أقيمت الخميس 17 كانون الثاني/ يناير، ندوة تأبينيّة للمفكر والمناضل العربي الراحل سلامة كيلة، وذلك في قاعة المجلس الثقافي للبنان الجنوبي بالعاصمة اللبنانيّة بيروت، بحضور العديد من الناشطين والمهتمّين بفكر وتراث الراحل كيلة.
الندوة التي أدارها الدكتور محمد علي مقلّد، تحدّث فيها كلّ من الصحفيّة نداء عودة كيلة ابنة عم المفكّر الراحل، والمحامي والمناضل اليساري اللبناني كميل داغر، وكلّ من أصدقاء ورفاق سلامة كيلة، الكاتب اللبناني عديد نصّار والصحفي الوليد يحيى.
وافتتحت الصحفيّة نداء كيلة الحديث، بكلمة وجدانيّة أثارت مشاعر الحاضرين، استذكرت فيها مآثر الراحل الشخصيّة والقيمية، التي استطاع من خلالها التغلغل في نفوس الكثيرين والتأثير بهم، فكراً وقيّماً، تاركاً وراءه أسرة فكريّة كبيرة، عمادّها شبّان ورفاق وأصدقاء على امتداد الوطن العربي.
واعتبرت نداء، موت سلامة الجسدي، مبعثاً للحياة في أفكاره ومسيرته النضاليّة، التي تشكّل اليوم نموذجاً وحالة يُحتفى بها من قبل أسرته الفكريّة الواسعة، وكيف شكّل الراحل في موته هاجساً للعدو الصهيوني الذي رفض إدخال جثمانه إلى مسقط رأسه مدينة بيرزيت التي غادرها مُبعداً في سبعينيات القرن الفائت.
كما استذكرت نداء، محطات شخصيّة وعائليّة من حياة المفكّر الراحل، ووقوفه إلى جانبها في محطّات من حياتها مسانداً قضيّتها كامرأة، واتقّاد همّته وتفاؤله حتّى في أصعب مراحله الحياتيّة، لا سيّما عقب انتهاء فترة اعتقاله الأوّل وخروجه من سجون النظام السوري التي قضى فيها 8 سنوات، متابعاً نضاله السياسي وعطاءه الفكري والإنساني، حتّى اعتقاله الثاني وابعاده عن سوريا عام 2012.
الكلمة الثانيّة في الندوة كانت للصحفي الوليد يحيى، تحدث فيها عن ذهنيّة الراحل سلامة كيلة، التي تمثّل القطيعة التامة مع ذهنيّة النخب اليساريّة التقليدية، مبيّناً كيف كان الراحل مرجعاً لكافة رفاقه وأصدقائه في مناقشة الحدث العربي، والاستفادة من تحليلاته ذات العمق الماركسي المنهجي واستشرافه للأحداث.
وكيف كان الراحل يبدد حالة التشاؤم العقلي التي تصيب الشباب بين الفينة والأخرى تحت ضغط الواقع المتهاوي، حيث كان يعتبر أنّ التشاؤم، سمة النخب التقليديّة وخصوصاً اليساريّة، التي انحكمت ذهنيتها إلى منطق صوري شكلي، خضعت بموجبه للاستسلام والإحباط من جرّاء مفردات الواقع الذي حلّ بالثورات، وأنّ الواقع الحالي رغم سوداويّته فهو يدعوا لتفاؤل العقل لأنّ الثورات قد بدأت والناس لن تستكين حتّى تغيير النظم، وذلك وفق سيرورة ثورة لن تتوقف حتّى تحقيق التغيير الشامل والجذري.
وبيّن يحيى، كيف واجه كيلة اليسار الفلسطيني ومجمل الذهنية السياسية الفلسطينية الرسميّة وغير الرسميّة، عبر إعادة طرح وإحياء مشروع دولة فلسطين العَلمانية الديمقراطيّة الواحدة، دولة لكل مواطنيها من كافة اثنياتهم، تقوم على انقاض الحركة الصهيونية بما هي مشروع استعماري عنصري، في مواجهة لما كان يصفه بوهم حل الدولتين.
مضيفاً، أنّ الراحل قد واجه بشدّة حملات من الشتم والتخوين التي تعرّض لها من قبل كادرات اليسار الفلسطيني التقليدي، خصوصاً بعد نشر وثيقة الحركة الشعبية من أجل فلسطين دولة علمانية ديمقراطية واحدة، رغم أنّ الوثيقة تطرح بما لا يحتمل الالتباس والتأويل، إنهاء الدولة الصهيونية، أي بمعنى ما تحرير فلسطين.
وختم يحيى، باستذكار حلم سلامة وهمّته على النضال والعمل، قائلا: “حلم سلامة كان واقعاً ماديّاً يراه، لا مكان للإحباط في عقليّة وروحيّة المفكّر والمناضل دائم العمل والحركة، طالما الثمرة هي نتاج تراكم طويل، وسيرورة تاريخيّة لا ديدناً مستقيماً لها، ولا توقّفاً دائماً يصيبها، ولا تنتظر من يحاول إيقافها، بل يحتاج العبور بها إلى المنشود عملاً مؤثراً لا يتعب، ترك سلامة فينا روحيّته الثوريّة العنيدة، ولا بد من مواصلة التراكم الذي لن ينقطع برحيله المحزن”.
