المترامي الأطراف في البلدان العربية عائقاً رئيسياً، هذا فضلاً عن إجابات عدة كالبيئة التربوية البطريركية كما هي عند هشام شرابي وغيره.
لكن ما يجب التوقّف عنده أنّ الجميع لم يكن يغفل العامل الخارجي بوصفه عاملاً رئيسياً في تعزيز خيار الانفتاح نحو الديموقراطية، ونظر الكثير من المثقفين لمفهوم ” التحوّل ” على اعتبار أنه المدخل الرئيسي لقراءة التحوّلات التي تعيشها المجتمعات العربية، إذ لا شك في أنّ التغيّرات السياسية التي شهدتها بعض دول العالم النامي، ومنها بعض الدول العربية، اقترنت بحدوث نوع من التحوّلات السياسية والاجتماعية. إنّ سؤال حتمية التغيير ينتفي لحساب إمكانية وآلية هذا التغيير، الذي يصبح بمثابة الإجابة عن استحقاقات داخلية وخارجية أصبح من المستحيل غضُّ النظر عنها أو استبعادها، ومن الضروري الدخول في حوار معها من أجل الإجابة عنها أو من أجل تكييفها بما يتلاءم مع المستقبل السياسي والاجتماعي (9).
ومن جهة أخرى، يجدر بنا أن نلاحظ أنّ الأحداث السياسية التي عصفت بالمنطقة العربية، في العقود الثلاثة الأخيرة، أكدت تآكل مكانة الأحزاب والتيارات السياسية العربية عموماً، كما أكدت أيضاً انحسار دور الشعوب التي تتوسّلها تلك الأحزاب في نشاطها التغييري. وكانت غالبية الأحزاب العربية برزت في الأربعينات والخمسينات وازدهرت في الستينات بفضل حاملها الاجتماعي المتمثل بالفئات الوسطى، التي تتمتّع بقسط وافر من التعليم والثقافة والمستوى المادي إلى جانب الطموح في الارتقاء على المستويين السياسي والاجتماعي. ولكنّ التحوّلات الحاصلة في معظم البلدان العربية، منذ منتصف السبعينات، أدّت إلى انحسار دور الفئات الوسطى، بسبب القيود التي أجهضت عمليتي التنمية الاقتصادية والاجتماعية، والمتمثّلة بتغليب مظاهر السلطة على سلطة الدولة واستشراء ظاهرة الفساد وتهميش القانون والأحزاب والمشاركة الشعبية، بالترافق مع إهمال التطوّر العلمي ونظام التعليم والانصراف عن أية محاولة للتكامل الاقتصادي العربي. وبهذا المعني فإنّ أفول الأحزاب العربية كان نتيجة لأفول الفئات الوسطى ولإجهاض مشروعات التنمية، ومن ضمن ذلك مشروع بناء دولة المواطن أو دولة المؤسسات والقانون.
وكان من نتيجة ذلك أنّ الحيّز الاجتماعي، الذي اجتذبته أو حرّكته هذه الفئـات، بات خارج المعادلات السياسية أو تحوّل إلى قوة مهمّشة وسلبية، وهو ما يمكن ملاحظته في الاستنفار الذي يحصل على خلفيات عشائرية أو طائفية أو إثنية تعكس التحيّزات العصبوية للانتماءات والثقافات التقليدية، في حين أنّ الأولويات والتحدّيات التي تتعلّق بالوطن والمواطنة قد لا تجد إلا تأثيراً ظرفياً ومحدوداً في معظم الأحوال (10).
وما دمنا نتناول التنشئة السياسية ودورها في تنمية المجتمعات العربية يجدر بنا أن نتعرّف على أهم الاتجاهات الموجودة في نظام القيم العربية التي تتصل بالتربية الأسرية، والتي تعوّق إمكانية التنشئة المواطنية الصحيحة (11):
(1) – النزوع نحو التشديد على العضوية في العائلة وليس على الاستقلال الفردي.
(2) – النزوع نحو الاتكالية والطاعة وليس الاعتماد على الذات.
(3) – التمسّك بالعقاب كوسيلة للتربية أكثر من الإقناع.
(4) – النزوع نحو الأنانية.
(5) – سيطرة الرجل على المرأة حتى إخضاعها.
ولعلّنا لا نحتاج إلى عناء كبير لنلمس هذا النزوع نحو الخضوع والطاعة والاتكالية من جهة، وحب السيطرة والأنانية من جهة أخرى. ويرى بعض الباحثين أنّ هذه القيم لا تتحكّم فقط بالعلاقات الأسرية بل أيضا بالعلاقات السياسيـة.
الهوامش
(7) – د. محمد محمد سكران: التربية وحوار الثقافات – عن صحيفة ” الأهرام ” المصرية – 25 كانون الأول/ديسمبر 2002.
(8) – د. وجيه كوثراني: المواطنة والانتماء، الجزء الثالث – عن صحيفة ” الحياة ” اللندنية، 31 كانون الثاني/يناير 2002.
(9) – رضوان جودت زيادة: مشاهد التحوّل السياسي في النظام العربي – عن صحيفة ” السفير ” اللبنانية – 4 نيسان/أبريل 2002.
(10) – ماجد كيالي: معوّقات المشاركة/فقر وجهل واغتراب – عن صحيفة ” الحياة ” اللندنية – 25 كانون الأول/ديسمبر 2001.
(11) – د. حليم بركات: المجتمع العربي المعاصر، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1998 ، ص 327 .