لم تنجح الحملات المُنظمة والتهديدات المتواصلة التي قامت بها الدوائر الصهيونية، واستهدفت مدعي عام وهيئة قضاة محكمة الجنائية الدولية “ICC” من قيام المحكمة بممارسة اختصاصها القانوني، في النظر بالطلبات المرفوعة أمامها، بخصوص الانتهاكات والجرائم التي ارتكبها الاحتلال في غزة والضفة الغربية، وإصدارها في 21 ديسمبر 2024 – خلافاً لأسوأ توقعات “إسرائيل” وحلفاؤها- مذكرةً اعتقال بحق كلاً من نتنياهو وغالانت، لمسؤوليتهما عن إعطاء التعليمات والأوامر بارتكاب جرائم حرب في غزة كالتجويع الممنهج للسكان، ومنع إدخال المساعدات الإنسانية، وارتكاب جرائم ضد الإنسانية كالقتل والاضطهاد واستهداف المدنيين في غزة والضفة.
على امتداد ما يزيد عن 400 يوم من الحرب على غزة، وما اقترفه جيش الاحتلال من مجازر الإبادة الجماعية التي بلغت 3798 مجزرة، وأسفرت عن استشهاد 43 ألفا و552 فلسطينيا بينهم أكثر من 17 ألف طفل ونحو 12 ألف امرأة، بالإضافة إلى إصابة 102 ألف و765 آخرين. ومع الفشل المُدّوي للمجتمع الدولي ومؤسساته وفي مقدمتها مجلس الأمن، في وقف جرائم الاحتلال وتوحشه المستطير الذي فاق حدود الخيال البشري، افتقد أكثر من مليوني فلسطيني في غزة، كل مقومات الحماية الإنسانية، ولم يعد لديهم ثقة بكل مرصوفة حقوق الإنسان والقانون الدولي، ولم يجدوا عوناً أو سنداً يساعدهم في كف أيادي الاحتلال الموغلة في استباحة حياتهم وكرامتهم الإنسانية. في ظل هذه المأساة القاتمة التي خيّمت على ضحايا العدوان الصهيوني طيلة الأشهر الماضية، وحالة الخذلان التي أصابت أرواحهم المكلومة، جراء تكالب منطق القوة والعربدة الصهيوني، في مقابل الصمت العربي والدولي المريع على أكبر مقتلة جماعية موثقة بالصوت والصورة، جاء قرار محكمة الجنايات بإلقاء القبض على اثنين من كبار المجرمين الصهاينة، ومهندسي صنوف تلك المقتلة وفصولها الدامية، لتبعث طاقة من الأمل كاد أن يطمرها اليأس المطلق، بصدور هذا القرار التاريخي، من هيئة قضائية دولية معتبرة، انتصرت لمنطق عدالة الضحايا على منطق التسييس الفاضح وازدواجية المعايير. وما ردود الأفعال الهيستيرية والغاضبة على قرار المحكمة من قادة كيان الإبادة وحليفة الأمريكي، إلا تأكيداً على قيمته القانونية والسياسية الكبرى، وأهميته الرمزية والعملية في إدانة وتجريم رموز الاحتلال وقادته، في ضوء ما توفر لدى المحكمة من أدلة وإثباتات دامغة على ارتكابات وانتهاكات جسيمة لقواعد ميثاق روما الناظم لعمل محكمة الجنايات الدولية، قام بها أولئك الضاربون عرض الحائط بالقوانين الدولية والقيم الإنسانية.
