بصوت لا يخلو من التكلف، يعلن الحاجب وصول رئيس الدولة للاجتماع بوزرائه الذين لم يرهم منذ سنة. مجرد طاغية يمارس بعضاً من طقوس طغيانه على صعاليكه. يرتفع صوت موسيقى تحاول خلق جو من المهابة، وتبرر، ربما، الخوف الذي يستولي على ملامح وجوه أركان الحكم. في هذا المشهد من مسرحية ” الزعيم “، يقوم هذا الأخير بإلقاء خطاب قذافي المحاكاة واللمز، ساداتي التلميح والغمز، وبعيداً عن الكلام الفارغ الذي يقوله، تصدر عنه الجملة التالية: ” لماذا قمنا بالثورة. أنا لا أعلم لماذا قمنا بالثورة. أنا كنت في الحمام ساعتها “. تضج الصالة بالضحك، فالأسلوب استهزائي المضمون وهزلي الشكل إلى أبعد درجة، لكن الحقيقة أن هذا الكلام اللامسؤول للزعيم يستثير الإسقاط والتفكر.
الجملة ساخرة حد الإيلام، مضحكة حد الإبكاء، وموجعة حد الإسكات، تستشرف مدلولاتها الجانب الأكبر من انتكاسة الثورة وخيبة الشعب بقيادة كهذه. ما سبق الجملة الحدث، والتي عملت كرافعة للحبكة كلها، وما تلاها من عملية ” مسخرة الموقف ” التي قام بها الممثل بإيماءاته وحركاته بقصد الإضحاك، أو ربما الإلهاء، ميّع البعد التلميحي للهدف الانتقادي منها أولاً، وجعل كثيرين يهملون الوقوف عند هذا البعد لصالح الفرجة المهزلة ثانياً. فبمعزل عن مؤامرة التقصد تلك، ” مسخر ” الممثل البعد\الهدف لهذه الجملة المفتاح في نص المسرحية، وجعلها تمر كغيرها، لاستثارة ضحكة لا أكثر عبر التهريج الإلقائي والحركي. وهذا القصد طبعاً من النقد ” التعويمي ” لمثل هذه الأعمال معروف في عهود الطغاة. إلا أنها تلخص مرارة الواقع الذي لازالت الثورة وأهلها يعيشونه مع زعامات الصدفة، ساسة وعساكر وأشباههم.
مسخرة الموقف بدقائقه تلك لا زلنا نعيشها في حبكة أحداث الثورة منذ ثماني سنوات، من خلال جوقة الزعامات السياسية والفصائلية والثقافية المشابهة لزعيم المسرحية، أي منذ أن راح العبث المعارض يترنح فوق أرواح وأجساد من مضى من رواد الثورة الأوائل. فكما الزعيم، قام هؤلاء بمسخرة الثورة عبر سلوكيات هزلية وتهافتات مخزية، حتى يأّسوا الشعب منها، بسبب ما سبقها من اختطاف له ولها، وما تلاها من إهمال للثوابت على يد الجميع، من أخ وجار وصديق وداعية وناشط وعناصر فصائل. فنأى كثيرون عن مداراتها، كما نسيها أكثر من لجأ نتيجة حمى الاندماج الضرورة التي أصابت وجدانه وتفكيره. ليعود من أيس من دوامة المتاجرة إلى حضن الوطن وهو ينشد من كلمات الزعيم: ” هشتكنا وبشتكنا يا ريس، إنت زعيم والنعمة كويس “.
ليس هناك لمسات نبوة من المخرج، ولا تنبؤات فراسة من الكاتب، فرسم مثل هذه الشخصيات بسلوكياتها السافرة لا يحتاج لعناء التخيل، فالأمثلة الموحية كثيرة في تاريخنا، ولا يرتبط وجودها بزمان أو مكان، بل هي كالقضاء المحتوم. فأن تأتي شخصيات تقزم ثورة شعب، من عملية تحول وتبدل جذرية إلى مجرد مساهمة في كتابة دستور جديد، أو مشاركة في السلطة، نتيجة نلمسها الآن لعصر فوضى الزعامات واختلاقها. وبالتالي تصبح تهافتات تلك الشرذمة سلوك متوقع، رغم إيلامه، وهي التي تنتظر مؤتمر ” تبويس الشوارب “، والانضمام إلى حفلة خيانة الذاكرة لتشرب على مشارف الدماء والخرائب نخب انتصار الزعيم على الوطن.
مليون شهيد ومليون معاق وربع مليون مغيب وكذا ألف طفل مجهول النسب، أي كذا أم عزباء مغتصبة، لاستبدال الاستجارة من الرمضاء بالنار، ثمن بخس عند حمقى الهتافات. و يتعالى صوت زعامات المشهد: ” لا زعيم إلا الزعيم “، بعد كل هذه الأرقام المرعبة، و قد عاد الزمن بضميرهم القاصر إلى مربع التفاهم لا التغيير. تماماً كما فعلت بطانة الزعيم عندما عرض عليهم بيع قطعة أرض لبلد آخر ليقيم عليها مقبرة نفايات للمواد الكيماوية والإشعاعية.
لا لوم عليهم، فرد الزعيم اللامبالي بلسان حالهم كافي: ” أنا لا أعلم لماذا قمنا بالثورة “. كان الحمّام مأواه ساعتها باعترافه، مثله مثل من كان منهم يعيش في أوروبا بشقيها الغربي والشرقي وغيرها، أو يهيم في ديمقراطية صنعها خياله الشمولي. لذلك سهل على هؤلاء تضييع ثورة وهم الذين لا يعرفون كيف ومتى ولماذا قامت، تماماً كما استسهل الزعيم في المسرحية قتل وزير عارض فكرة بيع قطعة الأرض لبلد آخر.
وتجيء إدلب، آخر الوجوه الجميلة للثورة، أو آخر هتافات الحرية، أو.. لفافة المناديل، التي أخرجها الزعيم البديل، المواطن الحقيقي، من الحمام، ظناً منه أنها ورق للكتابة وهو يقول: ” أنا لا أعرف الكتابة على هذا الورق فهو بلا أسطر “، ليجيبه نائبه: ” هذا الورق ليس لتكتب عليه، بل لتمسح به ما كتبته “. جملة أخرى موغلة لغتها في خيالها السوريالي الموجع، لتبقى إحدى الإضاءات التي خلفتها إسقاطات نص حاذق على المأزق الحالي لزعماء الثورة.
إدلب الآن هي الفرصة الأخيرة السانحة لهؤلاء كي يمسحوا قذاراتهم، كما يتوهمون، وليظهروا مواقف يظنون أنها ستمحو من ذاكرة الشعب المحتقنة كل مواقفهم المنكرة، والتي أقدموا عليها منذ أن بدؤوا عملية الالتفاف ومد حبال الوصال الماكيافيلية. والرد عليهم جاء عبر موقف رسمه مخرج المسرحية بالتآمر مع المؤلف: فعندما ” وبخ ” الزعيم وزراءه ونعتهم بالبهائم، وهددهم بالقتل، بسبب غبائهم وتفاهتهم، حدث أن تساقطت بناطيلهم ليبقوا شبه عراة بلباسهم الداخلي وحسب.
ولأن موقفهم لا يتعدى في أحسن الأحوال هذا الوضع، فعلى السادة زعماء المعارضات السورية المختلفة والمتخالفة، من سياسيين وعسكر وحكماء ومثقفين، أن يتذكروا أن يتشبثوا ببناطيلهم بشدة: فستار مسرحيتهم يسدل، والأضواء تطفأ، وسراويلهم التحتانية بلا مطاط.