محمود الريماوي
لم تصدر، حتى تاريخه، مواقف عربية بخصوص المشاركة في مؤتمر دولي حاشد، تتهيأ الولايات المتحدة لتنظيمه في وارسو في 13 و14 فبراير/ شباط المقبل، باستثناء بعض التصريحات الفلسطينية، غير أن عقد هذا المؤتمر، بمبادرة أميركية، يمثل لا شك أحد أهداف جولة وزير الخارجية الأميركي، مايك بومبيو، إلى المنطقة خلال يناير/ كانون الثاني الجاري، والراجح أن المؤتمر سوف يشهد مشاركة عربية مهمة.
وبينما يحمل المؤتمر المزمع عقده عنوان “السلام والأمن في الشرق الأوسط”، إلا أن أعماله ستدور حول بناء تحالفٍ واسعٍ ضد إيران. وقد اختارت واشنطن العاصمة البولندية، بغية حشد أكبر دعم أوروبي وراء الموقف الأميركي، انطلاقاً من عاصمة أوروبية، وذلك بعد التباينات الواسعة بين الاتحاد الأوروبي وأميركا حيال الاتفاق النووي (الغربي/ الإيراني) الذي انسحبت منه واشنطن، فقد أعلن وزير الخارجية البولندي، غاسيك تشابوتوفيتش، أن بلاده، وإن كانت من الدول المؤيدة للاتفاق النووي، “إلا أن هذا لا يمنع أن الاتفاق نفسه لا يحجّم قدرة إيران على القيام بأنشطة تزعزع أمن المنطقة واستقرارها”، وقال إن المأمول من المؤتمر “أن يُحدث نوعاً من التقارب من الموقفين، الأوروبي والأميركي، بخصوص إيران”.
وقد أعلن بومبيو عن التحضير للمؤتمر، أياما بعد إعلان الرئيس دونالد ترامب قرار سحب القوات الأميركية من سورية، وتحدث في الدوحة، في 14 يناير/ كانون الثاني الجاري، عن “قمة عالمية تسعى إلى تحقيق تحالف يدفع إيران للتصرف بصورة لائقة، وستناقش قضايا الاستقرار في الشرق الأوسط، وضمان عدم وجود تأثير إيراني يزعزع الاستقرار في المنطقة”. إنها قمة عالمية إذاً. ربما لأن الأمر يتعلق بالعدد الكبير للدول المدعوة، فالوزير البولندي تشابوفيتش أعلن عن دعواتٍ وجهت إلى 70 دولة، غير أن إحدى الدول البارزة في عالمنا، وهي روسيا، أعلنت يوم 22 الجاري امتناعها عن المشاركة، لأسباب منها أن الوثيقة الختامية للمؤتمر سوف تعدّها أميركا وبولندا فقط، بمعزل عن بقية الدول، ولأن المؤتمر سيتجاهل القضية الفلسطينية، وهي لب صراعات المنطقة، ولأن الولايات المتحدة تريد أن تضفي على أجندتها الخاصة طابعا دوليا، كما صرح بذلك وزير الخارجية، سيرغي لافروف. وقد فُهم أن تركيا، وهي دولة ذات شأن في الإقليم، ليست بين الدول السبعين المدعوة. وكانت أنقرة قد رفضت العقوبات الأميركية المتصاعدة على إيران، ولن تكون متحمّسة للمشاركة في مؤتمرٍ مصممٍ لمضاعفة الضغوط على إيران. والظاهر أن أنقرة التي تحسنت علاقتها مع طهران، في غضون العامين الماضيين، عازمةٌ على مواصلة هذا الخط الذي بدأ من قبيل التكتيك، ليتحوّل شيئا فشيئا إلى خط ذي أفق استراتيجي، على الرغم مما بين البلدين من تعارضاتٍ جوهرية. ومن المستبعد خلالئذ أن تنضم الصين إلى هذا المحفل الكبير، بالنظر إلى علاقاتها الاقتصادية المتشعبة مع طهران، ولأنها غير معنيةٍ بدعم السياسة الخارجية الأميركية.