من الناحية القانونية
تُلزم المادة / 89/ من نظام روما الأساسي الدول الأطراف بالتعاون مع المحكمة الجنائية الدولية في تنفيذ أوامر الاعتقال الصادرة بحق نتنياهو وغالانت، وبما أن اتفاقية إنشاء المحكمة التي دخلت حيز النفاذ في العام 2002، هي اتفاقية تعاقدية حدد ميثاقها بصورة واضحة وحاسمة، الجرائم والانتهاكات التي تدخل في اختصاصها، وكيفية إثارة هذا الاختصاص وفق قواعد قانونية محددة، فإن التزام الدول المُصدقة على ميثاقها بتطبيق قراراتها القضائية، من القواعد التي لا تقبل أية تفسيرات معيارية، إذا ما فكرت دولة طرف في الاتفاقية، التهرب من التزاماتها حيال القرارات، والأحكام الصادرة عن المحكمة، ما يعني وجوباً بأن 124 دولة، وهي عدد الدول المُصدقة على ميثاق روما، من مختلف قارات العالم، ملزمة بتنفيذ مذكرة اعتقال نتنياهو وغالانت، حال تواجد أي منهما، أو تواجدهما معاً، أو حتى المرور في أراضي تلك الدول براً أوجواً أو بحراً، سواء في زيارة رسمية أو شخصية، ولا يمكن التذرع بالحصانة لمنع تنفيذ تلك المذكرة، لأن المادة /28/ من نظام روما، تنص على مسؤولية القادة العسكريين والرؤساء، مسؤولية كاملة عمّا يرتكبونه من جرائم، دون النظر إلى ما يتمتعون به من حصانات وامتيازات.
يرى كثيرون من خبراء القانون الدولي، بأن مفاعيل مذكرة الاعتقال، يمكن أن لا تقتصر فحسب على المسؤولين الإثنين المذكورين فيها، بل أنها تشرع الباب لملاحقة متهمين آخرين في المنظومة السياسية والعسكرية والأمنية الإسرائيلية، بعد أن توفرت للجهات الحقوقية المحلية والدولية، داتا حاشدة بالأدلة والإثباتات على انتهاكات جسيمة للقانون الدولي، قام بها مسؤولي وأفراد تلك المنظومة في غزة والضفة الغربية، وبأن انضمام دولة فلسطين إلى ميثاق روما، يلعب دوراً مهماً في إزالة العوائق الي تحول دون إثارة قضايا المساءلة والملاحقة بحق أولئك المتورطين كافة، في ارتكاب جرائم حرب وجرائم إبادة جماعية وجرائم ضد الإنسانية.
من مستوى لا يقل أهمية، فإن توصيف المحكمة للصراع الفلسطيني – الإسرائيلي على أنه نزاع دولي مسلح، يؤكد على طبيعة الكيان القانوني للطرف الفلسطيني، وهذا بحد ذاته مكسب سيادي وتمثيلي، يؤكد الاعتراف الدولي بالشخصية القانونية لفلسطين، وهو بمثابة رد قوي على محاولات الطرف الصهيوني إنهاء وتقويض مقومات الدولة الفلسطينية المستقلة، وأكبر دليل على ذلك سعار الاستيطان والضم التدريجي الذي ابتلع ما يقارب ثلثي الضفة الغربية.
من بين الآثار القانونية لهذا القرار أيضاً، أنه يسهم في إسقاط الذرائع التي يرفعها ممثلو دولة الاحتلال في مؤسسات المجتمع الدولي، ومن أشهر تلك الذرائع سيئة الصيت، ادعاؤهم المتكرر في كافة المحافل الدولية، بأن ترسانة جيشهم وأجهزتهم الأمنية، “يدافعون عن كيانهم بموجب حق الدفاع عن النفس من الخطر الفلسطيني الذي تمثله مقاومة الشعب الفلسطيني”، ولطالما استخدموا هذه الذريعة وما يندرج في حيثياتها، لارتكاب المجازر والمذابح وأبشع أساليب القتل والحصار والتجويع والاعتقال بحق المجتمع الفلسطيني، وبالتالي فإن مذكرة الاعتقال بحق قادتهم الأكثر مسؤولية عن ارتكاب تلك الجرائم والانتهاكات الفظيعة، تشكل لطمة قانونية للسردية المُخادعة التي يسعون من خلالها إلى تضليل الرأي العام العالمي.
