محمود الوهب
لا أحد يعرف الدوافع البعيدة، بل ما هي النوايا الخبيئة التي تجعل شخصاً مثل بشار الجعفري ممثلاً لنظام الأسد في الأمم المتحدة، والذي اعتاد التغني بالسيادة الوطنية السورية، واتهام كل من يخالف النظام السوري الرأي بالعمالة للأجنبي، وتحديداً للتحالف الصهيو/أمريكي، يذهب إلى مغازلة إسرائيل العدو الأساسي لا للشعب السوري فحسب، بل لشعوب المنطقة بكاملها. ولعلها، كما يزعم قادة حزب البعث، الأشد عداء لهم ولحزبهم، ولعسكره المتربعين على السلطة في سوريا منذ عام 1963 أي منذ فشلت إسرائيل ولم تحقق هدفها الرئيس وتسقط حزب البعث ونظامه الوطني التقدمي في حزيران عام 1967 واكتفت، آنذاك، باحتلال هضبة الجولان التي لا تزيد مساحتها على ألفي كيلومتر مربع.
ولكن أليس الأولى بالجعفري أن يذكر أنَّ إسرائيل إذا كانت قد فشلت، حقاً، في إسقاط نظام البعث، فقد فشل حافظ الأسد “قائده الخالد” في استعادة الجولان في حرب 1973 “التحريرية” التي منحته لقب “بطل التشرينين”، وألزمته باتفاقية فصل القوات على الحدود السورية الإسرائيلية التي نصت في بنودها وحيثياتها على أن:
(1- تلتزم إسرائيل وسوريا بدقة بوقف إطلاق النار في البر والبحر والجو، وتمتنع عن جميع الأعمال العسكرية ضد بعضها البعض، منذ التوقيع على الوثيقة، تنفيذاً لقرار مجلس الأمن رقم 338 الصادر في 22 أكتوبر/ تشرين الأول 1973.
(2- يتم فصل القوات العسكرية لسوريا وإسرائيل برسم خطين (A) و(B) على طول الجولان، تكون المنطقة بينهما منطقة فصل ترابط فيها قوة أممية تراقب فصل القوات الموجودة وفق الخرائط المرفقة..) وفي حقيقة الأمر فقد أنهت الاتفاقية الصراع البعثي الإسرائيلي ملزمة البعث بالبند الأول، فلم يقم جيشه “الباسل” بإطلاق رصاصة واحدة على إسرائيل طوال خمسة وأربعين عاماً بينما لم تفعل إسرائيل فاستمرت طائراتها برمي المدن السورية بآلاف الأطنان من القنابل والصواريخ ودمرت الكثير من المنشآت السورية عسكرية ومدنية وقتلت من قتلت من المدنيين والعسكريين أيضاً.
وتبدو الأمور اليوم متجهة نحو استعادة رفات “كوهين” (كامل أمين ثابت) ذلك الجاسوس الإسرائيلي الذي أعدم عام 1965 في سوريا، بعد أن شكل فضيحة كبرى للبعث إذ عاش كوهين ضمن قيادته عدة سنوات كاشفاً “البير وغطاه”
وبحسب الاتفاق ذاته نفَّذ الطرفان ما نص عليه من تبادل لرفات القتلى في حرب 1973، وزاد عليه السوريون أن أعطوا رفاتاً لجندي إسرائيلي “زخاري (زكريا) بوميل” قتل بعد ذلك التاريخ بتسع سنوات في معركة السلطان يعقوب في لبنان عام 1982.. وتبدو الأمور اليوم متجهة نحو استعادة رفات “كوهين” (كامل أمين ثابت) ذلك الجاسوس الإسرائيلي الذي أعدم عام 1965 في سوريا، بعد أن شكل فضيحة كبرى للبعث إذ عاش كوهين ضمن قيادته عدة سنوات كاشفاً “البير وغطاه”.. فقد صرح السيد وليد جنبلاط منذ أيام بـ “أن دبلوماسياً روسياً (تحفظ على ذكر اسمه) كان في زيارة للمختارة (بيروت/ مقر الزعيم كمال جنبلاط) أخبره بأن الأسد أرسل رسالة إلى بنيامين نتنياهو عن طريق أصدقائه الروس بأنه ودولته لن تكون على عداوة مع إسرائيل المقصود: (حصته من سوريا إذا ما تقسّمت سوريا إذ كان النظام آيلاً للسقوط عام 2012) وردت إسرائيل بأنها تطلب استرداد رفات كوهين” (حوار مع الصحفي سلام مسافر لقناة “روسيا اليوم”/ مساء الجمعة 26/ نيسان 2019)
وفي اليوم نفسه 26 نيسان 2019 وفي اجتماع أستانة تحدث الجعفري منسجماً مع تلك الرسالة إذ نقل العداوة من إسرائيل إلى تركيا، حين راح يفاضل بين تركيا وإسرائيل، ويقلل من شأن الاحتلال الإسرائيلي للجولان، إذ قال:
“إن تركيا تحتل ستة آلاف كيلو متر من الأراضي السورية في مناطق الشمال السوري (عفرين وجرابلس وغيرهما إضافة إلى إدلب)، أي بما يعادل أربع أضعاف ما تحتله إسرائيل…!” وهنا اختلف مقياس الوطنية لدى الجعفري فبعد أن كان معياره عام 1967 بقاء النظام الوطني التقدمي أو عدمه انتقل إلى الأشبار والأمتار..! فالخطورة تأتي من حجم المساحة التي تحتلها هذه الدولة أو تلك.. فاحتلال إسرائيل للجولان “جنحة أو نصف مصيبة” ويصمت الجعفري عن دخول عشرات الألوف من المليشيات الإيرانية، وأطقم كاملة من الجيش الروسي إلى الأراضي السورية، ليقتلوا ويهدموا ويهجروا.. كما يصمت عن احتلال الجزيرة السورية كلها أي ما يسمى اليوم بمنطقة شرق الفرات التي تعادل41% من مساحة سورية إذ تبلغ 76,010 كم مربع وهي الأكثر غنى بالثروات (نفط وغاز وماء وزراعة وماشية) الجزيرة التي تحتلها الولايات المتحدة الأمريكية من خلال قوات “قسد” تلك التي ربَّاها حافظ الأسد نكاية بتركيا فكان أن وقَّع اتفاقية أضنة متنازلاً عن لواء إسكندرون معطياً الحق لتركيا نفسها أن تتبع الأكراد المسلحين الذين يشكلون خطراً على أمنها حتى عمق خمسة كيلومترات.
