حسين عبد العزيز
اعُتبرت حرب تمّوز (2006) في الوعي السياسي الجمعي لحزب الله وجمهوره انتصاراً عسكرياً وسياسياً في آن، ما دام فشل الكيان الإسرائيلي في القضاء على الحزب عسكرياً، وفشل في إجباره على تطبيق قرار مجلس الأمن 1701، الذي نصّ على انسحاب الحزب من جنوب نهر الليطاني باتجاه الشمال.
تولدت قناعة آنذاك بأن الحزب أصبح معادلاً إقليمياً قوياً في مواجهة إسرائيل بسبب قدراته العسكرية وخبراته القتالية، إلى جانب تحالفاته السياسية المحلّية آنذاك، مع عمق استراتيجي (سورية) ودعم مالي وعسكري مفتوح (إيران). ثمّ جاءت الثورة السورية وتداعياتها لتمنح الحزب خبرةً قتاليةً ميدانيةً عاليةَ المستوى (عمليات تسلّل، قتال الشوارع). ومع انهيار المنظومة العسكرية للنظام السوري وتآكل قدراته، اتّخذ القرار في طهران بتحويل الجنوب اللبناني جغرافيا عسكريةً ضاربة.
خرج الحزب من الحرب السورية مليئاً بنشوة الانتصار والقوّة، ونشأت لديه فورة أيديولوجية في الوعي جعلته يعتقد أنّ أيّ حرب مع إسرائيل ستكون قاسية لها. مع عملية طوفان الأقصى، وجد الحزب نفسه أمام مأزق كبير، فبدا واضحاً له ولطهران أنّ ثمّة موجة عسكرية إسرائيلية همجية تشبه تداعيات هجمات 11 سبتمبر (2001)، غايتها تدمير المقاومة في غزّة، وكل ساحة داعمة لها. وكان الحزب، ومن خلفه طهران، أمام ثلاثة خيارات: الأول، شنّ عملية عسكرية من جنوبي لبنان تشبه عملية طوفان الأقصى، مستغلّاً حالة الارتباك الإسرائيلي. والثاني، التزام الصمت وعدم التدخّل نهائياً في الحرب. والثالث، اعتماد الاستراتيجية الإسرائيلية المطبّقة في سورية “المعركة بين الحروب”.
لأسباب مرتبطة بالفوران الأميركي والغربي الغاضب، وضعف العمق الاستراتيجي للحزب في سورية، وطبيعة التحالفات السياسية المحلّية في لبنان، ورغبة طهران بعدم التصعيد من جهة، وعدم القضاء على صورة الحزب وهُويَّته المقاومة من جهة أخرى، آثر الحزب وإيران اعتماد الخيار الثالث “المعركة بين الحروب”. لم يتأخّرا، الحزب وإيران، في اتخاذ القرار. فبعد يوم من “طوفان الأقصى” بدأ الحزب تنفيذ هجمات صاروخية على إسرائيل بوتيرة خفيفة تحت شعار “إسناد غزّة”.
حزب الله في دائرة مغلقة، لا هو قادر على تحقيق إنجازات عسكرية تجبر إسرائيل على التفاوض، ولا قادر على الموافقة على القرار 1701
اعتقد الحزب وإيران أنّ “المعركة بين الحروب” هي الاستراتيجية المناسبة، لأنّها تلحق بإسرائيل أوجاعاً ليست بسيطةً، وليست خطيرةً في الوقت ذاته، ولا تدفع إسرائيل إلى تغيير قواعد الاشتباك. لم يدرك الحزب أنّ العقلية الأمنية العسكرية الإسرائيلية تغيّرت جذرياً بعد السابع من أكتوبر (2023)، وأنّ إسرائيل تمتلك فرصةً تاريخيةً لتغيير المعادلة في الشرق الأوسط تماماً، وما هي إلا مسألة وقت إلى حين اقتراب نهاية الحرب في غزّة، حتّى تلتفت إسرائيل إلى لبنان. لم يدرك الحزب أيضاً أنّ إسرائيل ليست بحاجة إلى التوغّل برّياً كما حدث عام 2006، فالتطوّرات التقنية التي تمتلكها إسرائيل اليوم تسمح لها بتحقيق أهدافها العسكرية جوّاً من دون تدخّل برّي.
لهذه الأسباب، رفع حزب الله وتيرة هجماته على إسرائيل، فردّت الأخيرة بالممثل مستهدفةً مناطقَ لم تستهدفها عام 2006، وشيئاً فشيئاً أخذت إسرائيل تغيّر من قواعد الاشتباك القائمة، مكثّفةً هجماتها الجوّية قبل أن نصل إلى تفجيرات “البيجر” ثمّ أجهزة اللاسلكي، ثمّ اغتيال أمين عام الحزب، حسن نصر لله، وقادة آخرين. وخلال الأيام العشرة التي أعقبت اغتيال نصرالله، كان الحزب قد تعرّض إلى ضرباتٍ قويةٍ أضعفت كثيراً من قدراته العسكرية والأمنية، وأصبح أمام مأزق تاريخي بكلّ ما تحمله الكلمة من معنى، فلا هو قادر على مجاراة إسرائيل في الردّ العسكري، ولا هو قادرٌ على إعلان الاستسلام. لم يكن أمامه سوى اللجوء إلى صواريخَ أكثر دقّة، وتعزيز خططه في الحدود من أجل اللحظة التي ينتظرها، وهي توغلّ إسرائيل البرّي، ففي الميدان يستطيع حزب الله تعويض شيءٍ من خسائره عبر الكمائن القادر على تنفيذها ضدّ الجنود الإسرائيليين. غير أنّ إسرائيل تعي تماماً خطط الحزب، ولذلك هي حذرة في التوغّل البرّي الذي لن تُقدِم إسرائيل على تنفيذه بشكل واسع، قبل التأكّد من تآكل قدرة الحزب على مواجهتها.
هنا يجد حزب الله نفسه في دائرة مغلقة، فلا هو قادرٌ على تحقيق إنجازاتٍ عسكريةٍ من شأنها أن تجبر إسرائيل على التفاوض، ولا هو قادر على إعلان موافقته على تطبيق قرار مجلس الأمن 1701، والانسحاب من جنوب الليطاني، لأنّ إعلان الانسحاب يعني عملياً هلاك الحزب وسرديته وأيديولوجيته، وحججه في مقاومة إسرائيل، ما يعني أنّ اليوم التالي للحزب لن يكون كما قبله، ليس على صعيد العلاقة مع إسرائيل فحسب، بل (وهو الأكثر أهمّيةً) على صعيد وضعه في الساحة اللبنانية، خصوصاً بعد ظهور نبرات استياءٍ من رئيس الحكومة نجيب ميقاتي تجاه التدخّل الإيراني والموقف من قرار مجلس الأمن، وأصوات سياسية تحاول استغلال وضع الحزب لإحداث ترتيبات سياسية جديدة في البلد، ما أشعر الحزب أنّه مقبل على مواجهة داخلية كبرى إذا انتهت الحرب بإبعاده عن الجنوب اللبناني وتدمير منظومته العسكرية.
لهذه الأسباب، يسعى الحزب بكلّ قوّة للحيلولة دون هزيمته، وإن كانت الخسائر كبيرة، من أجل يوم تالٍ لا يكون فيه قادراً على إبقاء قواعد اللعبة مع إسرائيل، لكن على الأقلّ لا يغيّرها في الداخل اللبناني.
المصدر: العربي الجديد