د_ معتز محمد زين
في قلبي جمرة تكوي شغافه، كلما خمدت وخبت وانطفأ لهيبها نفخ عليها فم التاريخ الذي يلاحقني بوجهه المشرق مع قليل من الظلام والواقع الذي يهرب مني بوجهه الكالح مع بقع من النور، فأومضت واشتعلت من جديد.. لولاها لما كتبت حرفا واحدا ولما أشغلت نفسي في مسائل أكبر من طاقتها وامكاناتها وخارج دائرة تأثيرها.. في كل مرة أقرر فيها التوقف عن الكتابة بالشأن العام لإحساسي بعدم الجدوى، فيأتي خبر من هنا وهناك أو أقرأ كتابا أو مقالا يكشف بعضا من جوانب الهجمة التي تتعرض لها أمتنا فتشتعل تلك الجمرة وتحرق فؤادي وأتجه مجبرا إلى مكتبي وأمسك القلم.. ومباشرة يقفز إلى ذهني السؤال المزعج.. ” من يسمعك؟؟؟ ” .. أتردد كثيرا وأتوقف أحيانا.. لكنني أكتب غالبا.. لا لأنني سأغير العالم بكلمات لا يكاد صداها يصل لبضع مئات.. ولكن ربما لأفرغ الغضب من داخلي وأصرخ من خلال قلمي وأبرئ الذمة أمام ربي وأمتي وضميري.. لا يكاد يمر أسبوع دون أن أسمع أو أقرأ عن حالات اضطهاد جماعي أو فردي لمسلمين من جهات عنصرية أو حاقدة.. أفرادا أو دولا.. فالاضطهاد المنظم المعاصر لمسلمي الصين والفيليبين وبورما والهند وروسيا وأفريقيا الوسطى فضلا عن الاضطهاد المنظم في العقود السالفة لمسلمي البوسنة وكمبوديا وتركيا ودول البلقان وتركستان وفيتنام ، إضافة للاعتداءات الفردية العنصرية المتزايدة في الغرب تجاه المحجبات أو المتدينين أو حتى العرب الذين ينتمون حضاريا أو ثقافيا للشرق المسلم ، والقوانين التي تسنها دول غربية تتباهى بإتاحة هامش واسع من الحريات في بلادها ومجتمعاتها تتسع للشاذين والملحدين والعراة والمدمنين لكنها تضيق أمام المحجبات الى درجة استفزاز وزير داخلية فرنسا وغضبه المبالغ به لمجرد ظهور فتاة محجبة تتكلم عن حقوق الطلبة على شاشة التلفاز .. والخطط التي تتكشف يوميا المزيد من خباياها والتي تستهدف كل المؤسسات والتنظيمات الإسلامية السياسية منها والعسكرية والفكرية والشخصيات الإسلامية النافذة والمؤثرة بتدخل مباشر من الغرب أو عبر أدواته الكثيرة في المنطقة.. والصفقات الكبرى التي يتم التحضير لها على نطاق واسع والتي يتوقع أن تغير وجه المنطقة نحو مزيد من الانفصال عن تاريخها وثقافتها وحضارتها للالتحاق بالغرب كتابع خاضع لا كشريك مساهم. كل ذلك يدعو للانتباه والتفكير مليا بخلفيات هذه الاحداث وأسبابها الحقيقية، وأبعادها التاريخية والأيدلوجية وأهدافها السياسية والاجتماعية والاقتصادية بعيدة المدى، ونتائجها الكارثية المتوقعة في المستقبل القريب على الدول والمجتمعات الإسلامية.. كل ذلك يتطلب وقفة جدية ومسؤولة من جهة ما لتفكيك هذه الصورة وقراءتها بشكل عميق ووضع خطة بعيدة المدى أيضا لمواجهتها وتطويقها من جهة وبناء مشروع طموح يبطل مفاعيلها وينهض بالأمة المستهدفة من جهة أخرى.. ولكن على عاتق من تقع هذه المسؤولية.. إن التصدي لمثل هذه القضايا الاستراتيجية الضخمة يحتاج إلى مراكز أبحاث ومفكرين ووسائل إعلام وأدوات تأثير ضخمة ومنظمة وموجهة إضافة إلى قوة تحمي هذه المراكز وتدعم هؤلاء المفكرين وتسهل السبل أمامهم.. إنها – ببساطة – بحاجة إلى إمكانات دول لديها الاستعداد لوضع كامل قدراتها لخدمة هذه القضية المصيرية والمشروع الذي تحيا به أمة أو تموت.. من المفترض اذاً أن يتصدى لمثل هذه المهمة الكبيرة بعض من رؤساء الدول الإسلامية وأصحاب القرار فيها والذين يمتلكون القدرة على اتخاذ القرارات المصيرية بهامش مناسب من الاستقلالية، وتحريك الجيوش لحماية هذه القرارات عند الضرورة.. ولكن كيف ذلك والاضطهاد في بعض تلك الدول لا يقل عنه في الدول المذكورة أعلاه.. كيف ذلك والوقائع تثبت أن العديد من تلك الحكومات هي مجرد قيادات وظيفية تنفذ أوامر مشغليها وحماة عروشها وتعمل وفق الخطة المرسومة لها، لتنتهي صلاحيتها ويتم استبدالها بمجرد اتمام وظيفتها، أو تدميرها عندما يظهر عليها علامات صحوة الضمير