بل لماذا لم يتحدث عن الاتفاقيات المجحفة التي يوقعها كل من الإيرانيين والروس التي لا تراعى فيها أدنى الحقوق السورية بل هي في جوهرها احتلال مشرعن لأجزاء من الأرض السورية، بل إن عمليات التجنيس (بهدف التجانس) قد شملت عشرات الألوف من المليشيات الإيرانية وكلها مشاريع دواعش مستقبلية..! إضافة إلى منح الروس والإيرانيين أراضي شاسعة للسكن وغيره.. والاحتلال واضح وإن حدد بزمن كما في اتفاقية تأجير مرفأ طرطوس وشروطه المذلة لسوريا والسوريين التي ما عرفت في تاريخها هذا الحيف الذي ألحق باستقلالها وسيادتها الوطنية..! فالمرفأ بيع قطعي وإن حدد بزمن محدد..!
وفي هذا السياق أيضاً يمكننا قراءة ما أعلنه وزير النقل السوري “علي حمود” عن توقيع عقد استثمار ميناء طرطوس مع شركة “ستروي ترانس غاز-CTG” الروسية (يملكها تيمتشنكو المقرَّب من الرئيس الروسي بوتين إن لم يكن شريكه) لفترة 49 عاماً. وثمة عقود أخرى كـ: “معمل غاز جنوب المنطقة الوسطى (ينتج 7 ملايين متر مكعب غاز يومياً)، وآخر في توينان ينتج الآن حوالي 1.4 مليون متر مكعب غاز يومياً، بحسب تقرير لـ: “الاقتصادي” نشره موقع “المدن”. التقرير ذاته يتحدث عن دخول العقد الموقع بين “المؤسسة العامة للصناعات الكيميائية” والشركة الروسية ذاتها حيز التنفيذ في 17 من آذار (مارس) الماضي، “لاستثمار معامل شركة الأسمدة في حمص، لمدة 40 عاماً بقيمة نحو 200 مليون دولار”. ومثل ذلك العقد الموقَّع بين “المؤسسة العامة للجيولوجيا والثروة المعدنية” السورية و”الشركة الروسية ذاتها”، لاستثمار الفوسفات واستخراجه من مناجم الشرقية (2.2 مليون طن سنوياً).
أمَّا تركيا، ورغم أن هذه المقالة غير معنية بالدفاع عنها، فلا أظنها بحاجة إلى أراض جديدة، وتكفيها معاهدة “أضنة” آنفة الذكر التي وقعها خانعاً “الرفيق الخالد” مبعداً الحزب الكردي p.k.k الذي كان قد رعاه على مدى حكمه.. وتستحق تركيا الثناء من السوريين جميعاً لما قدمته من خدمات لنحو أربعة ملايين سوري، هجَّرتهم البراميل المتفجرة، وصواريخ سكود وزنازين النظام، بكل ما فيها من توحش وقذارات..! وهم اليوم يعيشون بأمن وسلام، فأبناؤهم في المدارس والجامعات، مجاناً (أكثر من ستمئة طالبة وطالب في التعليم قبل الجامعي، بينما يزيد عدد الذين يدرسون في الجامعات التركية على الثلاثين ألف طالب ثلثهم من الإناث). وشبابهم في المعامل والورش المختلفة يتبادلون الخبرات والمعارف ويبدعون في إنتاجهم، شأنهم شأن السوريين أينما حلوا، ورؤوس أموالهم تتنامى مشتغلة في ميادين الاقتصاد كافة، ولا يدفعون أتاوات لأحد فلا الأجهزة الأمنية، ولا أحد يفرض عليهم شراكات صورية ليأخذ جهدهم، ونصف أرباحهم..!
المصدر: موقع تلفزيون سوريا