بعد إطاحة بوتفليقة في الجزائر، ونظيره البشير في السودان، لا يمكن الاستهانة بحجم التحديات التي تواجه استحقاقات التغيير السياسي، في هذين البلدين الثائرين على أنظمة الاستبداد التي جثمت على كاهليهما. ينبئ السياق الثوري الخاص لكلٍ منهما، وبصورة أوليّة عن تباينات نسبية في مواجهة معاقل التسلط، التي أحكمت قبضتها على أعناق الشعبين لعقود طويلة، ودون أن تحجب تلك التباينات والصعوبات المحتملة، الانطباع العام الدافق بالأمل على ضوء نجاح إرادة الشعبين في إزاحة رئيسين من رموز الاستبداد العربي. لاسيما أن إنجاز مثل هذه الخطوة التاريخية، يعزز من مسار الثورات العربية، ويكسبها شرعية إنسانية وشعبية حاسمة، رغم محاولات الثورات المضادة، صد رياح الحرية والتغيير التي هبت على العالم العربي خلال هذا العقد. ثمة ثلاث حقائق كبرى لابد من التوقف أمامها، لفهم المدلولات الوطنية والسياسية والأخلاقية للحدثين الجزائري والسوداني:
الأولى: الدور المفصلي للشعبين في فرض أجندة التغيير، وتقديمهما نموذجين رائدين في الحراك الشعبي الواعي والمنظم، وهو الدور الذي لا يمكن اختزاله بالقوى الحزبية والنقابية الناشطة في كلا التجربتين، حيث كانت الشوارع والميادين والساحات، هي الشاهد الحي على إصرار الشعبين الاستمرار في الضغط الميداني، حتى تحقيق مطالبهما المشروعة، وفق رؤية محتاطة لشروط التغيير السلمي، في دولتين قائمتين على أدوار العسكر في تسهيل الانتقال السياسي وتعقيد خطواته في آنٍ واحد، ويبدو جلياً أن القوى الحزبية والنقابية التي تفاوض العسكر بالنيابة عن الحراك الشعبي في الجزائر، نجحت حتى الآن في تفعيل ملفات ضاغطة على رموز الفساد في الدولة العميقة، في مقابل تريثها المدروس عن فرض طلباتها دفعةً واحدة، كي تمنع تكتل كافة مراكز القوى في مواجهتها، بينما نجد في السودان حسبان دقيق من القوى المهنية والسياسية التي تمثل الثورة في المفاوضات مع المجلس العسكري، لضرورات عدم انزياح نتائج التفاوض عن سكة المطالب الشعبية، رغم أوراق القوة التي يلوّح بها المجلس العسكري، ومن أكثرها تلميحاً التهديد بورقة القمع أو الفوضى والخراب.
الثانية: الوعي الشعبي الملحوظ في كلا الثورتين، لرفض كافة أشكال التدخل الخارجي، وتحديداً عبر جهاته العربية، التي كان لها دور كارثي في تجارب الثورات العربية الأخرى. بل إن أصوات الشارعين الجزائري والتونسي، لا تنفك بالتعبير عن مخاوفهما من تكرار الأمثلة الصارخة للتدخلات الدولية والإقليمية والعربية في ثورات “سورية واليمن وليبيا”. نرى تعبيرات تلك المواقف في شعارات ولافتات يرفعها المتظاهرون في كلا البلدين، مع قدر كبير من الحذر والتبصر، بما يقطع الطريق على كافة التدخلات حتى لو حملت لبوس الصديق أو الحليف، ولذلك حتى الآن لا تخضع تلك المقاربة الشعبية، لأية مقايضة بين قبول محور ورفض آخر، أو المفاضلة بين هذا أو ذاك. بالمقابل لا تكف الأطراف الخارجية عن محاكاة المجلس العسكري في السودان بطريقة علنيّة، فيما تحاول فتح قنوات خلفية مع العسكر في الجزائر، ويبقى احتمال التدخل الخارجي قائماً، في حال لجوء العسكر إلى الاستقواء بالخارج، في حال تغير موازين القوى لغير صالح الثورة، وبروز تناقضات وخلافات بين القوى الثورية.
الثالثة: تصدّر النساء والشباب المشهد الثوري، في صورة تُعيد للأذهان الشرائح المجتمعية الطليعية التي أطلقت ربيع الثورات في العالم العربي، وهو مؤشر قوي على حيوية الثورتين السودانية والجزائرية. الجديد أيضاً في الحالتين، وجود حوامل مدنية ونقابية لها دور فاعل في تصعيد ممثلين عن تلك الشريحتين، لقيادة الحراك الثوري في البلدين، حتى أن القوى السياسية المُعارضة، تسعى إلى موائمة مواقفها وخطابها، مع مطالب وتحركات القوى النسائية والشبابية الصاعدة في البلدين، وهي مسألة تتجاوز الرقابة على مسلك القوى السياسية والنقابية التي تفاوض العسكر، إلى حدود المشاركة الفعلية في وضع قواعد التفاوض وسقف المطالب.
تلك الحقائق الثلاث التي ترسم أفق الثورتين، تشكل من منظور الرهان على المستقبل، عناوين التحدي الرئيسية، في محطات الصراع الراهنة بين قوى الحرية والتغيير وبنى الاستبداد والفساد. كلما ضخت مدلولاتها السامية والنبيلة في شرايين الحراك الشعبي المتواصل في البلدين، سيعزز ذلك من صلابة وقوة المطالب الشعبية، ومن مناخات تحققها بأقل كلفة وأكبر مردود. في غضون ذلك امتحان تلك الحقائق؛ سيتوقف دوماً على التزام النخب السياسية والمدنية في الدولتين، بمطالب وتطلعات الشعبين الثائرين فيهما، فقد علّمتنا انتكاسات الثورات العربية، أن الثورات المضادة تقتات على انحراف النخب المُعارضة عن بوصلة الثورات، وهناك يكمن التحدي الأكبر..