الكاتب العديد نصّار، تحدثّ في كلمته عن الحالة التي خلّفها الراحل كيلة، والتي دفعت الكثيرين على امتداد الوطن العربي، لتأبينه بعشرات المقالات، تحدثت عن حياته، عن مواقفه السياسية، عن معاناته في السجون، عن علاقته بالنضال الفلسطيني وانحيازه الى الانتفاضات والثورات العربية، مركزّاً في كلمته على مشروع سلامة السياسي.
واستعرض نصّار، مواجهة الراحل للأحزاب الشيوعيّة العربيّة التي اتخذت مواقفاً مناهضة لثورات الشعوب العربيّة، وكيف خاض نقاشات ومعارك، مع القوى العربية التي احتلت مواقع التغيير للفت انتباهها الى التحول الكبير في طبيعة القوى المسيطرة على السلطة في البلاد العربية من جهة، والى التطورات الكبيرة والتفاعلات التي يحبل بها القاع الاجتماعي من جهة ثانية. لكن تلك القوى استمرت تتمسح بأذيال القوى السلطوية و”تتقاطع” معها متعامية عن كل ذلك فعطلت مواقع التغيير الى أن نادى بموتها.
وأشار نصّار، إلى إعلان سلامة كيلة موت الأحزاب الشيوعية العربية من بيروت، مستبقا بذلك مؤتمرا لتلك الأحزاب دعى إليه الحزب الشيوعي اللبناني بمناسبة الذكرى السادسة والثمانين لتأسيسه، (22ت1/2010) حيث أنّ هذا المؤتمر الذي لم يقرأ أيًا من تطورات الواقع المتفجر التي كان يحبل بها القاع الاجتماعي في جميع البلدان العربية والذي تمخض عن مسلسل الانتفاضات الشعبية التي انفجرت بعد أسابيع على انعقاد ذلك المؤتمر، بينما كان الراحل سلامة يرسم طريق الانتفاضة.
أمّا ماركسيّاً، فقد بيّن نصّار، كيف كان الراحل سلامة كيلة، من بين القلة التي مارست نقدا علميا وموضوعياً، بدءاً من إعادة الأمور الى نصابها الأول: الجدل المادي. بتمثله للجدل المادي واعتباره جوهر الماركسية تمكن سلامة كيلة من تفكيك العقد التي نشأت خلال قرن من الزمن منذ وفاة كارل ماركس الى زمن تفكك الاتحاد السوفييتي. فالماركسية، عند سلامة، في جوهرها هي الجدل المادي.
كما عرّج نصّار، على مجمل أفكار الراحل سلامة كيلة وتصوّراته حول الأمّة والأممية، ودوره مع الشباب حيث لم يفوت الراحل، فرصة للقاء الشباب في اي من بلدان الوطن العربي، خاتماً حديثه بالإشارة إلى تعمّد وسائل الاعلام العربيّة التابعة للأنظمة الاستبداديّة والنفطيّة حصار سلامة كيلة اعلاميّاً ومقاطعته.
المحامي والمناضل اليساري اللبناني، تحدّث في كلمته عن سلامة المثقّف العضوي، معتبرّاً أن سلامة كيلة كان يمثّل بشكل عميق ذلك المفهوم الذي أطلقه المفكّر الإيطالي أنطونيو غرامشي، حيث كان الراحل يدعو إلى الفكرة الأساسية التي تشغل باله، فكرة الحركة الثورية الماركسية العربية، او ما سماه في أحد كتبه” الحزب الجديد”، انكب كثيرًا وبكل ما أوتي من قدرة وقوة على القراءة والكتابة. أصدر عشرات الكتب التي كان يقصد من ورائها الاضطلاع بدور تربوي وتثقيفي شامل، بما يساهم في إيصال أكبر قدر من شحنات الوعي إلى القوى الطبقية القادرة على تفجير الثورة العربية الشاملة، وإعادة توحيد المنطقة على قاعدة المنظور التحرري الاشتراكي.
وأضاف داغر: رأى سلامه في مسألة الاستبداد كما يظهر من خلال خنق انفاس شعوب المنطقة ولا سيما انفاس من يمكن اعتبارهم النخبة القادرة على التوجيه والقيادة، عائقاً جوهرياً في وجه عملية التحرر وسيرورة التغيير الثوري، معتبراً أنّ سلامة محق في هذا التحليل، واستعرض أهم ما ورد في أحد مقالات الراحل الأخيرة، قبل وفاته بأسابيع قليلة بعنوان ” مجزرة في السجن” عن السجون السورية، واعمال التعذيب والإبادة الوحشية التي ما تزال جاريّة في سجون الطاغيّة.