ويسترعي الانتباه أن الولايات المتحدة ماضية في سياسة العقوبات الاقتصادية والتصعيدين، الدبلوماسي والسياسي، ودفع الغير إلى مواجهة إيران، فيما هي تنسحب ميدانيا من المواجهة. كما فعلت في سورية، وبدرجة أخرى في العراق، حيث نشأت 67 مليشيا محلية، يدين معظمها بالولاء لإيران، وتضم في صفوفها عشرات الآلاف على الأقل، بينما تقلص الوجود الأميركي هناك إلى خمسة آلاف جندي.
وإلى ذلك، يأتي المؤتمر الدولي المزمع عقده حافلا بطابع رمزي، إذ يتزامن مع حلول الذكرى الأربعين لسقوط شاه إيران، ونشوء الجمهورية الإسلامية الإيرانية، كما أن اختيار وارسو مكانا لعقد المؤتمر يعيد التذكير بحلف وارسو الذي كان يضم الدول الاشتراكية بقيادة “الاتحاد السوفياتي”، وهو الحلف العسكري الذي زال بعد انهيار الأنظمة في تلك البلدان، ابتداء من مطلع تسعينيات القرن الماضي. وجريا على منح التطورات مسمياتٍ رمزية، سبق للولايات المتحدة أن أعلنت عن حلف ناتو عربي، مع تسميةٍ أخرى ذات طابع “أكاديمي”، وهي “تحالف الشرق الأوسط الاستراتيجي”، وقد صمم ذلك الحلف لمواجهة إيران أيضا. وهكذا، كلما أمعنت الولايات المتحدة في انسحابها أمام إيران زاد الإعلان عن التحالفات والمؤتمرات، علما أن سلاح المقاطعة الاقتصادية هو الأمضى، وهو الإنجاز الأساسي الذي حققته واشنطن في مواجهة التوسع الإيراني الذي يشكل بالفعل تحدّيا جسيما للمنطقة، غير أن واشنطن اختارت أسلوبا ملتويا لمواجهة إيران، إذ أدمجت هذه المواجهة بمحاولة دفع العرب إلى التطبيع مع إسرائيل، بدعوى أن الأخيرة تبذل جهدا فعالا في مواجهة طهران. والمحصلة لهذه السياسة إسدال الستار على الحقوق الفلسطينية المسلوبة، ومكافأة التوسعية الإسرائيلية بالتطبيع، في مقابل التصدّي للتوسعية الإيرانية. وثمّة من يتحدث، في الصحافة الإسرائيلية، عن أن “صفقة القرن” يراد منها تشجيع الدول العربية على التطبيع، بزعم أن هناك مبادرة أميركية جدية لإحلال السلام، وهي مبادرة سوف يرفضها الإسرائيليون والفلسطينيون، كلٌّ من منظوره ولأسبابه. ولكن واشنطن تريد استثمارها لدفع عجلة التطبيع العربي إلى الأمام، وبما يغلق الطرق عملياً لتسويةٍ حقيقيةٍ على أساس الشرعية الدولية ومبادرة السلام العربية.
ولهذا، تم تصميم “مؤتمر الأمن والسلام في الشرق الأوسط” في وارسو، لكي يحضره عرب وإسرائيليون وأوروبيون وغيرهم، وينحصر فيه الاهتمام بمواجهة التوسع الإيراني دون سواه، بدلاً من مواجهة التوسعين، الإسرائيلي والإيراني، معا، باعتبارهما يمثلان معا تحدّيا جسيما وخطيرا لأمن الشرق الأوسط وسلامه، كما ينبئ بذلك تاريخ طويل ومرير من الوقائع الحسّية التي يراها العالم كله، وتنكرها واشنطن وحدها. علماً أن انعقاد المؤتمر سوف يؤدي إلى مزيدٍ من البلورة لتكتلٍ مناهض للسياسة الأميركية تجاه إيران، ويضم في من يضم روسيا وتركيا والصين ودولا أخرى. والدرس أن المعضلات الإقليمية تحتاج إرادة دولية مشتركة لمعالجتها، تستند إلى قرارات الشرعية وأحكام القانون الدولي، وأكبر قدر من التوافق العالمي، وليس إلى المصالح فقط، أو إلى نفوذ دولة عظمى فحسب. ينطبق ذلك على التعامل مع إيران، كما على التعامل مع الدولة العبرية، وهي الوصفة الأفضل لإشاعة الأمن والسلام في الشرق الأوسط.
المصدر: العربي الجديد