سامية عيسى
هل نصدّق عدالة الجنائية الدولية بعد سبعة عقود على إفلات إسرائيل من العقاب؟ … أصدرت، أول من أمس الخميس، محكمة الجنايات الدولية في لاهاي، مذكرتي اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الحرب السابق يوآف غالانت، بتهم الإشراف على ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في غزّة. وذلك بعد حوالي ستة أشهر من تقديم مدّعي عام المحكمة، كريم خان، طلبا عاجلا لإصدار المذكرتين.
وفي ما وصفه المدعي العام السابق، لويس مورينو أكامبو، بـ”اليوم السعيد” بعد ساعة من صدور المذكّرتين، قطع وليم شافاز أستاذ القانون الدولي أي إمكانية يتيحها هذا القانون لاستئناف القرار من إسرائيل والمطلوبيْن. ما يمكن أن تفعله إسرائيل أو الاثنان تقديم طلب الطعن بقرار الاعتقال الذي لا يمكن تقديمه إلا بحضور المتهمَيْن إلى قاعة المحكمة شخصياً في لاهاي، والمخاطرة بالتعرّض للاعتقال في حال فشل قبول الطعن. على أن يكون الطلب مدعوماً بأدلة دامغة تنفي التهم الموجهة لكليهما، أي ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في قطاع غزّة ضد المدنيين والعزّل والمعتقلين. وتشمل جرائم الحرب هذه الموجّهة إلى نتنياهو وغالانت الإشراف على القتل والاضطهاد واستخدام التجويع سلاح حرب، وغيرها من أفعال لاإنسانية تسبّبت إلى حين تقديم طلب إصدار مذكرتي الاعتقال في سقوط أكثر من 40 ألف شهيد (غالبيتهم من الأطفال والنساء) وأكثر من مائة ألف جريح، فضلا عن أكثر من عشرة آلاف مفقود تحت الركام، والقتل العمد لعشرات الصحافيين وأفراد الطواقم الطبّية والدفاع المدني واستهداف عشرات من المستشفيات وإخراج معظمها عن الخدمة. هذا إلى جانب منع دخول المساعدات الإنسانية إلى سكان القطاع الذي جرى تدمير 75% من أحيائه السكنية وبناه التحتية، في حرب إبادة جماعية وحشية ضروس غير مسبوقة في التاريخ الحديث، وهي أفعال تُرتكب على مرأى ومسمع من كل العالم، وتشكل أدلة دامغة على هذه التهم لمن يريد. ولن ينتهي تعداد هذه الجرائم أو وصفها، ليس في هذه العجالة، ولا في مطوّلات الكتب والتقارير المكتوبة أو المصوّرة، ومنها ما لا تتمكّن الكاميرات من التقاطه، أو هو عصيٌّ على التصوير، لأنه ينضوي تحت بند ما تخلفه هذه الحرب الهمجية من مصاعب حياتية مهينة تعجز المخيلة عن توقعها أو وصفها، والتعبير عنها في أحيان كثيرة، وتدفنها تحت بند ما خفي أعظم. على أي حال، أعلنت محكمة الجنايات الدولية أنها أصدرت بالإجماع قراريْن برفض الطعون التي قدّمتها إسرائيل بموجب المادّتين 18 و19 من نظام روما الأساسي.
تشمل جرائم الحرب الموجهة إلى نتنياهو وغالانت الإشراف على القتل والاضطهاد واستخدام التجويع سلاح حرب
وإذ سارعت دول أوروبية عديدة إلى استعدادها للامتثال لقرار المحكمة الدولية الرفيعة، في مقدّمتها هولندا نفسها التي تؤيد حكومتها اليمينية إسرائيل وتدعمها، فإن الملاحظ على هذه التصريحات نبرة الفرح والابتسامات التي لم يكلف المسؤولون الغربيون أنفسهم، وتحديداً مفوّض خارجية الاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، عناء إخفائها. فقد كان واضحاً حجم الامتعاض من نتنياهو، ومن غطرسته وتوحشه ضد الشعبين الفلسطيني واللبناني، وما تنطوي عليه أفعاله وأقواله من صلف وغرور ووحشية ميّزت قادة الكيان الصهيوني منذ نشأة دولة إسرائيل، والتي لم تبدأ مع نتنياهو ولن تنتهي به. بل ما انطوت عليه هذه النشأة من جرائم مروعة بحق الشعب الفلسطيني على يد عصابات الهاغاناه وشتيرن والبالماخ وغيرها، والتي شكلت نواة جيش الاحتلال بعد نكبة 1948. وهو ما يفسّر مسارعة جميع المسؤولين الإسرائيليين في الحكومة والمعارضة إلى مهاجمة القرار ومحكمة الجنايات الدولية ورميهما بأبشع الكلمات، وكذا مايكل والتز مستشار الأمن القومي الجديد في إدارة الرئيس المنتخب دونالد ترامب.
