أيمن أبو هاشم
دخول روسيا إلى سورية في نهاية عام 2015، كان في عهد أوباما، ولم يصدر وقتها تصريح أمريكي واحد ضد التدخل الروسي، وفي عهد ترامب من الواضح أن كل ما تقوم به روسيا في سورية؛ يجري في إطار التفاهم والتشاور بين الطرفين. أكثر من ذلك لمن ينكر هذه الحقيقة، أو يقلل من تداعياتها الكبيرة على المشهد السوري، أمريكا وإسرائيل أكثر المستفيدين من الدور الروسي، فهو كان الأداة الضاربة لمنع انتصار الثورة عسكرياً، وتشتيت العملية التفاوضية والسياسية لشراء الوقت بما يخدم النظام، وهو اليد الناعمة التي تسحب البساط من تحت أقدام إيران في سورية، وهو اليوم الورقة التي تُرفع في وجه الأتراك إذا أقدموا على عملية عسكرية في شرق الفرات من جانب أحادي.
تلك الحقائق تُفسر – كما أعتقد- أن رسالة الانسحاب العسكري الأمريكي، تستهدف انفراط عقد التوافقات الروسية – التركية – الإيرانية، بعد أن استعاد النظام بموجب اتفاقات خفض التصعيد مناطق واسعة كانت بيد الفصائل العسكرية، وإدخال الأطراف الثلاثة في صراعات بينية على تعبئة الفراغ الأمريكي، وتهيئة المسرح السوري لعملية سياسية تقطع مع جنيف والمسارات الأخرى، ويكون قوامها تمرير السيناريو التالي:
أولاً: إقامة مناطق آمنة الهدف المعلن منها عودة اللاجئين بينما الهدف الحقيقي تثبيت واقع التغيير الديمغرافي، وشرعنة واقع التمزق في النسيج المجتمعي السوري.
ثانياً: إنتاج معادلة جديدة للحل السياسي تقوم على رهن القرار الوطني السوري بشروط ومحاصصات إعادة الإعمار، وبناء نظام سياسي غير مركزي، مُكبّل بإدارة الأزمات الناجمة عن الحرب، وغير قادر على إعادة بناء دولة ذات سيادة واستقلال حقيقي.
ثالثاً: تنفيذ الشق السوري من صفقة القرن، والمتعلق بضم الجولان بصورة نهائية إلى إسرائيل، في ظل تهتك السيادة الوطنية، وما فعله النظام من استنزاف القوة السورية من كافة النواحي.
رابعاً: إغراق السوريين لعقود طويلة بالمشكلات الإنسانية التي سببتها الحرب، ومنع خلق بيئة سياسية واقتصادية تشجع عودة الشباب وأصحاب الكفاءات إلى وطنهم، بما يحول دون تحقيق تطلعات السوريين في بناء وطن حر ومزدهر.
كان أقرب إلى الخيال في بداية الثورة، توقع مثل هذا السيناريو الكارثي، لكن السنوات الثماني الماضية وما جرى فيها من أحداث مؤلمة وتحولات خطيرة، كشفت بدورها طبيعة التحديات العاتية التي تواجه السوريين. مع دفعهم بوسائل وسياسات قهرية، إلى وضعية ضعيفة ومنهكة إلى درجات غير مسبوقة، ترقى إلى العجز عن توفير شروط ومقومات التعامل مع تلك الهموم والتحديات.
لا ينفي هذا الواقع وجود محاولات ومبادرات، تطلقها جماعات سورية من مشارب مختلفة، حول كيفية بناء رؤية وطنية إنقاذية، تروم وقف هذا الانهيار الكبير، لكنها تصطدم بما صنعته سنوات المآسي والسياسات الظالمة، من جدران عالية تقف حائلاً أمام تثبيت أجندة وطنية، تنتزع القرار السوري من الأيدي الغليظة التي تُمسك به. لا جغرافية على الأرض السورية يمكن فيها التعبير عن إرادة سورية حرة ومستقلة، فقد ضاقت الحياة على السوريين في وطنهم كأنها جحيم بلا قعر، فيما تحولت منافيهم إلى أصوات مبعثرة تبحث عن وطن ضائع.
لعلّ الانكباب على تشخيص المعضلة السورية، ليس هدف هذا المقال رغم أهمية القيام بذلك، لكن سيولة التشخيص في غياب خطوات عملية تندرج في سياق المعالجة، غدا مؤشراً على غياب حوامل سياسية قادرة على الفعل والتأثير. الأخطر من ذلك سواء أكان السيناريو المشار إليه أعلاه، مبالغاً فيه أو مما تؤكده معطيات السياسة كما تجلت في التجربة السورية، فإن ثمة ما يدعو بكل إلحاح إلى كسر حلقة الاستلاب التي باتت تشكل عنوان المعضلة السورية، والتحرر الذهني والنفسي بدايةً من منطق اللاجدوى، باعتباره المعادل لمنطق الرهان على فكرة المُخلّص. إذ أن المظالم والصعاب مهما تجاسرت، لا تستطيع النيل من مشروعية القضية، طالما أن حضورها الأخلاقي راسخ في وجدان أصحابها، أما البقاء في دائرة الخسائر والأضرار مهما بلغت، فلن يؤدي سوى إلى مزيد من اليأس والاستلاب.
ثمة ضرورة لتجديد روح المقاومة الوطنية، بعد أن أزاحت السنوات المريرة، الكثير من الأوهام والتصورات الخاطئة، فيما تتصلب قناعة متزايدة بأن التغيير الحقيقي يبدأ من الجغرافية السورية، وأن الدفاع عن الوطنية السورية يبدأ من تعزيز صمود السوريين على أرضهم. تلك ضمانة الخلاص من نظام الإجرام الأسدي، وكافة قوى التطرف والأدوات الميلشياوية، وتلك بالتلازم ضمانة إفشال كل مشاريع تقاسم مصالح ونفوذ الدول على حساب الجسد السوري.