جمال الشوفي
في دورته الرئاسية الأولى كان أمام دونالد ترمب، الرئيس الأميركي القادم من عالم المال ومراهنات حلبات المصارعة حينها، ملفات محدودة موضعياً للتعامل معها تتعلق ببدايات التقدم الروسي والتمدد الإيراني في الشرق الأوسط. في حين هو اليوم في دورته الثانية أمام العديد من الملفات العالمية المتعددة إحداها ملفات الشرق الأوسط المعقدة، سواء بالتوسع الإسرائيلي في لبنان أو المسألة السورية بذاتها وإمكانية تحولها لساحة حرب إسرائيلية أخرى، مقابل الموقف الإيراني منه. وملف الحرب الروسية على أوكرانيا والموقف الأوروبي وحلف الناتو منها، وأي من هذه الملفات يمكنها أن تفجر حرب واسعة تختبر الحضور الأميركي على الساحة الدولية. فهل سيتابع ترمب سياسته السابقة بالاعتماد على إدارة كفة المراهنات وعقد الصفقات المالية والسياسية وكسب جولاتها بدعم الأذرع التي يراهن عليها في كل موقعة من دون أن تتدخل الوليات المتحدة مباشرة فيها؟ أم ثمة ما يجبر أميركا على التدخل المباشر في الأحداث العالمية وتصبح لاعباً رئيسياً فيها؟
السياسة الخارجية الأميركية الآونة الأخيرة:
في السنوات الماضية، تباينت التوجهات الأميركية بين صناع سياساتها الخارجية بين إدارة أوباما المكتفية بالانسحاب من مواقع الصراع العالمي تدريجياً والعمل على إدارة مشكلاتها بالتغاضي والاكتفاء بالتنديد اللفظي، ما سمح للتمدد الإيراني بالشرق الأوسط بشكل واسع، في حين استفادت روسيا البوتينية من الفراغ الأميركي هذا وعملت على تعزيز حضورها العالمي من خلال نظرياتها الجيوبوليتيكية من البوابة السورية والوصول للمياه الدافئة على البحر المتوسط. وقد أتت إدارة ترمب الأولى لتواجه التراجع الأميركي بعهد سابقه، في حين أن خلفية رجل الأعمال والمراهنات طغت على تلك المرحلة من خلال إحداث التغييرات الجزئية في مواقع عدة إقليمية وجني مكاسبها الاقتصادية والمالية، واستعادة الحضور السياسي الأميركي النسبي. فمرة يعلن انسحابه من سوريا ما يغير معادلات شرق الفرات ويكسب في الملف التركي ويعود عنه سريعاً، أو يعترف بندية بوتين في إدارة شؤون العالم في قمة هليسينكي عام 2018، في حين يعطل كل حلولها بالاستفراد بالملف السوري وإبطال طموح بوتين بتشكيل قطب عالمي منفرد بموازاة أميركا، ويمارس الابتزاز المالي لدول أوروبا والخليج العربي دعماً للناتو مقابل روسيا… من دون أن تحدث هذه السياسات تغييراً جوهرياً في الحضور الأميركي العالمي، سوى تثبيت حضورها على الساحة العالمية وتفادي الصدام العالمي المباشر وعدم تأجيجه. وقد شهدت إدارة بايدن سياسات الفلترة للملفات العالمية من خلال سياسات خطوة مقابل خطوة. سواء كان ذلك في الملف السوري أو الملف الإيراني أو حتى بإدارة الملف الأوكراني، الأمر الذي عقد مجمل الملفات العالية وتركها عرضة للاستنزاف المتتالي. واليوم تعود إدارة ترمب الجديدة وأمامها سلسلة متداخلة من الملفات العالمية جميعها تشير إلى تعقيد المشهد العالمي وزيادة إنذاراته الخطرة بحروب واسعة عسكرية مباشرة أو اقتصادية غير مباشرة تهدد السلم العالمي بخلاصتها.
التحديات الجيوبوليتيكية والتقنية العالمية:
أمام صناع السياسة العالمية، والأميركية وإدارة ترمب من خلفها، اليوم جملة من التحديات الاقتصادية كما السياسية جيوبوليتيكاً وتقنياً وعسكرياً يبرز أهمها:
- ملفات الطاقة العالمية المتمثلة بإنتاج البترول والغاز، خاصة المكتشف منه في البحر المتوسط، وتحدياته سواء على مستويات الصراع في الشرق الأوسط الذي تدير كفته إسرائيل، أو على مستوى تحكم روسيا في حنفية الغاز المورد لأوروبا، هذا فيما تستمر مراكز الأبحاث العالمية البحث عن إنتاج بدائل الطاقة العالمية، وهذه بوابة صراع عالمي تتركز مفاعيلها في الشرق الأوسط وقلب أوروبا وتنعكس على الكوكب برمته.