من الناحية السياسية
في الوقت الذي تتمادى فيه الغطرسة والعنجهية الصهيونية، بعد أن منح الدعم الأمريكي والغربي للكيان الإبادي، الغطاء السياسي الكامل لما يمكن وصفه بالاستثناء الصهيوني الصارخ، يأتي قرار المحكمة، كفضيحة مدويّة في وجه داعمي الكيان، ومزوديه بكافة أسلحة الإبادة والترويع التي تستهدف الفلسطينيين، ولذلك فقد حشر القرار العديد من الحكومات الغربية في زاوية نفاقها ومعاييرها المزدوجة، فلجأ بعضها من باب حفظ ماء الوجه لعدم معارضة هذا القرار، تحرجاً من مواقفها اللاأخلاقية الداعمة لأسوأ احتلال عرفه التاريخ البشري الحديث، فيما أصر بعضها الآخر على التمسك بمواقفه المشينة على طول الخط، كمواقف الولايات المتحدة من العدوان على غزة، وأعلنت هذه الدول رفضها التعاون مع المحكمة رغم تصديق بعضها على ميثاق روما. فيما أظهرت مواقف غالبية دول العالم، دعمها لهذا القرار واستعدادها التعاون مع المحكمة، ورأت فيه جهداً يتسق والقرار الاحترازي الذي سبق وصدر عن محكمة العدل الدولية في شهر كانون الثاني / يناير 2024، والذي طالب الاحتلال باتخاذ “تدابير مؤقتة ” لمنع جريمة الإبادة الجماعية في غزة والتحريض المباشر عليها.
رغم سجل الاحتلال الحافل بضرب قرارات الشرعية الدولية عرض الحائط، وتحدي المنظومة الدولية بشقيها السياسي والقضائي، وهذا ما بات يشكل عامل إحباط لدى الفلسطينيين ضحايا النكبات المتتالية على يد هذا الاحتلال الأشر، غير أن ذلك لا يقلل من التداعيات السياسية لهذا القرار، لجهة انكشاف صورة الاحتلال الصهيوني الفاشي، كما لم يحدث من تأسيسه الجائر وغير المشروع على أرض فلسطين. ونشهد اليوم تغيراً نوعياً في الرأي العام العالمي، واتساع حراكه المناصر للحق الفلسطيني، حتى ضمن المجتمعات التي تعتبر حكوماتها صديقة لكيان الاحتلال، ومن شأن هذا القرار أن يدعم الرواية الفلسطينية، على طريق إنصاف ضحايا الإجرام الصهيوني من أبناء غزة والضفة الغربية وكل فلسطين. يبدو أنه طريق طويل وشائك، بسبب القوى الدولية الراعية لنهج العدوان الصهيوني، وبسبب تخلي الحكام والحكومات العربية عن قضية الشعب الفلسطيني، والمشهد الكارثي في غزة أسطع مثال على اختلال النظام الدولي والإقليمي، وتغول شريعة الغاب، على حساب شرعة حقوق الإنسان. مع كل ذلك يعتبر القرار خطوة في غاية الأهمية، لما له من تداعيات سياسية على الأمدين القريب والبعيد، فبعيد صدوره بساعات تتالت البيانات الصادرة عن دول كثيرة، أعلنت التزامها بتنفيذ المتطلبات القانونية والإجرائية لمذكرة القبض، ومن بينها دول كان قادة حكومة الاحتلال يصولون ويجولون فيها، بحيث أصبحت مغلقة في وجوهم، بل مناطق خطرة إذا ما فكروا بالسفر إليها.
في حين أثارت مذكرة الاعتقال مطالبات واسعة في الشارع الأوروبي على وجه التحديد، حول ضرورة وقف دعم الحكومات الغربية لدولة الاحتلال، وضرورة محاسبة قادته ومسؤوليه عن جرائمهم المشهودة في غزة والضفة. من المتوقع أن تسهم المذكرة في تنامي حركات الاحتجاج ومقاطعة حكومة الكيان ومنتجات مستوطناته، ولا بد أن تطرح تلك الحقائق الجديدة على أنظمة التطبيع العربية شكوك مشروعة وانتقادات كبيرة حول مبررات استمرار علاقاتها مع الكيان الإبادي، في الوقت الذي تتخذ عديد الحكومات والشعوب الأجنبية، مواقف تصعيدية ضد قادته ومؤسساته ومستوطنيه، ما سيضاعف في حال إصرار الأنظمة على تطبيعها المشين مع قاتل أطفال ونساء فلسطين، في تعرية مواقفها المخزية، وتراكم غضب الشعوب العربية من حكامها المتخاذلين. يبقى أن هذا القرار القضائي الذي سيفتح مسار التقاضي بحق هؤلاء المجرمين والقتلة، من الحقائق التي ستقض مضاجع كل المستبدين وفي مقدمتهم بشار الأسد، طالما أن يد العدالة امتدت إلى الرؤوس التي كانوا يستمدون منها الحماية والبقاء.