محمود علوش
هناك أسباب موضوعية كثيرة تدفع فصائل المعارضة السورية إلى شن الهجوم المفاجئ والجريء على محافظة حلب. لقد صُمّم اتفاق تأسيس منطقة خفض التصعيد الرابعة في عام 2017 لوقف الأعمال القتالية بين النظام والمعارضة برعاية روسيا وتركيا وإيران. لكنّ الاتفاق أضحى منذ تلك الفترة رمزاً لنمط جديد من الصراع، يقوم على استراتيجية القضم التدريجي من النظام للمناطق المشمولة في الاتفاق. ونتيجةً لشعور النظام بأنه انتصر في الحرب، ازدادت جرأته في شنّ الهجمات على المناطق المتبقية للمعارضة. مع ذلك، يتجاوز الهجوم على حلب في أبعاده هدف استعادة حدود منطقة خفض التصعيد أو السيطرة على حلب إلى إعادة تشكيل الصراع السوري.
في السابق، كانت المعارضة عاجزةً عن القيام بردّ فعل عسكري قوي ضد النظام في حلب لاعتبارات مُختلفة، فمن جانبٍ، أظهرت تركيا مراراً حرصها على الحفاظ على التهدئة في منطقة خفض التصعيد الرابعة لتجنّب انهيار الوضع، ولتركيز اهتمامها على صراعها مع الوحدات الكردية. ومن جانب آخر، لم يكن التفوّق العسكري للنظام في المعادلة عاملاً مناسباً للمعارضة للتحرّك. وحتى مع توفر العوامل المحلية الموضوعية لإعادة حلب إلى مركز الصراع، يظهر البُعد الإقليمي عاملاً حاسماً في تغيير حسابات الشمال السوري. منذ اندلاع حرب 7 أكتوبر (2023)، واجه الوجود العسكري الإيراني في سورية عبر المستشارين والجماعات المدعومة من طهران، مثل حزب الله، مزيداً من الضغط الإسرائيلي. كما دفع انزلاق الصراع بين إسرائيل وحزب الله إلى حرب واسعة، في سبتمبر/ أيلول الماضي، بالحزب إلى نقل عديدين من مُسلحيه من حلب إلى الجبهة في جنوب لبنان. وقد لعب الفراغ الذي خلّفه تراجع حضور حزب الله والمليشيات الإيرانية في حلب، في الأشهر الماضية، دوراً رئيسياً في الانهيار السريع لقوات النظام أمام تقدم المعارضة.
سعت المعارضة إلى الاستفادة من تراجع الحضور الإيراني في معادلة الشمال
علاوة على ذلك، بدت تركيا في الآونة الأخيرة قلقة بشدة من أن تؤدّي الهجمات المتزايدة للنظام على إدلب إلى موجة هجرة جديدة صوبها، ومُحبطة كذلك من عدم استجابة دمشق لتحرّكها من أجل إعادة تطبيع العلاقات. لا مؤشّرات ملموسة على أن تحرّك المعارضة صوب حلب يحظى بمباركة تركية واضحة، لأن الفصيل الرئيسي الذي يُنفذ العملية هو هيئة تحرير الشام. لكنّ مشاركة بعض الفصائل المنضوية في الجيش الوطني السوري في الهجوم قد تشير إلى انخراط تركي فيه. وتبدو أنقرة مُستفيدةً من الهجوم على ثلاثة مسارات: تقويض قدرة النظام على تهديد منطقة خفض التصعيد الرابعة. وتعزيز موقفها في الضغط على النظام وروسيا للدفع باتجاه مشروع تطبيع العلاقات التركية السورية. وتقويض التأثير الإيراني في معادلة الشمال، لأن الحضور الإيراني في المنطقة، علاوة على أنه يُشكل تهديداً لنفوذ تركيا في معادلة الشمال، فإن طهران لعبت دوراً مفسداً لمشروع التقارب بين أنقرة ودمشق.
يظهر جلياً، من خلال توقيته، دور حرب 7 أكتوبر وارتداداتها الإقليمية على صعيد الدور الإيراني في سورية والاستنزاف الكبير الذي واجهه حزب الله وتقاطعه مع هجوم حلب. فمن جهة، سعت المعارضة إلى الاستفادة من تراجع الحضور الإيراني في معادلة الشمال، وتُقدم نفسها اليوم للعالم طرفاً قادراً على الانخراط بفعالية في تقويض الحضور الإيراني في سورية. وقد يُشكل هذا الدور حافزاً للولايات المتحدة للتفكير في مزايا تسليح المعارضة من جديد. ومن جهة أخرى، أثبتت الرهانات الإقليمية والدولية على النظام لتقويض الحضور الإيراني أنها غير واقعية. وفي ضوء ذلك، يُمكن استنتاج أن هجوم حلب قد يكون بداية لنهج إقليمي ودولي جديد في الصراع السوري عموماً.
هجوم حلب قد يكون بداية لنهج إقليمي ودولي جديد في الصراع السوري عموماً
لقد أظهر الصراع السوري بعد 14 عاماً على اندلاعه حقيقتين راسختين. الأولى، أن مسألة التسوية السياسية للصراع لا يُمكن أن تتحقق طالما أن نظام الأسد يشعُر بأنه انتصر في الحرب. والثانية أن الحضور الإيراني في سورية يستمدّ قوته بدرجة أساسية من استمرار هذا الصراع وغياب أفق الحل السياسي. على الرغم من أن هجوم المعارضة على حلب لن يؤدّي في المستقبل المنظور إلى إعادة تشكيل الصراع السوري والديناميكيات الخارجية الفاعلة فيه على نطاق واسع، إلآّ أنه يُمكن أن يكون بداية لمسارات جديدة في الصراع أكثر قدرةً على إخراجه من حالة الجمود التي يُعانيها منذ سنوات. مع ذلك، يُشكل هجوم حلب اختباراً صعباً لمدى قدرة أنقرة وموسكو على مواصلة التعاون في سورية ومواءمة سياستهما بشكلٍ يجعلها أكثر قدرة على مواصلة إنتاج التسويات، والحدّ من مخاطر إعادة تحويل سورية إلى مصدر ضغط قوي على العلاقات التركية الروسية.
لا تتقاطع حقيقة أن لدى هيئة تحرير الشام حسابات في هجوم حلب بالضرورة، بشكل كامل، مع الحسابات التركية في الصراع، وتُثير شكوكاً في ما إذا كانت أنقرة قادرة على توظيف الهجوم لتعزيز موقفها في مشروع التطبيع مع دمشق وفي العلاقة مع روسيا في سورية.
المصدر: العربي الجديد