- مؤشرات أزمة مالية عالمية تتصاعد حيثياتها بارتفاع أسعار الذهب العالمية وزيادة الطلب عليه، مع زيادة متتالية في أسعار المواد الغذائية، ما يشير لتكثف الأزمة العالمية على مستوى الاقتصاد والبحث عن طرق حلها والاستثمار فيها. فإن كانت حدتها تظهر بأوروبا والشرق الأوسط بشكل خاص لكنها تذكر بما حدث إبان الحرب العالمية الثانية واستفادة أميركا من الهيمنة على ثلثي الذهب العالمي مقابل حاجة أوروبا لقوتها العسكرية في مواجهة ألمانيا، واليوم يشبه الأمس مع روسيا النووية!
- التوسع الإسرائيلي التدريجي في توسيع دوائر حربها في الشرق الأوسط وتحجيم الدور الإيراني فيه، والمتداخلة مع الوجود الروسي في سوريا، وبموازاتها تأجيج الدفاع الأوروبي لأوكرانيا وتزويدها بأسلحة بعيدة المدى تهدد قلب روسيا، وبالضرورة إلزام أميركا بالدخول في أتونها في كلا الموقعين، إن لم يكن لحسمها وفق خارطة مصالح شركائها فسيكون لإدارة ملفاتها العسكرية والاقتصادية، مع سياسة حبس الأنفاس من أية مواجهة عالمية كبرى تكون أميركا طرفاً بها. فيما عين صناع السياسة الأميركية على تحالف المياه البعيدة المسمى بالجيوبوليتكيا البحرية التي تسعى إلى تطويق الخطر الصيني حسب مراكز دراستها فيما أسموها المواجهة التي لا يتخيلها عقل! وتفادي الصدام الحاد والشامل مع روسيا أو إيران والاكتفاء بإدارتها عن بعد! فهل تعيد ذات الكرة التي فعلتها إبان الحرب العالمية الثانية، حين اكتفت بمواجهة اليابان، الخطر الأكبر عليها، مع عقد صفقات الحماية والتحكم سواء مع الناتو في أوروبا أو دول الخليج العربي في الشرق الأوسط بموجهات عسكرية محدودة تقود لحسم صراعاته بالتسويات السياسية، حسبما صرح ترمب قبل أن تطأ قدمه البيت الأبيض؟ وتصبح المسألة السورية ومن خلفها العراق على قائمة هذه الأهداف القريبة للسياسة الخارجية الأميركية.
- هذا ولم نتكلم عن فورات الذكاء الصناعي وآثاره المرتقبة على البشرية اقتصادياً وسياسياً وحتى عسكرياً، سوى أن المنطقة لمست وشاهدت بقوة معنى التفوق التقني بالكيفية التي أنهت بها إسرائيل حزب الله في زمن قياسي وذلك مقارنة بحرب العام 2006 مثلاً، أو بعطالة التقدم الروسي في أوكرانيا لضعفها التقني واعتمادها نموذج الحرب الكلاسيكية رغم استمرار تهديداتها بالقوة النووية. طبعاً وهذا الحديث عن التطور التقني وأثره في الحالة السورية يبدو نافلاً في عالمنا الموبوء، فعن أي تكنولوجيا نتحدث والسوريون بلا وقود تدفئة أو مواد استهلاكية أو حتى شبهة حياة أو حلول سياسية لمعضلاتنا وكوارثنا التي نعيشها وسلطة دمشق تمارس دورها بإغراق سوريا في قيعان التراجع التاريخي للعصور الحجرية، وتدعي الحداثة والعصرنة، ويا لغرابة المشهد وفجور السياسة!
هل ثمة مفاجئات عالمية قادمة:
وحيث لا يمكن تناول أي من هذه التقاط جميعاً في مقال واحد، فكل منها تشكل مجالاً واسعاً للدراسة والبحث والتحليل، لكنها جميعاً مرتبطة بشكل وثيق بالولايات المتحدة الأميركية وإدارة ترمب القادمة وتحديات منظومة العولمة وقواعد هيمنتها العالمية أمام حدة الصعود الجيوبوليتيكي الروسي لواجهة الصدارة العالمية واستنفار أوروبا بكاملها أمامها، مقابل تهديدات بوتين المتتالية بالزر النووي وعقده اتفاقية الدفاع المشتركة مع كوريا الشمالية المرعبة نووياً. أضف للتطور التقني الذي يشهده العالمي بشكل مفرط السنوات الأخيرة والدور الصيني في هذا المضمار. والسؤال المطروح على صناع السياسة العالمية والأميركية: إذا ما كانت القنبلة النووية المستخدمة ضد اليابان في الحرب العالمية الثانية كانت المفاجئة المذهلة التي حسمتها، فهل ثمة ما هو تقني وحديث يفاجئ العالم بتفوقه المطلق مختلف عن الزر النووي وينهي التداعيات العالمية للحروب المتعددة على سطح الكرة الأرضية، ويفتح المجال لعالم بلا حروب بعدها؟ أم مازال مبكراً الحديث عن هذا النوع من المفاجئات، فطبول الحرب العالمية تقرع والراقصون على وقعها يستعدون لأعتى المواجهات الممكنة؟ وهذا ما سيحدثنا عنه ترمب بوضوح قريباً..
المصدر: تلفزيون سوريا