ثمّة طاقة أمل فتحتها المحكمة الدولية بإصدارها مذكرتي الاعتقال بحق كل من نتنياهو وغالانت بإحقاق الحق والعدالة لفلسطين والفلسطينيين والفلسطينيات، في غزّة والضفة الغربية على وجه الخصوص، وفي الداخل الفلسطيني والشتات القريب والبعيد، فالعدالة تحتاج إلى قضاء نزيه وشجاع، بحسب عمر بن الخطاب الذي اشتهر بعدله ورحمته وحزمه الذي قال في القضاء “فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له، حتى لا يطمع شريفٌ في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك”، وكاد العالم أن ييأس من القضاء الدولي الذي تراخى في عدله عقوداً طويلة، لا سيما في إحقاق العدل في فلسطين ولشعبها في مواجهة الجرائم الإسرائيلية، ما استفزّ الملايين في العالم ودفعهم إلى التظاهر والاحتجاج ضد هذه الجرائم المروّعة في غزّة المستمرة منذ أزيد من عام. وقد تبيّن أن تقاعس القضاء الدولي الطويل في تحقيق العدالة للشعب الفلسطيني يهدد الاستقرار والسلم الدوليين، وربما استشعرت مؤسّسات القضاء الدولي نفسها بتقويض مكانتها وسمعتها إن لم تسع إلى تأدية واجباتها التي وجدت من أجلها إنْ أرادت أن تحقق الاستقرار والسلم الدوليين. وإذا كان ابن خلدون قد كتب في “مقدّمته” عن العمران “العدل أساس المُلك”، فلأن دولا قوية انهارت واضمحلت، بسبب فقدان حكّامها بوصلة العدل والعدالة، فكيف والحال أن إسرائيل نشأت على سفك الدماء وسرقة الأرض، وتكونت طينتها من الظلم العاري.
وإذا كان ثمة شك لا يزال في تمكّن القضاء الدولي من الاقتصاص من الجناة الصهاينة، فذلك بسبب التجارب المريرة في انتهاك إسرائيل القوانين الدولية والإنسانية، وعدم تطبيقها القرارات الدولية المتصلة بإعادة الحقوق البديهية التاريخية للشعب الفلسطيني، وفي مقدّمتها حق العودة للاجئين الفلسطينيين والمساواة وحقّ تقرير المصير.
إذا كان ثمة شك لا يزال في تمكّن القضاء الدولي من الاقتصاص من الجناة الصهاينة، فبسبب التجارب المريرة في انتهاك إسرائيل القوانين الدولية والإنسانية
وكان مدّعي عام محكمة الجنايات الدولية، كريم خان، قد دعا مجدّداً، في أغسطس/ آب الماضي، إلى تسريع إصدار مذكرات الاعتقال، بعد أن طفح كيل العالم من صلف نتنياهو ووحشيته في مواصلة حرب الإبادة الجماعية في غزّة متحديا الضمير العالمي من غير أن يرفّ له جفن. إذ أكّدت المحكمة في قرارها “وجود أسباب منطقية” للاعتقاد أن” المسؤولين الإسرائيليين أشرفا على جرائم ضد المدنيين بين الثامن من أكتوبر/ تشرين الأول 2023 و20 مايو/ أيار، الموعد الذي قدم فيه خان طلب إصدار مذكّرات الاعتقال، داعيا إلى وقف إطلاق النار في غزّة. وهو ما يعني ضربة موجعة غير مسبوقة لإسرائيل، قد تمنع نتنياهو وغالانت من الترشّح لدورة الكنيست المقبلة لما له من تداعيات خطيرة على الوضع القانوني لإسرائيل وعزلة دولية خانقة. كما تمنع المتهمين من زيارة أكثر من 120 دولة موقّعة على اتفاقية روما التي يستمد منها اختصاص المحكمة الجنائية الدولية، وستترتّب على هذه المذكرات تداعياتٌ قانونية تهدّد باعتقال المسؤولين الإسرائيليين عند دخولهم تلك الدول، فضلا عن احتمال أن تصدُر مذكرات اعتقال أخرى لمسوولين أمنيين آخرين ووزراء، مثل إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش ورئيس الأركان وضبّاط وجنود.
قد يؤدي إصدار مذكرات الاعتقال هذه إلى كبح جماح نتنياهو في الإيغال بالدمين، الفلسطيني واللبناني، ووقف إطلاق النار في غزّة ولبنان تجنّباً لارتفاع فاتورة الجرائم التي سيُحاكم عليها، عاجلا أو آجلا. وإن لم تحصل هذه المحاكمات، ولم يجر البتّ فيها أو إنفاذ قراراتها كعادة إسرائيل وزعمائها، لكنها ستكون بمثابة جرس إنذار لكل المسؤولين القادمين كي يتوقّفوا عن مواصلة حرب الإبادة، وهو ما يفسّر استنكار أقطاب المعارضة نفسها إصدار المحكمة الدولية العتيدة مذكرة اعتقال بحق كل من نتنياهو وغالانت رغم خلافاتهما، كي لا يأتي يوم تجري فيه محاسبتهم (هم أيضا) على جرائم ينوون ارتكابها إن تمكّنوا من الوصول إلى السلطة. فنية ارتكاب جرائم حرب وإبادة من صميم الجوهر الصهيوني للدولة، وليست حكراً على نتنياهو. وربما إن لم يُنصف القضاء الدولي الفلسطينيين والفلسطينيات، قد يتمكّنون يوما من محاسبة نتنياهو بأنفسهم باعتقاله وجلبه إلى القدس ومحاكمته، على غرار آيخمان النازي أحد القادة الألمان ممن ارتكبوا بحق اليهود جرائم الهولوكوست المروّعة.
المصدر: العربي الجديد