وتحرك النخوة واستيقاظ الكرامة فتفكر بأخذ القرارات المصيرية بشكل مستقل وبما يخدم مستقبل بلادها ومصلحة شعوبها ونهضة أمتها.. كيف ذلك والجيوش العربية أثبتت المرة تلو الأخرى أن مهمتها الأساسية قمع شعوبها وترهيب مواطنيها وحراسة حكامها بدل الدفاع عن حدودها وحماية أوطانها وتحرير أراضيها.. كيف يمكننا أن نطلب من أصحاب القرار الاهتمام بالوضع المأساوي لمسلمي ميانمار والصين والذين يتعرضون بشكل يومي لأبشع صور التعذيب والاضطهاد والحصار في الوقت الذي يتجاهلون – وربما يشاركون في صناعة – الوضع المأساوي لأهل غزة المحاصرة عربيا واسرائيليا في آن واحد.. كيف يمكننا تحريك ضمائرهم وملامسة مشاعرهم لإنقاذ مسلمي بورما المطرودين من بيوتهم والمضطرين لعبور الأنهار على زوارق مهترئة هربا من الحرق والتقطيع في الوقت الذي يرون فيه أمام أعينهم موت السوريين من البرد والسيول في مخيمات لا تبعد عنهم سوى مسافة الشعور والاحساس والإنسانية الغائبة عن ضمائرهم، وغرقهم على زوارق الهجرة التي تحاول أن تأخذهم بعيدا عن بلاد تبلدت مشاعر حكامها وماتت فيهم النخوة التي عرفوا يوما بها.. كيف سنطالبهم برفع الصوت عاليا في وجه الغرب اعتراضا على الاعتداءات العنصرية المتزايدة في بلادهم تجاه المحجبات أو المتدينين في الوقت الذي يمارس بعضهم ذات التصرفات في قلب البلاد الإسلامية ويحاصرون كل مظاهر التدين المعتدل والايجابي عبر وسائل اعلامهم وأجهزة مخابراتهم.. إن ما تعاني منه العديد من الشعوب الإسلامية على امتداد الكرة الأرضية هو جرح عميق في جسد الأمة يقترب رويدا رويدا من عقلها وقلبها بسرعة مخيفة.. ولا يمكن للإمكانات الفردية مهما بلغت أن ترمم الجرح أو ترتق الفتق الذي يتسع يوما بعد يوم.. المطلوب هو تحرك الدول وأصحاب القرار.. ولأن هؤلاء أموات في صورة أحياء ولأن الأموات لا يسمعون ولا يتحركون ولا يتفاعلون.. تأملنا يوما بالربيع العربي كأداة لتغيير الطبقة الحاكمة الوظيفية واستبدالها بطبقة تحمل هموم أمتها وتسعى لخدمة شعوبها والدفاع عن مصالح المضطهدين في الأرض.. لكن أعداء الامة وأدواتهم نجحوا مرة أخرى في اجهاضها والالتفاف عليها وركوب موجتها إلى حين ركوبها وترويضها ومن ثم وضعها في قفص حديدي يصعب الخروج منه … لماذا؟؟ لأننا ما زلنا – كشعوب – عاجزين عن امتلاك الأدوات اللازمة معرفيا وتقنيا لقراءة الواقع والتحكم بمقدراته، وافراز قادة متميزين لديهم الإمكانات اللازمة لقيادة المراحل الصعبة وتجاوز الأزمات العاصفة ووضع الخطط الاستراتيجية المناسبة … وإن حصل ونجحت مجموعة منا – عبر جهود استثنائية وخصائص ذاتية – في تكوين نواة واعدة لمشروع طموح على مستوى الأمة كنا أول من يوجه السهام إليها وينساق مع رغبات وخطط أعدائها للقضاء عليها لأننا مخترقون ثقافيا واجتماعيا وسياسيا وحتى دينيا.. كنا وما زلنا بحاجة إلى قادة تمتلك قلوبا وعقولا حية تحركها مصالح شعوبها وهواجس أمتها وصرخات المضطهدين على امتداد الأرض.. لا إلى قادة أموات لا تتحرك إلا بأوامر مشغليها وضد مصلحة شعوبها ودون أدنى التفات لصرخات المضطهدين وآلام المعذبين.. ولأن العقود الماضية زرعت اليأس في قلوبنا من إمكانية يقظة النخوة في نفوس الطبقة الحاكمة الموجودة واتخاذها خطوات جدية في سبيل نهضة أمتها وكرامة شعوبها وصيانة حضارتها، تعلقت آمالنا في موجة الربيع العربي التي حاولت تغيير هذه الطبقة ودفنها حيث تستحق لإتاحة المجال أمام القوى الحية لاستلام دفة القيادة بما يخدم مصالح أمتها ويخفف من آلام المضطهدين على اختلاف انتماءاتهم.. أما وقد نجحت القوى المضادة للثورات بالالتفاف عليها لم يبق أمامنا سوى المحافظة على المكتسبات الموجودة – تنظيميا وفكريا وسياسيا وعسكريا – بانتظار اللحظة التاريخية المناسبة، ورفع الصوت عاليا لعله يصل إلى القادة الأموات فيحرك قلوبهم وضمائرهم.. ولكن كيف ذلك والله عز وجل يقول: ” وما أنت بمسمع من في القبور “.