د- عبد الله تركماني
مصطلح شاع استعماله منذ سنوات في الأدب السياسي العربي للدلالة على بنية شاملة مستترة خلف بنية الدولة الرسمية المعلنة. والأصل، في مفهوم النظام الأمني، شمولية الولاية على كافة مناحي الحياة والإمساك بإرادة مختلف الشرائح الاجتماعية، بداعي الرعاية والخلاص من أمراض الفرقة والتناحر، أي التعددية والاختلاف، لذلك قلما يطمح إلى كسب العقول والقلوب، وهي مهمة تفترض وتستدعي قوة المثال وصحة الإقناع، ويحصر مراده في اقتلاع جذوة المساءلة وسحق مظهرية الرأي المغاير، توسلاً لالتزام لفظي يقتضي إعلانه من الفرد والجماعة وفق أجندة طقوسية تواكب مسيرة النظام الاستبدادي وتحتفل بمنجزاته.
إنّ الدولة الأمنية لا تكتشف لذاتها خصوصية، سوى خصوصية الاستبداد وإنتاج ثقافة الخوف. ففي كتاب ” سنوات مع الخوف العراقي ” (دار الساقي، بيروت، 2004) تختلط ذكريات هاديا سعيد، إذ تتذكر هذه السيدة اللبنانية سنوات بقائها في العراق مع زوجها في سبعينيات القرن الماضي، حيث تقول: ” لقد كنت أحد الذين عاشوا نوعاً ” مخففاً ” من الخوف داخل الجمهورية وخارجها مع أني لست عراقية .. ليس هناك بلد عاش كل من فيه خراب النفس والذرية كما عاشته بيوت بغداد، وليس هناك بلد أبيحت فيه كميات من الدماء وعدد من الرقاب والأوصال المقطوعة كما حدث في العراق، وليس هناك بلد عرف قهر الخوف وذل الصمت مثل العراق .. “.
ويتحدث حكم البابا في ” كتاب في الخوف ” (دار كنعان، دمشق، 2005) عن تجربته التي عاشها في الإعلام السوري: الخوف الذي انتابه أثناء كتابة المقال، والخوف الذي شعر به يوم نشر المقال وانتظار ردة الفعل، والخوف يوم وصول الاستدعاء لمراجعة فرع المخابرات من أجل المقال، والخوف خلال وجوده داخل بناء المخابرات وخضوعه للتحقيق مع الهواجس المختلفة التي يستدعيها، ثم الخوف الذي تولده التجربة وتتركه في النفس بعد انتهائها.
وهكذا، في ظل سيطرة الدولة الأمنية والأيدلوجية الشمولية يصبح التكوين الإنساني شاحباً، هشّاً، ويتشكل مجتمع محكوم بمعايير الذل والتبعية والعبودية، وتخيم فلسفة التكاذب والخداع، ويرتهن المجتمع أسيراً لفكرة يملك سرها شخص واحد فقط، فيما يتحرك الجميع كدمى بين يديه، أو كظلال باهتة لحقيقته الغامضة، وتُشغَّل النخبة بتأويل أفكاره، ومدّها خارج الزمان والمكان من جهة، والسيطرة الكلية على المجتمع، وإخضاعه بالقوة لتلك التأويلات من جهة ثانية.
وهناك ثلاثة أركان تقوم عليها الدولة الأمنية التسلطية، وتمكنها من إنتاج مجتمعها الجماهيري، هي: الإرهاب والأيديولوجية والإعلام الموجه. وعدة مبادئ تضمن هذه الأركان وتعززها، هي: مبدأ الاحتكار الفعال للسلطة والثروة والقوة، واحتكار الحقيقة، واحتكار الوطنية، ومبدأ الغلبة والقهر، ومبدأ شخصنة السلطة، وعبادة القوة، أي تماهي الشخص والمنصب الذي يشغله، وانتقال قوة المنصب المادية والمعنوية إلى الشخص الذي يغدو مثال القوة والعظمة. وفي هذه الحال تحل الأوامر محل القوانين، والامتيازات محل الحقوق، والولاء والمحسوبية محل الكفاءة والجدارة والاستحقاق.
أما ” الثقافة الأمنية ” فهي ثقافة منفصلة عن الواقع وقضاياه، تشتغل على قضايا تافهة وتصرف النظر عن القضايا الجوهرية. وهي راكدة وتعيد إنتاج الركود، ذلك أنّ الوظيفة الأمنية تقتضي، قبل كل شيء، استقراراً شكلياً وتحويل كل شيء إلى مومياءات توحي بالحياة، لكنها قلما تُعنى بالحياة.
إنها ثقافة نابذة، تقوم على التضاد مع الحقيقي والجاد والجميل والحر والإبداعي، وبالتالي فهي تنبذ ليس فقط المضامين بل والأشكال التي يمكن أن تفضي إلى حرية ليس للمنظومة الأمنية أن تقبل بها. هي تدفع إلى السطح بأشباه المثقفين وبقليلي الموهبة والمفتقرين إلى القدرة على الإبداع. هي ثقافة انفعالية، محركها يقع خارجها، ويمكن أن يكون عسكرياً أو حزبياً، ولكن ليس ثقافياً. هي، بالضرورة، ثقافة تمجّد القبح وتتغنى به، وترسّخ القيم التي يعمل النظام الأمني على نشرها، كاحتقار العقل والاستخفاف بقيم الحرية والحقيقة والجمال.
لقد حولت أجهزة الدولة الأمنية المجتمع إلى مجتمع الخوف المتبادل والريبة المتبادلة، وأخضعت النسيج الاجتماعي لمقاييس عملائها ومعاييرهم الأخلاقية التي هي معاييرها وقيمها. ولعل وظيفتها الأساسية كانت ولا تزال محاولة السيطرة على تعددية المجتمع والفروق والاختلافات اللامتناهية بين الكائنات البشرية، وهذا غير ممكن إلا بتقليص جميع المواطنين إلى هوية واحدة ثابتة وخاوية قوامها ردود الفعل الغريزية، وتقليص حريتهم إلى مجرد الحفاظ على النوع.